اعتدنا نحن اللبنانيين على اختبار خيبات الأمل واحدة تلو الأخرى، في ظل منظومة تحكم لبنان منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، لم توفر فرصة لنهب ما أمكن من خيرات البلاد وأموال المواطنين، وصلت إلى حد الحجز على أموالهم في المصارف، التي تحالفت بدورها مع السلطة، ففرضت قيوداً غير قانونية على السحوبات النقدية بالدولار والعملات الصعبة. ما ذكرته غيض من فيض مما مارسته السلطة على مدى سنوات طويلة.
في التاسع من كانون الثاني/ يناير 2025، انتُخب قائد الجيش السابق جوزاف عون رئيساً للجمهورية، حاصداً 99 صوتاً من أصل 128، ضمن دورة ثانية بعد فشله في الجولة الأولى في جمع الأصوات اللازمة لفوزه بالمنصب، مع عدم تصويت نواب الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر لصالحه.
حينذاك، خرج الثنائي الشيعي ليبشرنا بأنهم “حماة الوطن والسيادة الوطنية”، معتبراً أن ما من شيء يحصل في هذا البلد من دون موافقته، فهذا ما اعتاد عليه منذ سنوات، حيث كان يعطل البلد سنين وأشهراً من دون أن يرف له أي جفن، في انتظار الحصول على ما يريد، فيُسقط حكومة ويقيد عمل القضاة ويعطل وسط البلد، ويترك موقع رئاسة الجمهورية شاغراً لسنتين وأكثر.
لا أنكر فرحتي بانتخاب جوزاف عون رئيساً، رغم تساؤلات كثيرة لدي حول عملية الانتخاب والتسويات التي حصلت بين الأطراف الداخلية والخارجية، ففي السابق كان النظام السوري يفرض علينا الرئيس والنواب والوزراء، أما اليوم فالتدخل الأميركي هو سيد الموقف. لكن في نهاية المطاف، فُتح القصر الجمهوري أمام رئيس الجمهورية واستبشرنا خيراً، لا سيما مع خطاب القسم الذي وعد فيه عون بالعمل على تحقيق ما كنا نحلم به منذ زمن، من محاربة فساد وإحقاق الحق والعدالة وغيرها الكثير… تلك الفرحة نغّصتها أخبار سبقت الاستشارات النيابية الملزمة، التي أفادت بأن صفقة حصلت لإعادة تكليف نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، والأخير لطالما اتُهم بشبهات فساد مالي وإثراء غير مشروع.
إقرأوا أيضاً:
أُجريت الاستشارات النيابية الملزمة نهار الاثنين، في ظل إجماع المعارضة على ترشيح نواف سلام لرئاسة الحكومة مقابل نجيب ميقاتي مرشح الثنائي الشيعي. لقد كان انتخاب شخصية كسلام لرئاسة الحكومة حلماً بعيد المنال، فهو السياسي والدبلوماسي والقانوني والأكاديمي اللبناني، الذي يُشهد له بالنزاهة والكفاءة، انتُخب العام الماضي رئيسا لمحكمة العدل الدولية، ورفض الثنائي الشيعي سابقاً وصوله بشدة لمنصب رئاسة الحكومة. وبعد يوم طويل من الأمل المشوب بالحذر، اختار النواب سلام لتأليف الحكومة الجديدة والأولى في عهد جوزاف عون. في ذلك اليوم، شعرت كمعظم اللبنانيين بالأمل والسعادة، ولكن تلك الفرحة مشوبة بالحذر والخوف، لقد أصبحنا نخاف أن نشعر بالأمل بغد أفضل، نحن الذين قتلت فينا السلطة الحاكمة تدريجياً أي حلم بنهوض لبنان، هذا البلد الذي ابتُلي بمنظومة رهيبة راكمت فينا خيبات أمل لا تنتهي، وقتلت أحلامنا وحاربت ثوراتنا وقطعت علينا الطريق على القيام بأي تغيير.
انتُخب سلام وأصبح الحلم شبه مكتمل، رئيس جمهورية لم يغرق في فساد السلطة ورئيس حكومة منتخب تسلّم أرفع منصب عالمي، يعملان يداً بيد لتشكيل حكومة نأمل بأن تضم وجوهاً تبشر بالخير، وشخصيات لم تتلوث أيديها بالفساد والرشوة وتقويض العدل والعدالة، وتملك كل المقومات التي تؤهلها للسير بالبلد المثقل بالمشاكل الى بر الأمان، بلد اختبر أخيراً حرب إسناد دمرت مئات المباني وقتلت الآلاف وهجرت الكثيرين من بيوتهم، فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وكأنه لم يكفه ابتلاؤه بسلطة تعجز الكلمات عن وصف مسارها الغارق في وحول الفساد، فأفقرت الشعب ودفعت أبناءه إلى الهجرة، وجعلت الفاسدين يتسلّمون أرفع المناصب.
من جهة أخرى، أفادت مصادر بأن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت سيُستأنف مع عودة القاضي طارق البيطار على رأس الملف، مصدراً تبليغات للاستماع إلى عدد من السياسيين والأمنيين والإداريين، ومحدداً موعد الجلسات بعد ثلاثة أسابيع.
ما سبق، أعاد الأمل لأهالي شهداء المرفأ بالوصول إلى الحقيقة في هذه الجريمة، التي دأبت السلطة على طمسها وإخفاء معالمها.
هل “الزمن الأول تحوّل”؟ هل سنكون في مأمن وأمان من السلطة السابقة؟ أم أن جذورها المتمددة إلى كامل مفاصل الدولة ستنغّص علينا الفرحة؟ هل ستُسهّل مهمة سلام ويتم تشكيل حكومة تكتمل بها فرحتنا وتضع لبنان في مصاف الدول المتقدمة، الخالية من الفساد، التي يحظى مواطنوها بحقوقهم المشروعة من دون منّة من أحد؟!
هل نعود ونُصاب بخيبة أمل جديدة تقضي على أحلامنا الصغيرة جداً، التي تتمثل بحياة مستقرة آمنة لنا ولأولادنا؟ على رغم أن ذلك هو حقنا الطبيعي، فقد جعلت منظومة الحكم الفاسدة هذا الحق معكوساً، وجعلت من حقها نهب الوطن والمواطن والقضاء على أي أمل لدينا بالتخلص منها في يوم من الأيام.
وإذ بخيبات الأمل الكثيرة التي أُصبنا بها على مدى سنوات طويلة تنغص علينا فرحتنا، لكن الأمل كبير بدخول لبنان مرحلة جديدة تنقله من عتمة الفساد إلى ضوء الحرية والعدالة والمساواة وبناء المؤسسات، بعيداً عن سيطرة الأحزاب والمحسوبيات.
إقرأوا أيضاً: