fbpx

واشنطن تقتل البغدادي و”تموّل” ثورتَي بيروت وبغداد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

طهران تشعر بأن انتفاضتي العراق ولبنان تستهدفان نفوذها، وهي تتصرف بناء على ذلك. خطاب التخوين هو نفسه، ووسائل الإعلام التي تروج له في البلدين هي نفسها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فيما يترنح نظاما “النصر على داعش” في بغداد وفي بيروت جراء تظاهرات تطالب بإسقاطهما، أقدمت طائرة أميركية على قتل أبي بكر البغدادي في بلدة باريشا في محافظة إدلب السورية. العلاقة بين حدثي التظاهرات وقتل زعيم “داعش” تقتصر على بعد رمزي، لكنها تذكر بأن النصاب السياسي الذي نشأ في موازاة “الانتصارات على داعش” انطوى على قدر من الفشل والفساد والارتهان، وكشف أن الأنظمة التي خاضت “الحرب على داعش” وثبتت سلطتها في ظلها، سرعان ما اصطدمت بالشرائح الاجتماعية التي ادعت تمثيلها.

البعد الرمزي لمقتل البغدادي، بين ثورتي بيروت وبغداد، تولى تكثيف الحقيقة بما يتعلق بأنظمة “النصر على داعش”، وما حمله هذا “النصر” من أوهام. فهو ما كان له أن يتحقق في سوريا وفي العراق من دون واشنطن، وهو على رغم تحوله شعاراً للأنظمة المنبثقة عن هذا “النصر” سواء في لبنان أو في العراق، حمل من الادعاء بقدر ما حمل من الفساد، لكنه أيضاً ترافق مع مفارقات مذهلة، من نوع أن يقاتل الأميركيون إلى جانب الإيرانيين في الموصل، وأن يرعى “حزب الله” عملية “فجر الجرود” التي نفذها الجيش اللبناني ضد جيوب “داعش” على الحدود مع لبنان، مستعيناً بخرائط جوية أميركية.

لكن المفارقة الأشد فتكاً بالخيال هي أن تتهم انتفاضتا بيروت وبغداد بعلاقتهما بواشنطن التي قتلت البغدادي، عدو النظامين اللبناني والعراقي. المعادلة لا قيمة لها سوى عدم احترامها ذكاء من يسعى هذا الكلام إلى مخاطبته! ثم إن هذا الخطاب ذهب في قلة احترامه ذكاء من توجه إليهم إلى أن الانتفاضة في البلدين ممولة من قطر والسعودية مجتمعتين، في حين يعلم الجميع أنه من المستحيل أن تلتقي الدوحة والرياض على هدف أو على خطة.

 

 المفارقة الأشد فتكاً بالخيال هي أن تتهم انتفاضتا بيروت وبغداد بعلاقتهما بواشنطن التي قتلت البغدادي، عدو النظامين اللبناني والعراقي. المعادلة لا قيمة لها سوى عدم احترامها ذكاء من يسعى هذا الكلام إلى مخاطبته!

 

ما يجمع انتفاضتا العراق ولبنان يبدو مذهلاً. الفساد يكاد يكون واحداً في البلدين، والرعاية الإيرانية لنظام الفساد أيضاً، وخطابا “التوبة الزائفة” اللذان صدرا عن رئيسي الحكومتين يبدوان متطابقين، بحيث يُشعرك سماعهما بأنك حيال حكومة واحدة وفساد واحد، وفشل تشترك فيه الوزارات، بحيث تمكننا توأمة الفشل على نحو ما تقدم المدن الناجحة على توأمة نجاحها. قصة الكهرباء في العراق تشبه قصة اللبنانيين مع الكهرباء، وقصتهم مع تلوث الأنهار هي نفسها، وقصتهم مع الحشد الشعبي تشبه قصة اللبنانيين مع سلاح المقاومة. والاختلافات الطفيفة بين البلادين تعزز التشابه، فهناك رئيس الجمهورية كردي وهنا ماروني، ورئيس الحكومة هناك شيعي وهنا سني، ورئيس البرلمان شيعي في لبنان وسني في العراق، وكل هذا يخدم نظام محاصصة واحدٍ في البلدين.

لكن وفي مواجهة التشابه في الفساد بدأ يولد تشابه في مواجهة هذا الفساد. التظاهرات بدأت تتشابه أيضاً وشعارات المتظاهرين، والتهم الموجهة للمنتفضين في البلدين. إنهم عملاء السفارات، وهم من تحركهم واشنطن وتل أبيب، وهم ممولون من أنظمة النفط في الخليج. الثورة المضادة واحدة في البلدين ومن يصوغ شعاراتها أيضاً، وهذا الأخير يبدو عديم الخيال ولم يبذل جهداً في صوغ شعاراته. في بغداد، يشيرون إلى دور لـ”داعش” في التظاهرات، ودور لواشنطن، وفي اليوم نفسه تقدم طائرة أميركية على قتل البغدادي، ولا يشعر صاحب خطاب التخوين بالحاجة إلى توضيح المفارقة، تماماً كما لم يشعر بضرورة توضيح مفارقة اشتراك الرياض والدوحة في تمويلهما التظاهرة في بيروت. 

طهران تشعر بأن انتفاضتي العراق ولبنان تستهدفان نفوذها، وهي تتصرف بناء على ذلك. خطاب التخوين هو نفسه، ووسائل الإعلام التي تروج له في البلدين هي نفسها. ففي أعقاب “النصر على داعش” استقرت السلطة من بغداد إلى بيروت ومروراً بدمشق، وهي لم تكن سلطة مرتفعة الأكلاف في ظل اقتصادٍ محلي يغذي فساد الطبقة السياسية السائدة في كلا البلدين. لكن الجشع لم يكن مضبوطاً بشروط، وطهران أرخت حبل الفساد للطبقة السياسية الخاضعة لها، فجاء الحصار وجاءت العقوبات ووقع الهيكل الهش على رؤوس أهله. الشيعة في العراق انتفضوا ضد الحكومة المرتهنة لطهران، وبدأ الشيعة في لبنان يشعرون بالاختناق بعد سنوات بحبوحة وهمية. أما المسيحيون في لبنان، فقد استيقظوا فجأة على حقيقة أن ميشال عون قد رهن أصولهم لنظام العقوبات المنفذ على حلف الأقليات الذي انخرط فيه، وأن اقتصادهم انهار بين ليلة وضحاها، فخرجوا إلى التظاهرة كما لم يفعلوا من قبل.

ما من رحلة جوية بين بيروت وبغداد إلا وستلتقي على متنها برجال أعمال من محيط الطبقتين السياسيتين، قادمين أو مغادرين، ويحملون معهم ملفات “التعاون” وتبادل الخبرات في مجالات الفساد المشترك. عزز هذا التعاون من دون شك اشتراك طرفيه في الخضوع لنفوذ مشترك، ناهيك بـ”النصر” المشترك على “داعش”. في بغداد تسمع عن مشاريع كبرى ينفذها مستثمرون لبنانيون، وفي مصارف بيروت تستقر ودائع لأغنياء عراقيين جدد.

واليوم تتشابه انتفاضتا بغداد وبيروت بوجود “ممول” مشترك، ورئيسي حكومة ضعيفين تقاتل طهران لتثبيتهما في ضعفهما وفي موقعيهما.    

عن ثورة تموّلها “السفارات”

28.10.2019
زمن القراءة: 4 minutes

طهران تشعر بأن انتفاضتي العراق ولبنان تستهدفان نفوذها، وهي تتصرف بناء على ذلك. خطاب التخوين هو نفسه، ووسائل الإعلام التي تروج له في البلدين هي نفسها.

فيما يترنح نظاما “النصر على داعش” في بغداد وفي بيروت جراء تظاهرات تطالب بإسقاطهما، أقدمت طائرة أميركية على قتل أبي بكر البغدادي في بلدة باريشا في محافظة إدلب السورية. العلاقة بين حدثي التظاهرات وقتل زعيم “داعش” تقتصر على بعد رمزي، لكنها تذكر بأن النصاب السياسي الذي نشأ في موازاة “الانتصارات على داعش” انطوى على قدر من الفشل والفساد والارتهان، وكشف أن الأنظمة التي خاضت “الحرب على داعش” وثبتت سلطتها في ظلها، سرعان ما اصطدمت بالشرائح الاجتماعية التي ادعت تمثيلها.

البعد الرمزي لمقتل البغدادي، بين ثورتي بيروت وبغداد، تولى تكثيف الحقيقة بما يتعلق بأنظمة “النصر على داعش”، وما حمله هذا “النصر” من أوهام. فهو ما كان له أن يتحقق في سوريا وفي العراق من دون واشنطن، وهو على رغم تحوله شعاراً للأنظمة المنبثقة عن هذا “النصر” سواء في لبنان أو في العراق، حمل من الادعاء بقدر ما حمل من الفساد، لكنه أيضاً ترافق مع مفارقات مذهلة، من نوع أن يقاتل الأميركيون إلى جانب الإيرانيين في الموصل، وأن يرعى “حزب الله” عملية “فجر الجرود” التي نفذها الجيش اللبناني ضد جيوب “داعش” على الحدود مع لبنان، مستعيناً بخرائط جوية أميركية.

لكن المفارقة الأشد فتكاً بالخيال هي أن تتهم انتفاضتا بيروت وبغداد بعلاقتهما بواشنطن التي قتلت البغدادي، عدو النظامين اللبناني والعراقي. المعادلة لا قيمة لها سوى عدم احترامها ذكاء من يسعى هذا الكلام إلى مخاطبته! ثم إن هذا الخطاب ذهب في قلة احترامه ذكاء من توجه إليهم إلى أن الانتفاضة في البلدين ممولة من قطر والسعودية مجتمعتين، في حين يعلم الجميع أنه من المستحيل أن تلتقي الدوحة والرياض على هدف أو على خطة.

 

 المفارقة الأشد فتكاً بالخيال هي أن تتهم انتفاضتا بيروت وبغداد بعلاقتهما بواشنطن التي قتلت البغدادي، عدو النظامين اللبناني والعراقي. المعادلة لا قيمة لها سوى عدم احترامها ذكاء من يسعى هذا الكلام إلى مخاطبته!

 

ما يجمع انتفاضتا العراق ولبنان يبدو مذهلاً. الفساد يكاد يكون واحداً في البلدين، والرعاية الإيرانية لنظام الفساد أيضاً، وخطابا “التوبة الزائفة” اللذان صدرا عن رئيسي الحكومتين يبدوان متطابقين، بحيث يُشعرك سماعهما بأنك حيال حكومة واحدة وفساد واحد، وفشل تشترك فيه الوزارات، بحيث تمكننا توأمة الفشل على نحو ما تقدم المدن الناجحة على توأمة نجاحها. قصة الكهرباء في العراق تشبه قصة اللبنانيين مع الكهرباء، وقصتهم مع تلوث الأنهار هي نفسها، وقصتهم مع الحشد الشعبي تشبه قصة اللبنانيين مع سلاح المقاومة. والاختلافات الطفيفة بين البلادين تعزز التشابه، فهناك رئيس الجمهورية كردي وهنا ماروني، ورئيس الحكومة هناك شيعي وهنا سني، ورئيس البرلمان شيعي في لبنان وسني في العراق، وكل هذا يخدم نظام محاصصة واحدٍ في البلدين.

لكن وفي مواجهة التشابه في الفساد بدأ يولد تشابه في مواجهة هذا الفساد. التظاهرات بدأت تتشابه أيضاً وشعارات المتظاهرين، والتهم الموجهة للمنتفضين في البلدين. إنهم عملاء السفارات، وهم من تحركهم واشنطن وتل أبيب، وهم ممولون من أنظمة النفط في الخليج. الثورة المضادة واحدة في البلدين ومن يصوغ شعاراتها أيضاً، وهذا الأخير يبدو عديم الخيال ولم يبذل جهداً في صوغ شعاراته. في بغداد، يشيرون إلى دور لـ”داعش” في التظاهرات، ودور لواشنطن، وفي اليوم نفسه تقدم طائرة أميركية على قتل البغدادي، ولا يشعر صاحب خطاب التخوين بالحاجة إلى توضيح المفارقة، تماماً كما لم يشعر بضرورة توضيح مفارقة اشتراك الرياض والدوحة في تمويلهما التظاهرة في بيروت. 

طهران تشعر بأن انتفاضتي العراق ولبنان تستهدفان نفوذها، وهي تتصرف بناء على ذلك. خطاب التخوين هو نفسه، ووسائل الإعلام التي تروج له في البلدين هي نفسها. ففي أعقاب “النصر على داعش” استقرت السلطة من بغداد إلى بيروت ومروراً بدمشق، وهي لم تكن سلطة مرتفعة الأكلاف في ظل اقتصادٍ محلي يغذي فساد الطبقة السياسية السائدة في كلا البلدين. لكن الجشع لم يكن مضبوطاً بشروط، وطهران أرخت حبل الفساد للطبقة السياسية الخاضعة لها، فجاء الحصار وجاءت العقوبات ووقع الهيكل الهش على رؤوس أهله. الشيعة في العراق انتفضوا ضد الحكومة المرتهنة لطهران، وبدأ الشيعة في لبنان يشعرون بالاختناق بعد سنوات بحبوحة وهمية. أما المسيحيون في لبنان، فقد استيقظوا فجأة على حقيقة أن ميشال عون قد رهن أصولهم لنظام العقوبات المنفذ على حلف الأقليات الذي انخرط فيه، وأن اقتصادهم انهار بين ليلة وضحاها، فخرجوا إلى التظاهرة كما لم يفعلوا من قبل.

ما من رحلة جوية بين بيروت وبغداد إلا وستلتقي على متنها برجال أعمال من محيط الطبقتين السياسيتين، قادمين أو مغادرين، ويحملون معهم ملفات “التعاون” وتبادل الخبرات في مجالات الفساد المشترك. عزز هذا التعاون من دون شك اشتراك طرفيه في الخضوع لنفوذ مشترك، ناهيك بـ”النصر” المشترك على “داعش”. في بغداد تسمع عن مشاريع كبرى ينفذها مستثمرون لبنانيون، وفي مصارف بيروت تستقر ودائع لأغنياء عراقيين جدد.

واليوم تتشابه انتفاضتا بغداد وبيروت بوجود “ممول” مشترك، ورئيسي حكومة ضعيفين تقاتل طهران لتثبيتهما في ضعفهما وفي موقعيهما.    

عن ثورة تموّلها “السفارات”