fbpx

وأخيراً… سقطت أنغيلا ميركل!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لقد قالت ميركل حين أعلنت قرارها أنّه “حان الوقت لفتح صفحة جديدة”. ربّما. لكنّ الصفحة الجديدة التي ستُفتح ستكون بالتأكيد من ثمار الانتصار الشعبويّ على ميركل التي يكفيها اعتزازاً أنّها ظلّت، حتّى اللحظة الأخيرة، تحاول التصدّي لهجمته العاتية والكريهة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تكن أنغيلا ميركل “سيّدة حديديّة” كالبريطانيّة مارغريت ثاتشر. لكنّها لم تكن “سيّدة حريريّة” تسهّل على الذكوريّين، الذين يرفضون تولّي النساء لمواقع السلطة، مهمّتهم.

ميركل كانت نموذج القائد/ القائدة في مجتمع ديمقراطيّ حديث. أبوها كاهن لوثريّ، وهي ترعرعت في الريف الألمانيّ الشرقيّ على بُعد 90 كيلومتراً شرق برلين. أحد أجدادها كان بولنديّاً، ما جعلها تصف نفسها بـ “ربع بولنديّة”. عاشت زمن التوتاليتاريّة الشيوعيّة في ألمانيا الشرقيّة واضطُرّت، من قبيل التقيّة ولأهداف الدراسة والعمل، أن تنتسب إلى الحزب الشيوعيّ، لكنْ حين طلب منها “شتازي” أن “تتعاون” بالتجسّس على زملائها وجدت طريقتها اللبقة في التنصّل. هذا الخليط الدينيّ – الريفيّ، وذاك التحدّر الألمانيّ – البولنديّ، تضامنا مع العداء للتوتاليتاريّة الشيوعيّة فكانت الحصيلة تلك السيّدة التي قرّبها المستشار الراحل هيلموت كول: إصرار على الأوروبيّة الديمقراطيّة ومحافظة اجتماعيّة وسياسات ليبراليّة في ما خصّ الهجرة.

لقد أثارت تجربتها الطويلة في الحكم، إذ حكمت كمستشارة منذ 2005، وغالباً عبر ائتلاف مع “الاشتراكيّين الديمقراطيّين”، انتقادات كثيرة: أُخذت عليها مواقف اقتصاديّة كانت تجنح أحياناً إلى النيوليبراليّة، كما أُخذت عليها “قسوة الجُباة” في العلاقة مع الدَين اليونانيّ. لكنّ ميركل تمكّنت من أن تغدو زعيمة أوروبا الديمقراطيّة ومشروعها، و”زعيمة العالم الحرّ”، والحصن المنيع في مواجهة “شعبويّة الشرق”، أي فلاديمير بوتين، و”شعبويّة الغرب”، أي دونالد ترامب. تمسّكها بأكثر المواقف أخلاقيّة وإنسانيّة في قضيّة النزوح والهجرة لم يمنعها من التشدّد حيال قادة شعبويّين، كرجب طيّب إردوغان الذي حاول ابتزاز أوروبا بكونه ابن مجتمع مسلم فقير.

لقد أعلنت ميركل مؤخّراً أنّها ستتخلّى عن قيادة حزبها “المسيحيّ الديمقراطيّ” في كانون الأوّل (ديسمبر) المقبل، حين ينعقد مؤتمره العامّ، وأنّها ستتقاعد كلّيّاً في 2021 ولن تترشّح في انتخابات تلك السنة.

وقد يقال إنّ 13 سنة في المستشاريّة أكثر من كافية. لكنّ ظروف المغادرة هي التي تؤلم.

فقبل إعلانها التاريخيّ بيومين، أجريت انتخابات في ولاية هِسّي، في وسط البلاد، أسفرت عن هزيمة لحزبها وللاشتراكيّين الديمقراطيّين، المؤتلفين معه. الحزبان الرئيسان تراجعا بنسبة 10 بالمئة عمّا كاناه. “المسيحيّ الديمقراطيّ” تحديداً حصد أسوأ نتيجة يحصدها منذ 1966.

 

ميركل تمكّنت من أن تغدو زعيمة أوروبا الديمقراطيّة ومشروعها، و”زعيمة العالم الحرّ”، والحصن المنيع في مواجهة “شعبويّة الشرق”، أي فلاديمير بوتين، و”شعبويّة الغرب”، أي دونالد ترامب. تمسّكها بأكثر المواقف أخلاقيّة وإنسانيّة في قضيّة النزوح والهجرة لم يمنعها من التشدّد حيال قادة شعبويّين، كرجب طيّب إردوغان

 

لقد كانت تلك الانتخابات الفرعيّة قفزة كبرى للأحزاب الصغرى في مواجهة “أحزاب المؤسّسة”. حزب “البديل” الشعبويّ والعنصريّ، وكذلك “الخضر”، تقدّما. تقدّمهما هذا أكّد أنّ موجة تأييدهما التي ظهرت في انتخابات 2017 العامّة ليست مرشّحة للتبديد. للتذكير، فتلك الانتخابات الأخيرة سجّلت تراجعاً بنسبة 9 بالمئة للمسيحيّين الديمقراطيّين وحلفائهم البافاريّين في “الاتّحاد الاجتماعيّ المسيحيّ”.

في تلك الغضون، راحت تتوالى الانتقادات لميركل بسبب سياسات الهجرة. الحزب البافاريّ الحليف كان الأشرس في النقد، بعد “البديل” طبعاً. لكنّ حزبها نفسه راحت تتعالى فيه الأصوات الناقدة. تلك الأصوات جعلت تلحّ على ضرورة الانزياح يميناً، لكنّ ميركل آثرت معاكستها والسعي لإقامة ائتلاف “جامايكا” الذي يجمع حزبها إلى الاشتراكيّين الديمقراطيّين والخضر والحزب الليبراليّ. وبما أنّ الليبراليّين قاطعوا الحوار لتشكيل هذا الائتلاف الجديد، بُعث من جديد “الائتلاف الكبير” مع الاشتراكيّين الديمقراطيّين، والذي لم يكن الحزبان، المتراجعان انتخابيّاً، متحمّسين له.

وبين انتخابات 2017 العامّة وانتخابات ولاية هِسّي تلاحقت جملة من الانتخابات الفرعيّة التي تراجع فيها الحزبان الرئيسان، وتقدّم فيها “الخضر” و”البديل”، لا سيّما في مناطق الشرق بالنسبة إلى الحزب الثاني. الأعنف بين تلك الانتخابات كان ما حصل في الجنوب، في بافاريا، قبل أقلّ من ثلاثة أسابيع: ذاك أنّ “الاتّحاد المسيحيّ الاجتماعيّ”، حليف المسيحيّين الديمقراطيّين، خسر أكثريّته المطلقة في برلمان الولاية والتي سيطر عليها منذ 1957. حصل هذا رغم أنّ “الاتّحاد”، في محاولته قطع الطريق على “البديل”، أو في توهّمه ذلك، فرض وضع الصلبان في مداخل المباني الرسميّة جميعها، ودافع عن قراره هذا بالقول إنّ المقصود بالصليب ليس الرمز الدينيّ بل “الإعلان الصريح عن هويّتنا البافاريّة وقيمنا المسيحيّة”. المحاولة باءت بالفشل ولم يكسب من التنازلات المقدّمة لأقصى اليمين إلاّ أقصى اليمين نفسه.

في موازاة هذه الدراما الألمانيّة كانت النمسا تتكشّف عن دراما أخرى أكثر حدّة وخطورة. فقد تولّى قيادة “حزب الشعب”، أي الحزب المسيحيّ الديمقراطيّ، قائد تيّاره المتطرّف سيباستيان كورتز، وتمكّن من أن يقيم ائتلافاً حاكماً مع “حزب الحرّيّة” اليمينيّ المتطرّف. أثر ذلك كان كبيراً على ألمانيا: إذاً: لماذا لا ينشأ ائتلاف مشابه بيننا وبين “البديل”، كما قال ضمناً نقّاد ميركل داخل حزبها والحزب البافاريّ؟

واليوم هناك مرشّحان من هؤلاء النقّاد من أصل ثلاثة قد يرث أحدهم ميركل في قيادة الحزب: فريدريتش ميرتز، خصمها القديم، وجِنْس سبان، وزير الصحّة الحاليّ الشديد المعارضة لسياسة الهجرة المتّبعة. فإذا فاز أيّ منهما في الانتخابات الحزبيّة، أواخر هذه السنة، صار من المشكوك فيه أن تستطيع ميركل البقاء في المستشاريّة حتّى 2021. ذاك أنّ حزبها، والحال هذه، سيكون أكثر من يثيرون في وجهها المتاعب.

لقد قالت ميركل حين أعلنت قرارها أنّه “حان الوقت لفتح صفحة جديدة”. ربّما. لكنّ الصفحة الجديدة التي ستُفتح ستكون بالتأكيد من ثمار الانتصار الشعبويّ على ميركل التي يكفيها اعتزازاً أنّها ظلّت، حتّى اللحظة الأخيرة، تحاول التصدّي لهجمته العاتية والكريهة.

 

إقرأ أيضاً:

مقتل خاشقجي وعصرية الأنظمة

هذا الكون السائب