fbpx

وائل غنيم… ماذا حلّ بالمؤمن الصادق؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أيقونة الربيع العربي يعود في صورة شاب نحيل، يتكلم بهستيريا واضحة، ويحلق شعر حواجبه بذهول، ويهذي بكلام لا معنى له… ماذا حدث لوائل غنيم؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في إحدى خربشاته على صفحته في “فيسبوك”، بعد عودته الغامضة في أيلول/ سبتمبر 2019، نشر وائل غنيم مقتطفات من كتاب “المؤمن الصادق” لاريك هوفر. والذين قرأوا هذا الكتاب يعرفون نظرته السلبية للثورة والثوار والحركات الجماهيرية عموماً.

كانت عودة غنيم (أبرز وجوه الثورة المصرية) صادمة لأصدقاء الربيع العربي وأعدائه معاً. أيقونة الربيع العربي يعود في صورة شاب نحيل، يتكلم بهستيريا واضحة، ويحلق شعر حواجبه بذهول، ويهذي بكلام لا معنى له.

وسأل الأعداء قبل الأصدقاء، ماذا حدث لوائل غنيم؟

غلاف كتاب “المؤمن الصادق”

ربما تكشف لنا طروحات “المؤمن الصادق” الذي اختاره غنيم لإيصال بعض رسائله الغامضة، بعضَ تفاصيل رحلة الصعود والهبوط. المؤمن الصادق هو ذلك الثوري الحالم الذي يؤمن بقدرته على تغيير العالم، وهم من يشكلون الحركات الجماهيرية أو ينضمون إليها. تتشكل هذه النوعيات بحسب هوفر من أشخاص محبطين، إنما في الوقت نفسه، يرون أن بيدهم قوة هائلة تمكّنهم من تغيير الوضع، وأن المستقبل سيكون مثالياً أشبه بالفردوس الأرضي. هذا الإيمان بالمستقبل يجعلهم مستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيل الفكرة التي يؤمنون بها.

أحد المقاطع التي نشرها غنيم في صفحته نقلاً عن هوفر، هو المقطع الذي يقول إن المؤمنين الصادقين الذين تجتذبهم الحركات الجماهيرية ليسوا أولئك الذين يحبون أنفسهم ويحرصون على تطويرها، بل أولئك الذين يودون التخلص من أنفسهم نهائياً. إنهم ناس فقدوا الإيمان بأنفسهم ويحاولون التعويض بالإيمان بقضية مقدسة.

لا يمكن أن ينطبق هذا الكلام على شخص كغنيم. فعام 2010 كان حصل على وظيفة العمر مديراً لتسويق الشركة العملاقة “غوغل” في دبي. لكن المؤمنين الصادقين لا يستقرون في المنظمات العملية التي تسعى إلى تطوير ذواتهم الشخصية، لأنهم لا يحبون ذواتهم ويعتبرونها صغيرة لا تستحق الاهتمام. لهذا بعد شهور فقط من حصوله على وظيفة العمر، بدأ غنيم تأسيس صفحة “كلنا خالد سعيد” على “فيسبوك”، التي أشعلت شرارة الربيع العربي في مصر وغرق في هدف كبير يتجاوز ذاته الصغيرة.

لا شك في أن غنيم عندما نشر المقاطع الناقدة الثورة والثوار من كتاب “المؤمن الصادق”، كان يشاهد نفسه في مرآة معاكسة لكل ما آمن به طوال السنوات الـ8 الماضية، مذ صار أيقونة الربيع المصري. لكن هذه المراجعة للنفس بلغت أقصى درجات الشك، وصولاً إلى إعادة النظر في قيمة الثورة والثائر والتغيير والنظر إلى كل ما حدث بعين الأسى والاعتذار.

لكن المتتبع لمسيرة غنيم سيكتشف أنها ليست المراجعة الأولى لما حصل.

فقد انتمى لحركة الإخوان المسلمين في بداية دراسته الجامعية وكان متشدداً في أداء الواجبات الدينية وانتمائه للجماعة، لكنه ما لبث أن تركها بعد اكتشاف القيود الحديدية التي يضعونها حوله. تلك القيود التي لا تتناسب مع مؤمن صادق في بداية رحلته الثورية بحثاً عن قضية المقدسة.

ربما تكشف لنا طروحات “المؤمن الصادق” الذي اختاره غنيم لإيصال بعض رسائله الغامضة، بعضَ تفاصيل رحلة الصعود والهبوط.

ثم انتقل بعد ذلك وخلال سنواته الجامعية أيضاً، إلى جماهيرية الانترنت عبره تأسيسه موقعاً دينياً يستهدف المسلمين باللغتين العربية والإسلامية في كل أنحاء العالم، هو موقع “طريق الإسلام”. لكن هذا الموقع لم يساعد المؤمن الصادق على تحقيق حلمه أو نسيان ذاته، فتبرع به لمنظمة خيرية، على رغم أن قيمته السوقية كانت تجاوزت المليون دولار، بحسب إفادته.

ثم كانت النقلة الكبرى عبر صفحة “كلنا خالد سعيد” التي أشعلت فتيل الربيع المصري. ها هي خصائص المؤمن الصادق تكتمل أخيراً، نكران للذات، وحلم بمستقبل مثالي قريب التحقيق، والإيمان بقوة جبارة لتغيير العالم هي الإنترنت.

بعد سقوط مبارك ألّف غنيم كتابه الأول “الثورة 2.0”. كان الكتاب توثيقاً ذاتياً للأشهر السابقة للربيع المصري وللأيام الثمانية عشر للاعتصامات التي أدت إلى سقوط مبارك. وتحدث الثوري الحالم في غلاف الكتاب عن مفهوم جديد للثورة، الثورة القائمة على القائد والرمز والمحرك!

وكانت نظرية المؤمن الصادق بسيطة جداً، كل ما تحتاجه إلى تحرير الشعب هو الإنترنت!

بعد الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها مرسي، كانت الصدمة الأولى التي هزت الإيمان الأعمى للثائر هي تراجع الهامش الديموقراطي والآمال الثورية بعد سيطرة الإخوان على السلطة، لكن هذه الصدمة لم تكن قوية حتى تدفعه إلى مراجعة الآليات والأهداف معاً. ثم جاءت الصدمة الثانية بعد الانقلاب العسكري المدعوم شعبياً عام 2013، الذي وضع السلطة في يد الجيش الحديدية، فاضطر غنيم إلى مغادرة مصر، ونقل عمله من دبي إلى أميركا، خوفاً على أمنه وحياته.

وائل غنيم في ثورة 25 يناير

سكت بعدها سكوتاً طويلاً حتى عام 2016 عندما ظهر بمشاركته الثانية في مؤتمر TEDX، في حديث مدته ربع ساعة، تحدث فيه عن إيمانه البسيط والساذج في 2011 بقوة الثورات وتحرير المجتمعات عبر الانترنت، واعترف بالحقيقة المرة التي اكتشفها وهي أن الإنترنت سلاح مزدوج، فهي وسيلة للتثوير مثلما هي وسيلة للتضليل. وقبل تحرير المجتمعات بالإنترنت يجب تحرير الإنترنت أولاً.

ولأن المؤمن الصادق لا يتخلى عن إيمانه الصارم بأفكاره وفاعليتها، حتى من دون وجود دليل واحد عليها، قرر غنيم بدء مسيرة تحرير الإنترنت واستقال من عمله في “غوغل”، لينشئ شركته الخاصة الهادفة إلى تطوير مستوى النقاش والتفاعل على النت. لكن الشركة فشلت فشلاً ذريعاً، لأن حكومات العالم وأنظمته الكبرى فشلت في تنظيم الإنترنت حتى الآن، فكيف سينجح في ذلك الشاب الثوري الرومانسي الحالم.

انتقل بعد ذلك إلى العمل مع شركة أصغر هي Qoura، لكنه انهار نفسياً في منتصف 2016 وقدم استقالته بعدما انفجر باكياً داخل أحد اجتماعات العمل، ثم سكت سنتين بعد انهيار نفسي وجسدي شامل ليعود في آذار/ مارس 2018، ويكتب مقالاً مطولاً بعنوان “الثورة المصرية وروحي المكسورة”، وصف فيه نفسه بأنه مهرج حزين يغطي وجهه بقناع ضاحك، وقدم أول مراجعة جذرية ليس للوسائل فقط وإنما للهدف أيضاً… الثورة!

لكن هل يستطيع المؤمن الصادق مراجعة نفسه؟

كان غنيم حصل بعد فترة اكتئاب على منحة لمدة ثلاثة أشهر في جامعة هارفارد. حينها قرر لفترة بسيطة ترك الانشغالات العامة والاهتمام بنفسه. لكنه ما إن وصل إلى الجامعة العريقة حتى عادت صور السياسة والناس والجماهير والثورات تسيطر على أفكاره، وعاد المؤمن الصادق داخل وائل غنيم ليقوم بدوره المسيطر، ويسحب الشاب الضعيف النحيل مرة أخرى إلى أحلام/ أوهام تغيير العالم.

وكانت نظرية المؤمن الصادق بسيطة جداً، كل ما تحتاجه إلى تحرير الشعب هو الإنترنت!

عاد في صورة غريبة وصادمة. صورة المريض النفسي، المهلوس، والمحشش، والسوقي الذي يرد على كل سؤال أو تعليق بالشتائم. لكن المؤمن الصادق لا ينجح أبداً في الخروج من جلده وتناقضاته، فها هو غنيم من جديد يحاول إقناع الجماهير بأن ما يقوم به من تعرٍ جسدي ونفسي على الهواء هو أسلوب جديد للتحرر، لو اتبعه الناس لغيروا حياتهم وخرجوا من حالة الاكتئاب والسقوط الناتج عن خيبات الربيع العربي. يحاول غنيم بلا كلل إقناع الناس بأنه تحرر أخيراً من القيود والمخاوف ومن قلقه المستمر حول تقييم الناس له. لكن ظهوره المهووس في فيديوات طويلة ليكرر الأفكار الهذيانية ذاتها، حول صحته العقلية والنفسية، تكشف بوضوح أن حالة “كراهية الذات” وصلت إلى مرحلة مرضية قد تدمر الرمز والأيقونة إلى الأبد.

المؤمن الصادق قوي وضعيف في الوقت ذاته. ضعيف جداً في قدراته البدنية والنفسية والعقلية، لكن لديه إيمان جبار بقدرته على تغيير العالم، يمكّنه إذا سمحت الظروف من تحقيق المستحيل. لكن التاريخ لا يعيد نفسه.

3 عوامل لانهيار غنيم

العامل الأول هو التراجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي حدث بعد ثورة 25 يناير، حتى أن وضع مصر صار أسوأ مما كان في عهد مبارك. والعامل الثاني هو الاتهامات التي لاحقت غنيم، بأنه باع الثورة، أو أنه تسلق ظهر الثوار والشهداء، أو أنه صار عميلاً للمخابرات. اتهامات دمرت شخصيات غنيم الهشة، وأسقطته في دوامات من الاكتئاب الخوف والقلق من تقييم الآخرين له.

أما العامل الثالث فهو خوفه الدائم من المخابرات. في كتابات قليلة قبل 2011 وبعده، كان حديثه الدائم عن المخابرات وخوفه منها لا ينقطع حتى بعد مغادرته إلى الولايات المتحدة. في الفصلين السابع والثامن من كتابه “الثورة 2.0″، كشف غنيم تفاصيل الأيام الاثني عشر التي أمضاها معتقلاً بعد أحداث 25 يناير، وكان صريحاً في الاعتراف بضعفه وهشاشته، حتى أنه اعترف لضباط المخابرات المصرية بكل شيء، من رفاقه في تنظيم التظاهرات، وكلمة السر لصفحة “فيسبوك”، إلى تفاصيل التواصل مع الجماهير وتحشيدها.

هذه الهشاشة المفرطة تمشي جنباً إلى جنب مع تلك الثقة المفرطة في القدرة على تغيير العالم، والنقاء الثوري العالي لشاب ضحى بكل شيء من أجل هدف أعلى من ذاته الصغيرة. هذه التناقضات هي نفسها تناقضات الربيع العربي، وهي نفسها التي أسقطت شباب التغيير والمجتمعات في دوامات الاكتئاب والإحباط والجنون والإدمان. وغنيم ظل كما كان أيقونة للربيع العربي في صعوده وفي سقوطه أيضاً.

مصر بعد فشل جمعة “الخلاص”: اعتقالات عشوائية وخنق للأمل