للمرة الأولى أستطيع الكتابة عن سوريا والنظام من دون خوف من تقرير أو نشرة سياسيّة. بدأت الثورة وأنا في الخامسة عشرة من عمري، اليوم وبعد 14 عاماً أيقظ سقوط الأسد داخلي كماً من القهر كنتُ أتجاهله وأُسكِتهُ لسنوات عدة.
في السنوات الأولى للثورة، كان الوضع إلى حدٍّ ما غير مفهوم، وكنتُ أسمع ما حصل في التظاهرات من أصدقائي، وأعرف من قُتِل ومن اختُطف أيضاً، بسبب الخوف الكبير في بيتنا من أن نضع قناة “أورينت” التي كانت تنقل ما تشهده سوريا.
لاحظت لاحقاً انتشار الحواجز في دمشق وريفها، ثم أقيم حاجز بين منزلي ومدرستي، فتحوّلت رحلة الخمس دقائق في السيّارة إلى ساعة ونصف الساعة أحياناً، بسبب خضوع كلّ سيارة وكل الهويّات للتفتيش. آنذاك، كنتُ أسمع أغاني سميح شقير وأناشيد السّاروت خلسةً عبر سمّاعات هاتفي وأنا على الحاجز، فأشعر بالانتصار.
فقدان مقومات الحياة
مع الوقت بدأ النظام حرب تضييق على السوريين، كانت أشبه بعقاب جماعي، فلا ماء ولا غاز ولا محروقات للتدفئة ولا كهرباء. تجاوزتُ الثانوية العامة وأنا أدرسُ على ضوء الشمعة، خصوصاً أن مكان سكني وأسرتي في ريف دمشق مغضوبٌ عليه، حيث الغالبية من السنّة وخرجوا في تظاهرات ضد النظام، الذي قرر عقاب الجميع.
هزّ سقوط الأسد كيان السوريين، وشعرتُ شخصياً بأن تسع سنوات خارج سوريا ذهبت سدى، سنوات أمضيتها عاجزةً عن إكمال تعليمي، وأعمل في مجالات لا تمتُّ الى دراستي بصلة، فقط لأستطيع دفع إيجار منزلي وفواتيري، تسع سنوات من أزمات مستمرّة وتشرّد وشتات، تسع سنوات من الذل والقهر والتعب والإقصاء، تسع سنوات كنتُ فيها عالقة في بيروت بسبب اتفاق النظام السوري مع نظيره اللبناني على ذلّ أي شخص سوري وكسره.
بيروت التي انسلختُ فيها عن سوريتي!
وللنجاة، اضطررت في بيروت الى التحدّث بلهجة لبنانيّة مع من لا يعرفني كي لا يتم استهدافي أو استضعافي ، وكثرٌ ممن أعرفهم اتّبعوا الأسلوب ذاته، وفي حديثٍ مع أصدقاء لي في بيروت قالوا: “تواجهين العُنصرية إي إحكي لبناني!”.
كانت إجابتي أنّ هناك حقاً مشكلة هائلة في أن اضطر لتغيير لهجتي فقط لأنّ العنصريّة طبيعيّة، والعنصريّة كانت مربوطة بدخول النظام السوري إلى لبنان في الحرب الأهليّة وفظاعة ما ارتكبه الجيش السوري حينها. أما نحن الهاربين، فلا دور لنا، وليس من المفترض أن نحمل خطايا النظام وأزلامه. وإلى اليوم لا أستطيع التصديق بأن من اختبر في لبنان الظلم، لم يفهم سبب فرار السوريين.
كانت سوريا سجناً كبيراً، القضبان على نوافذ الحافلات والمدارس والمستشفيات، موجودة فقط لتُذكّرك بأنّك محاصرٌ دائماً. الكثيرون من غير السوريين صُدِموا بالسجون وكمّ الوحشيّة التي مورست بها يوميّاً، الكثيرون لم يُصدّقو أنه بالنسبة الى الشعب السوري كان الحصول على ربطة خبزٍ يُعدُّ حلماً، وأن الظلام لم يقتصر فقط على ظلام الزنزانة، إذ إن ساعة واحدة من الكهرباء كانت تصله في الـ24 ساعة، وأن شوارع العاصمة ليلاً غرقت في عتمة مُخيفة.
كلُّ سوريّ عرفتهُ في بيروت، هرب لسببٍ مختلف، لكنّ الأسباب باختلافها تنتجُ من شيءٍ واحد وهو الخوف، كلُّ الأسباب مُحقّة وكلُّ سوريّ في لبنان أو في بلادٍ أُخرى على حدٍّ سواء، لم يختر اللجوء طوعاً إنّما حاول بطاقتهِ أن يبقى إلى أنّ ضاقت بهِ السُّبل ووجد نفسهُ في أوّل قارب/طائرة/سيّارة يبتعدُ من هذا السجن الكبير ويقصدُ المجهول أملاً بمُستقبل أفضل.
كانت سوريا سجناً كبيراً، القضبان على نوافذ الحافلات والمدارس والمستشفيات، موجودة فقط لتُذكّرك بأنّك محاصرٌ دائماً.
لعنة أن تكون سوريّ!
في عهد الأسد، لم يكُن هناك أمر إيجابيّ واحد لكونك سوريّاً، عدا عن القتل والقصف والمجازر والاعتقال والتعذيب، كان الواحد منا محكوماً بموت بطيء بصورة يوميّة، كونه ينتمي إلى هذا البلد، إذ اقتلع الوطن من السوريّ وتحول إلى رهينة، تحتاجُ إلى أن تنصاع إلى الأوامر والتعليمات لكي تُبصر نور اليوم التالي.
سوريا كانت تعني أن من يمتلكون رتبة عسكرية يستطيعون أن يدوسوا رأسك ويلفقوا لك تُهماً بكتابة تقرير كاذب. سوريا كانت تعني أن تذهب إلى سفارة بلادك وتتعرّض للتحقير والإهانة من موظفيها، أن تدفع مبالغ طائلة لتصديق أوراق أو استخراج جواز سفر، أن تتعرّض للتحقيق من الموظفين لأقلّ سبب ممكن.
أنهكنا الخوف والذل، ولم تعد لدى الكثيرين القدرة على التمرّد أو قول لا، كلٌّ نهارٍ في حياة السوريّ مقسّم إلى الحصول على أساسيّات وبديهيّات المعيشة من الخبز إلى إمكانية الاستحمام بماءٍ دافئ في الصباح.
سوريين الشتات، أصبحت أولويّتهم الحصول على إقامات وتأمين أعمال حتى لو كانت لا تمتُّ الى اختصاصهم بصلة، فقط ليستطيعوا دفع الإيجار في بلاد اللجوء، وإرسال ما تبقّى لأهلهم العالقين.
بعد هذا كله سقط الأسد، لكن بقي ألمنا وقهرنا، وكبر خوفنا من تكرار سيناريوهات البلاد العربيّة الأُخرى ما بعد الثورات. اليوم نحن في حيرة، هل نترك كل ما أنجزناه في بلاد اللجوء ونعود لنبني حياتنا من الصفر؟ هل هو سهلٌ أن تبدأ من الصفر آلاف المرّات؟ أما بلاد اللجوء الآن فلن تفهم لماذا لن يرغب أيّ سوري في العودة، لأنّ لا أحد يفهم تجربتنا.
فرار الأسد إلى روسيا لم يُعط أحداً خاتمة، القصة لا تزال مفتوحة، ترك وراءه أمهات تبحثن في الأوراق المتناثرة على أرضيّة السجون عن معلومة عن أولادهن وأزواجهن المختفين قسرياً، ترك وراءه أسئلة كثيرة بلا أي إجابات، ترك وراءه أناساً يسألون أنفسهم: لماذا حصل هذا كله وهل كنّا نستحقه؟
في المنفى الجديد!
أُعلّقُ في بلدٍ جديد بعض الصور على الحائط، طقسٌ أُمارسه لكي أشعر بأن المكان مألوفٌ قليلاً، مع علمي التام بأنّ هذا المنزل ليس لي، وبأنني لن أبقى هنا طويلاً ، وأسألُ نفسي أين أصبح البيت؟ إلى أين أتّجه؟
كيف يُتوقّع مني بعد هذا الألم كلّه أن أمسح آلامي تماماً كما أمسح المكياج عن وجهي بعد نهارٍ مُتعب، هذا ليس بالسهل. فقدتُ المعنى تماماً منذ آخر تسع سنوات أمضيتها مقصية، أُلاحق الأمل بأمان كمن يُلاحق أضواء سيّارات ظنّاً منه بأنها نجوم. الأمل فعلاً موجود ، ولكن هل يكون مفيداً فعلاً بعد كل هذا القهر والحزن.
الأمل خطير ومن مثلي لا يحتملون الأمل ولا خيبته.
إقرأوا أيضاً: