fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

واقع السوريات في ظل تحول أبو محمد الجولاني إلى أحمد الشرع!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إذا كانت سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية للتعافي وتحقيق العدالة في كل ما حدث خلال السنوات القاسية والمتوحشة الماضية، فعليها ألا تجعل من تجربة انتهاك أجساد النساء السوريات وتجريدهن من حريتهن وكرامتهن وحقوقهن، حدثاً تفصيلياً يمكن تجاوزه، وجسراً يتمختر عليه “أبو محمد الجولاني”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عشتُ صراعاً داخلياً عميقاً قبل كتابة هذا المقال. 

جزء مني كان مغموراً بالشعور الجمعي بالفرح والانعتاق والخلاص من عائلة الأسد ونظامها المتوحش، والفرصة التاريخية التي فُتحت أمام السوريات والسوريين لمحو الأبد والاستبداد، وجزء آخر واعياً لكف العفريت الذي وُضعت عليه سوريا اليوم،  وجزء يملأه الأسى والرعب من هيمنة أبو محمد الجولاني وما يمثله على المشهد، والسرعة التي تُبنى فيها سردية مناقضة تماماً للدور، الذي لعبه هذا الرجل منذ بداية ظهوره في الصراع السوري إلى اليوم.

 سردية تحاول التكتم على جرائم عديدة شاركت فيها التنظيمات، التي بايعها أو أسّسها وتبناها أيديولوجياً -وما يزال – أبو محمد الجولاني خلال رحلة تحوله إلى أحمد الشرع. 

سردية مغلفة “بغسيل وردي” تريد منا كنساء، أن نتسامح ونعفو عن الفصائل والتنظيمات التي تسببت  بأذية وحشية نهشت كرامتنا، حد بيع أجسادنا في سوقٍ للسبايا زمن تنظيم “داعش” عام 2015،  انتهاكات ما نزال لليوم مُحاطات بالرعب لمجرد التفكير بها، وأن هذا حقاً حدث في زمننا ولم يستطع أحد منع حدوثه.

تتغير سرديتنا اليوم، ويُطلب منا مرة أخرى أن ننسى ونعفو ونصبر ونقف متفرجات، وكأن هذا لا يمكن أن يتكرر، وكأن الحقائق حول واقع النساء وقيمتهن وموقعهن، خلال كل تحولات “الجولاني” وما مثّله، ليست واضحة ولا تستدعي رعبنا، سردية تضعنا مرة أخرى أمام تنظيرات “عطوه وقت”، و”حقوق النساء ليست أولوية”، “وخطأ فردي”، تحت ذريعة الخوف من ردود فعل عنيفة تفكك “السلم الأهلي”.

البيعة الأولى

عندما بدأت الثورة السورية عام 2011، لم يكن “الجولاني” مشاركاً فيها، ولم يكن مقيماً في سوريا قبلها بسنوات، وعلى الرغم من أن الحراك في سوريا كان ينفجر بالأحداث، وكانت سوريا تغلي على المستوى العسكري والاجتماعي والسياسي، وهناك معارضة سياسية وأحزاب و”جيش حر” ومجموعات مقاتلة محلية وتنسيقيات وغيرها.

ضمن كل ما سبق، اختار الجولاني أن يدخل الصراع مبايعاً نهاية عام 2011 تنظيم “داعش”، مع شريكه الجهادي “أبو محمد العدناني”، بهدف نقل هذه التجربة إلى سوريا، ليساهم في تأسيس “دولة الخلافة” فيها، التنظيم المتشدد، الذي وُثّقت انتهاكاته على مدار أعوام، خصوصاً تلك التي تستهدف النساء،  وتُقدّر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عددهم بـ 8,143 مغيب/ة قسرياً على يد هذا التنظيم، ومن بينهم أختي سمر صالح، التي تم خطفها على يد تنظيم “داعش” مع شريكها محمد العمر من مدينة الأتارب في الشمال الغربي لسوريا، وإلى اليوم لا نعرف عنهما أي معلومة.

انتهى تنظيم “داعش”، لكن معسكرات الاعتقال التي تحوي بعض المقاتلين ونسائهم وأطفالهم، هذه إلى اليوم “قنبلة موقوتة”، بسبب احتمالات اندلاع حروب بين قوات “أبو محمد الجولاني” والفصائل المقاتلة معها، وبين “قوات سوريا الديمقراطية” بدعم كامل من تركيا. إذا ما تم التعامل معها من قبل مقاتلي “الجولاني” كما تم التعامل مع السجون والفروع الأمنية خلال عملية “ردع العدوان”. أو إذا ما تم استخدامها من قبل أي طرف في الصراع المسلح، كتهديد شديد الخطورة في ظل الواقع الهش الذي تعيشه البلاد.

 الأمر الذي قد يشكّل خطراً وجودياً حقيقياً على حياة  الكثير من النساء والفتيات السوريات، اللواتي قد يتم تعريضهن إلى تجارب مشابهة للسابقة، في حال الإفراج عن آلاف المقاتلين من التنظيم، وغيرهم ممن لم يتم التعامل معهم بشكل قانوني عادل، لحل قضاياهم خلال السنوات الماضية. 

التحول الثاني إلى “أبو محمد الجولاني”… تأسيس “جبهة النصرة”

برز اسم أبو محمد الجولاني للمرة الثانية خلال الثورة السورية، عندما أعلن التخلي عن “داعش” لإنها “متشددة”، برغم أنه من مبايعي هذا “التشدد” ومن قادته ومؤسسيه في سوريا. ومرة أخرى عندما تاب “الجولاني” أحمد الشرع وقرر الابتعاد عن “تشدد داعش”، لم يلجأ إلى الاندماج مع سلطات الأمر الواقع الموجودة وفصائله، وقرر بدء تجربة مغامرة سلطوية جديدة بتأسيس “جبهة النصرة”، كفرع ل”تنظيم القاعدة” الإرهابي في سوريا.

خاضت “جبهة النصرة” هذه المرة من الشمال الغربي لسوريا معارك طاحنة، صفّت فيها قادة في “الجيش الحر”، وفرضت سيطرتها على قرى حكمتها بالسيف والنار والترهيب، سيطرت “جبهة النصرة” كما “داعش” على حياة النساء وفرضت عليهن الحجاب والخمار، وحاصرت وخنقت حريتهن، واغتالت ناشطين/ات وصحافيين/ات، وأقصت وأبعدت آخرين/ات ودفعتهن/م إلى الهرب، رجمت “جبهة النصرة” نساء اتّهمتهن بالزنا، بسلوك يشبه سلوك “داعش”، وثّقه أيضاً المرصد السوري لحقوق الإنسان. 

أُقصيت النساء من الفضاءات العامة، ووضعت شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وحلتها في تحولات أخرى- ثم أعادتها مرة أخرى تحت مسمى “سواعد الخير”، التي أصدرت عدداً من القوانين كلها تخص حياة النساء والسيطرة على حقوقهن، وشكل حضورهن في الحياة العامة. حسب تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان. كما تبنت الجبهة أكبر تفجيرات في دمشق ومدن أخرى راح ضحيتها عشرات المدنيين/ات.

التحول الثالث… “جبهة تحرير الشام” و”حكومة الإنقاذ”

 التحول التالي ل”أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع هو الانفصال عن “القاعدة”، وابتعاده عن الجهاد الإسلامي السلفي العالمي، وإظهار نفسه على أنه يمثّل الجهاد السلفي المحلي، من خلال تغيير الاسم لا الفعل، إلى ما يعرف حتى اليوم ب “هيئة تحرير الشام”، والبدء بتبني خطاب إسقاط النظام، على الرغم من أنه منع علم الثورة من كل أماكن سيطرته، وفرض علم الجهاد الإسلامي، واعتقل وعذب عناصر من “الجيش الحر”، ومنع منظمات مجتمع مدني معارضة من العمل ودفعها للخروج من سوريا، وبدأ بتأسيس دويلة إسلامية عيّن لها حكومة أسماها “حكومة الإنقاذ”، التي بدورها كانت ظلاً “مدنياً” سياسياً لطموحات الخلافة الإسلامية وفرض شريعة الإسلام. 

 منعت “حكومة الإنقاذ” عمل المنظمات المدنية، التي تشكّل تهديداً لمشروعها الإسلامي، واستولت بالتالي على جميع المؤسسات وأدمجتها بنظام وقوانين متشددة على جميع المستويات، بخاصة على مستوى التعليم، حيث فرضت مناهج جهادية وأسست “اتحاد طلاب سوريا” الذي تنحصر رئاسته بأعضاء من “هيئة تحرير الشام” فقط. 

وفي تحقيق نُشر هذا العام على موقع “تلفزيون سوريا”عن واقع الجامعات في مدينة إدلب،  ذكر أن “هيئة تحرير الشام تركز هيمنتها أيضاً على الهيئات الطلابية للكليات العلمية الرئيسية كالكليات الطبية والهندسية، بالإضافة إلى كليات الشريعة والحقوق والعلوم السياسية والإعلام والاقتصاد والإدارة، ويقوم أعضاء الاتحاد بدور الرقابة على الطلاب وأنشطتهم داخل الجامعة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالكليات، فيدير أعضاء الهيئات الطلابية في الكليات الصفحات غير الرسمية التي تحمل أسماء الكليات، ومجموعات التواصل الاجتماعي الخاصة بالكليات، ومن مهامهم مراقبة عدم إنشاء مجموعات جديدة، وفصل الذكور عن الإناث في مجموعات الواتساب، والرقابة والمسؤولية عن كل ما يُكتب ويُنشر في تلك المجموعات”.

 هيمنت “هيئة تحرير الشام” وما يسمى ب “حكومة الإنقاذ” على القضاء والمؤسسات الحقوقية والقانونية بالطريقة نفسها، تحكمها دينامية سلطة ذكورية وأبوية وإسلامية متشددة بالمطلق، على كافة الأمور التي تخص البشر في مناطق سيطرتها. 

فرضت “حكومة الإنقاذ” الحجاب والخمار على النساء والطفلات في المدارس والجامعات، هيمنت على الحريات الشخصية وقمعتها، حددت شكل حضور النساء في الأوساط العامة. 

وأحاط “الجولاني” نفسه بجيش من إعلاميين وصحافيين، لا يشكلون أي تهديد لطموحاته السلطوية، وخنق ومنع عمل أي صحافية أو صحافي يسلط الضوء على سواد مملكته.

حاربت “حكومة الإنقاذ” المؤلفة بشكل كامل من ذكور متشددين يطمحون ل”دولة الخلافة الإسلامية” النساء والمنظمات النسوية والنسائية بكل قوة، مما شكّل خطاباً موحداً لكل الهيئات الإسلامية المتحالفة معها.

 وتذكر النساء السوريات، بخاصة النسويات، خطاب التحريض والكراهية في الخطبة المشهورة التي ألقاها الشيخ أسامة الرفاعي رئيس “المجلس الإسلامي السوري” خلال زيارته إدلب، مما شكّل تهديداً حقيقياً لأي محاولة للمشاركة الاجتماعية والسياسية.

 كما نشرت “حكومة الإنقاذ” لافتات في الشوارع، حددت فيها السلوكيات المقبولة للنساء في مناطق سيطرتها، حاصرت حكومة الإنقاذ عمل الصحافيات وحرمتهن من التصريحات لممارسة عملهن. 

اقترحت وزارة الداخلية في “حكومة الإنقاذ” وثيقة “قانون الآداب العامة” تشمل قوانين تهدف إلى السيطرة على المجتمع وتحدد طريقة عيشه، وخصّت الكثير منها، لمراقبة سلوك النساء ولباسهن وحركتهن والسيطرة على أجسادهن وطريقة حضورهن في الأماكن العامة. 

لماذا لم يكن هناك خيار آخر في عملية تحرير سوريا؟

منذ نشأة “هيئة تحرير الشام” وحكومتها التي غرست أنيابها بشراسة في عمق المجتمع المدني، ومحاولة تحويله إلى مجتمع إسلامي متشدد يخضع للشريعة الإسلامية في بنيتها ومؤسساتها، وهيمنتها على التعليم والقضاء والاقتصاد والسياسة والثقافة، حرصت على إضعاف أي جهة أو تنظيم يمكن أن يتحداها، لم يكن من الصعب على “الجولاني” أحمد الشرع، أن يضحي حتى برفاق الجهاد وشركاء مشاريعه وطموحاته، سجنهم وعذبهم واغتال منهم المقربين في سبيل الوصول إلى السلطة والتفرد بها. 

ساهم بشكل كبير في تعزيز سلطة “الجولاني” أحمد الشرع، الدعم المتوحش الروسي والإيراني و”حزب الله” لحماية عائلة الأسد. ارتكبوا خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أدت إلى انهزام مدوٍ للثورة السورية بشقيّها السياسي والعسكري.

كما ساهم المجتمع الدولي والدول الفاعلة بالقضية السورية بتقويض الحل، من خلال عدم قدرتهم على حماية السوريات/ين والوقوف بوجه إجرام بشار الأسد وحلفائه، والتعامل مع القضية السورية ببرود وإهمال، والبدء بسحب التمويل من بعض منظمات المجتمع المدني السورية، وأوقفت الكثير من الدول دعمها للحراك المسلح، بسبب هيمنة الإسلام المتشدد عليه، ووُضع “أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع و”هيئة تحرير الشام “على قوائم الإرهاب، ساهم هذا الواقع في تفتيت وتمييع وتجميد أي فرصة لحل سياسي، واستمر لسنوات من دون أي أمل وأفق للحل.  

دُعم “الجولاني” من قبل أنقرة والفصائل الموالية لها، التي بدورها سبق أن قادت حروباً ضد السوريات والسوريين الكرد، الذين  هُجروا واُقتلعوا من بيوتهم وأراضيهم، فتغيرت ديموغرافية المنطقة كلها، لتصبح مكاناً آمناً “للجولاني” أحمد الشرع وتمدد مشروعه واستقراره، وليصبح القوة الوحيدة “المنضبطة” التي يمكنها أن تقود عملية “ردع العدوان” الأخيرة، التي تمت باتفاق عدد من الدول، بعد وضوح هشاشة النظام السوري، والأذى الذي لحق بحلفائه.

ما الحل؟

مثّلت مسيرة هذا الرجل من “أبو محمد الجولاني” إلى أحمد الشرع شخصية وصفها الكثير من الخبراء/ات في دراسة المجموعات الإرهابية والإسلامية الجهادية بالشخصية “البراغماتية”، وتعدّ من بين أكثر المجموعات وحشية في تاريخ الثورة السورية، ارتكبت جرائمها أمام أعين العالم، من قطع الرؤوس، والكراهية والعدائية المتوحشة تجاه النساء والطفلات، واستعبادهن جنسياً. خلال سلسلة تطوراته من “داعش” إلى “القاعدة” (جبهة النصرة) إلى “هيئة تحرير الشام” و”حكومة الإنقاذ” الخاصة بها، حتى وصوله إلى دمشق كبطل يمنح عفواً ومسامحات ويطالب بالعقاب يميناً ويساراً، من دون حتى أن يعتذر عن جرائم “داعش” التي بايعها في سوريا، وجرائم “القاعدة” و”جبهة النصرة” التي أسسها في سوريا، ولا عن جرائم “هيئة تحرير الشام” وانتهاكاتها التي ما تزال مستمرة.
لم يعتذر “الجولاني” ولن يعتذر من النساء السوريات والعراقيات وخاصة الأيزيديات، على تعريضهن للعبودية الجنسية وبيع أجسادهن في سوق للسبايا، لم يعتذر “الجولاني” من عائلات المخطوفات والمخطوفين على يد “داعش”، ولن يسهّل عملية معرفة مصيرهن/م ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، التي ارتكبتها التنظيمات التي بايعها و أسسها وقادها بنفسه خلال الثورة السورية.
اليوم لا خيار أمامنا كنسويات ونساء سوريات في هذا الصراع الوجودي، إلا الدفاع عن سرديتنا والوقوف بوجه “الغسيل الوردي” والتعويم السياسي، الذي يضع وجه “أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع والتطبيع معه، على أساس “مخلّص” سوريا من عائلة الأسد و”محرر” سوريا.

 إذا كانت سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية للتعافي وتحقيق العدالة في كل ما حدث خلال السنوات القاسية والمتوحشة الماضية، فعليها ألا تجعل من تجربة انتهاك أجساد النساء السوريات وتجريدهن من حريتهن وكرامتهن وحقوقهن، حدثاً تفصيلياً يمكن تجاوزه، وجسراً يتمختر عليه “أبو محمد الجولاني”، خلال كل تحولاته الأيديولوجية و”مراجعاته الجهادية” و”تغيراته الفكرية”، في  صراعه على السلطة في كل التنظيمات التي شكّلها وقادها. 

يجب أن يكون هذا من النصوص الواضحة والأساسية في دستور سوريا الجديد، لتكون سوريا مكاناً آمناً للنساء، ولكل الفئات المهمشة والضعيفة، التي لا تمتلك الأدوات ولا المساحات للتفاوض على حقوقها، للعيش في بلد تُصان فيه كرامة الجميع من دون استثناء.

رائد بو حمدان | 31.01.2025

17 تشرين: المساحة الحاضنة التي نسجها اللبنانيون لحماية بلدهم

تبني 17 تشرين (بمن فيها من نواب وقوى وناشطين/ات وإعلاميين/ات وغيره) لوصول جوزيف عون الى الرئاسة، وصناعة خيار نواف سلام، ليس فعل قطف أو تسلّق، بل هو خدمة للبنان ومصلحة لكل اللبنانيين، ومصدر طمأنينة للعيش المشترك بمنع غلبة فريق لبناني على آخر.
27.12.2024
زمن القراءة: 8 minutes

إذا كانت سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية للتعافي وتحقيق العدالة في كل ما حدث خلال السنوات القاسية والمتوحشة الماضية، فعليها ألا تجعل من تجربة انتهاك أجساد النساء السوريات وتجريدهن من حريتهن وكرامتهن وحقوقهن، حدثاً تفصيلياً يمكن تجاوزه، وجسراً يتمختر عليه “أبو محمد الجولاني”


عشتُ صراعاً داخلياً عميقاً قبل كتابة هذا المقال. 

جزء مني كان مغموراً بالشعور الجمعي بالفرح والانعتاق والخلاص من عائلة الأسد ونظامها المتوحش، والفرصة التاريخية التي فُتحت أمام السوريات والسوريين لمحو الأبد والاستبداد، وجزء آخر واعياً لكف العفريت الذي وُضعت عليه سوريا اليوم،  وجزء يملأه الأسى والرعب من هيمنة أبو محمد الجولاني وما يمثله على المشهد، والسرعة التي تُبنى فيها سردية مناقضة تماماً للدور، الذي لعبه هذا الرجل منذ بداية ظهوره في الصراع السوري إلى اليوم.

 سردية تحاول التكتم على جرائم عديدة شاركت فيها التنظيمات، التي بايعها أو أسّسها وتبناها أيديولوجياً -وما يزال – أبو محمد الجولاني خلال رحلة تحوله إلى أحمد الشرع. 

سردية مغلفة “بغسيل وردي” تريد منا كنساء، أن نتسامح ونعفو عن الفصائل والتنظيمات التي تسببت  بأذية وحشية نهشت كرامتنا، حد بيع أجسادنا في سوقٍ للسبايا زمن تنظيم “داعش” عام 2015،  انتهاكات ما نزال لليوم مُحاطات بالرعب لمجرد التفكير بها، وأن هذا حقاً حدث في زمننا ولم يستطع أحد منع حدوثه.

تتغير سرديتنا اليوم، ويُطلب منا مرة أخرى أن ننسى ونعفو ونصبر ونقف متفرجات، وكأن هذا لا يمكن أن يتكرر، وكأن الحقائق حول واقع النساء وقيمتهن وموقعهن، خلال كل تحولات “الجولاني” وما مثّله، ليست واضحة ولا تستدعي رعبنا، سردية تضعنا مرة أخرى أمام تنظيرات “عطوه وقت”، و”حقوق النساء ليست أولوية”، “وخطأ فردي”، تحت ذريعة الخوف من ردود فعل عنيفة تفكك “السلم الأهلي”.

البيعة الأولى

عندما بدأت الثورة السورية عام 2011، لم يكن “الجولاني” مشاركاً فيها، ولم يكن مقيماً في سوريا قبلها بسنوات، وعلى الرغم من أن الحراك في سوريا كان ينفجر بالأحداث، وكانت سوريا تغلي على المستوى العسكري والاجتماعي والسياسي، وهناك معارضة سياسية وأحزاب و”جيش حر” ومجموعات مقاتلة محلية وتنسيقيات وغيرها.

ضمن كل ما سبق، اختار الجولاني أن يدخل الصراع مبايعاً نهاية عام 2011 تنظيم “داعش”، مع شريكه الجهادي “أبو محمد العدناني”، بهدف نقل هذه التجربة إلى سوريا، ليساهم في تأسيس “دولة الخلافة” فيها، التنظيم المتشدد، الذي وُثّقت انتهاكاته على مدار أعوام، خصوصاً تلك التي تستهدف النساء،  وتُقدّر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عددهم بـ 8,143 مغيب/ة قسرياً على يد هذا التنظيم، ومن بينهم أختي سمر صالح، التي تم خطفها على يد تنظيم “داعش” مع شريكها محمد العمر من مدينة الأتارب في الشمال الغربي لسوريا، وإلى اليوم لا نعرف عنهما أي معلومة.

انتهى تنظيم “داعش”، لكن معسكرات الاعتقال التي تحوي بعض المقاتلين ونسائهم وأطفالهم، هذه إلى اليوم “قنبلة موقوتة”، بسبب احتمالات اندلاع حروب بين قوات “أبو محمد الجولاني” والفصائل المقاتلة معها، وبين “قوات سوريا الديمقراطية” بدعم كامل من تركيا. إذا ما تم التعامل معها من قبل مقاتلي “الجولاني” كما تم التعامل مع السجون والفروع الأمنية خلال عملية “ردع العدوان”. أو إذا ما تم استخدامها من قبل أي طرف في الصراع المسلح، كتهديد شديد الخطورة في ظل الواقع الهش الذي تعيشه البلاد.

 الأمر الذي قد يشكّل خطراً وجودياً حقيقياً على حياة  الكثير من النساء والفتيات السوريات، اللواتي قد يتم تعريضهن إلى تجارب مشابهة للسابقة، في حال الإفراج عن آلاف المقاتلين من التنظيم، وغيرهم ممن لم يتم التعامل معهم بشكل قانوني عادل، لحل قضاياهم خلال السنوات الماضية. 

التحول الثاني إلى “أبو محمد الجولاني”… تأسيس “جبهة النصرة”

برز اسم أبو محمد الجولاني للمرة الثانية خلال الثورة السورية، عندما أعلن التخلي عن “داعش” لإنها “متشددة”، برغم أنه من مبايعي هذا “التشدد” ومن قادته ومؤسسيه في سوريا. ومرة أخرى عندما تاب “الجولاني” أحمد الشرع وقرر الابتعاد عن “تشدد داعش”، لم يلجأ إلى الاندماج مع سلطات الأمر الواقع الموجودة وفصائله، وقرر بدء تجربة مغامرة سلطوية جديدة بتأسيس “جبهة النصرة”، كفرع ل”تنظيم القاعدة” الإرهابي في سوريا.

خاضت “جبهة النصرة” هذه المرة من الشمال الغربي لسوريا معارك طاحنة، صفّت فيها قادة في “الجيش الحر”، وفرضت سيطرتها على قرى حكمتها بالسيف والنار والترهيب، سيطرت “جبهة النصرة” كما “داعش” على حياة النساء وفرضت عليهن الحجاب والخمار، وحاصرت وخنقت حريتهن، واغتالت ناشطين/ات وصحافيين/ات، وأقصت وأبعدت آخرين/ات ودفعتهن/م إلى الهرب، رجمت “جبهة النصرة” نساء اتّهمتهن بالزنا، بسلوك يشبه سلوك “داعش”، وثّقه أيضاً المرصد السوري لحقوق الإنسان. 

أُقصيت النساء من الفضاءات العامة، ووضعت شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وحلتها في تحولات أخرى- ثم أعادتها مرة أخرى تحت مسمى “سواعد الخير”، التي أصدرت عدداً من القوانين كلها تخص حياة النساء والسيطرة على حقوقهن، وشكل حضورهن في الحياة العامة. حسب تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان. كما تبنت الجبهة أكبر تفجيرات في دمشق ومدن أخرى راح ضحيتها عشرات المدنيين/ات.

التحول الثالث… “جبهة تحرير الشام” و”حكومة الإنقاذ”

 التحول التالي ل”أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع هو الانفصال عن “القاعدة”، وابتعاده عن الجهاد الإسلامي السلفي العالمي، وإظهار نفسه على أنه يمثّل الجهاد السلفي المحلي، من خلال تغيير الاسم لا الفعل، إلى ما يعرف حتى اليوم ب “هيئة تحرير الشام”، والبدء بتبني خطاب إسقاط النظام، على الرغم من أنه منع علم الثورة من كل أماكن سيطرته، وفرض علم الجهاد الإسلامي، واعتقل وعذب عناصر من “الجيش الحر”، ومنع منظمات مجتمع مدني معارضة من العمل ودفعها للخروج من سوريا، وبدأ بتأسيس دويلة إسلامية عيّن لها حكومة أسماها “حكومة الإنقاذ”، التي بدورها كانت ظلاً “مدنياً” سياسياً لطموحات الخلافة الإسلامية وفرض شريعة الإسلام. 

 منعت “حكومة الإنقاذ” عمل المنظمات المدنية، التي تشكّل تهديداً لمشروعها الإسلامي، واستولت بالتالي على جميع المؤسسات وأدمجتها بنظام وقوانين متشددة على جميع المستويات، بخاصة على مستوى التعليم، حيث فرضت مناهج جهادية وأسست “اتحاد طلاب سوريا” الذي تنحصر رئاسته بأعضاء من “هيئة تحرير الشام” فقط. 

وفي تحقيق نُشر هذا العام على موقع “تلفزيون سوريا”عن واقع الجامعات في مدينة إدلب،  ذكر أن “هيئة تحرير الشام تركز هيمنتها أيضاً على الهيئات الطلابية للكليات العلمية الرئيسية كالكليات الطبية والهندسية، بالإضافة إلى كليات الشريعة والحقوق والعلوم السياسية والإعلام والاقتصاد والإدارة، ويقوم أعضاء الاتحاد بدور الرقابة على الطلاب وأنشطتهم داخل الجامعة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالكليات، فيدير أعضاء الهيئات الطلابية في الكليات الصفحات غير الرسمية التي تحمل أسماء الكليات، ومجموعات التواصل الاجتماعي الخاصة بالكليات، ومن مهامهم مراقبة عدم إنشاء مجموعات جديدة، وفصل الذكور عن الإناث في مجموعات الواتساب، والرقابة والمسؤولية عن كل ما يُكتب ويُنشر في تلك المجموعات”.

 هيمنت “هيئة تحرير الشام” وما يسمى ب “حكومة الإنقاذ” على القضاء والمؤسسات الحقوقية والقانونية بالطريقة نفسها، تحكمها دينامية سلطة ذكورية وأبوية وإسلامية متشددة بالمطلق، على كافة الأمور التي تخص البشر في مناطق سيطرتها. 

فرضت “حكومة الإنقاذ” الحجاب والخمار على النساء والطفلات في المدارس والجامعات، هيمنت على الحريات الشخصية وقمعتها، حددت شكل حضور النساء في الأوساط العامة. 

وأحاط “الجولاني” نفسه بجيش من إعلاميين وصحافيين، لا يشكلون أي تهديد لطموحاته السلطوية، وخنق ومنع عمل أي صحافية أو صحافي يسلط الضوء على سواد مملكته.

حاربت “حكومة الإنقاذ” المؤلفة بشكل كامل من ذكور متشددين يطمحون ل”دولة الخلافة الإسلامية” النساء والمنظمات النسوية والنسائية بكل قوة، مما شكّل خطاباً موحداً لكل الهيئات الإسلامية المتحالفة معها.

 وتذكر النساء السوريات، بخاصة النسويات، خطاب التحريض والكراهية في الخطبة المشهورة التي ألقاها الشيخ أسامة الرفاعي رئيس “المجلس الإسلامي السوري” خلال زيارته إدلب، مما شكّل تهديداً حقيقياً لأي محاولة للمشاركة الاجتماعية والسياسية.

 كما نشرت “حكومة الإنقاذ” لافتات في الشوارع، حددت فيها السلوكيات المقبولة للنساء في مناطق سيطرتها، حاصرت حكومة الإنقاذ عمل الصحافيات وحرمتهن من التصريحات لممارسة عملهن. 

اقترحت وزارة الداخلية في “حكومة الإنقاذ” وثيقة “قانون الآداب العامة” تشمل قوانين تهدف إلى السيطرة على المجتمع وتحدد طريقة عيشه، وخصّت الكثير منها، لمراقبة سلوك النساء ولباسهن وحركتهن والسيطرة على أجسادهن وطريقة حضورهن في الأماكن العامة. 

لماذا لم يكن هناك خيار آخر في عملية تحرير سوريا؟

منذ نشأة “هيئة تحرير الشام” وحكومتها التي غرست أنيابها بشراسة في عمق المجتمع المدني، ومحاولة تحويله إلى مجتمع إسلامي متشدد يخضع للشريعة الإسلامية في بنيتها ومؤسساتها، وهيمنتها على التعليم والقضاء والاقتصاد والسياسة والثقافة، حرصت على إضعاف أي جهة أو تنظيم يمكن أن يتحداها، لم يكن من الصعب على “الجولاني” أحمد الشرع، أن يضحي حتى برفاق الجهاد وشركاء مشاريعه وطموحاته، سجنهم وعذبهم واغتال منهم المقربين في سبيل الوصول إلى السلطة والتفرد بها. 

ساهم بشكل كبير في تعزيز سلطة “الجولاني” أحمد الشرع، الدعم المتوحش الروسي والإيراني و”حزب الله” لحماية عائلة الأسد. ارتكبوا خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أدت إلى انهزام مدوٍ للثورة السورية بشقيّها السياسي والعسكري.

كما ساهم المجتمع الدولي والدول الفاعلة بالقضية السورية بتقويض الحل، من خلال عدم قدرتهم على حماية السوريات/ين والوقوف بوجه إجرام بشار الأسد وحلفائه، والتعامل مع القضية السورية ببرود وإهمال، والبدء بسحب التمويل من بعض منظمات المجتمع المدني السورية، وأوقفت الكثير من الدول دعمها للحراك المسلح، بسبب هيمنة الإسلام المتشدد عليه، ووُضع “أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع و”هيئة تحرير الشام “على قوائم الإرهاب، ساهم هذا الواقع في تفتيت وتمييع وتجميد أي فرصة لحل سياسي، واستمر لسنوات من دون أي أمل وأفق للحل.  

دُعم “الجولاني” من قبل أنقرة والفصائل الموالية لها، التي بدورها سبق أن قادت حروباً ضد السوريات والسوريين الكرد، الذين  هُجروا واُقتلعوا من بيوتهم وأراضيهم، فتغيرت ديموغرافية المنطقة كلها، لتصبح مكاناً آمناً “للجولاني” أحمد الشرع وتمدد مشروعه واستقراره، وليصبح القوة الوحيدة “المنضبطة” التي يمكنها أن تقود عملية “ردع العدوان” الأخيرة، التي تمت باتفاق عدد من الدول، بعد وضوح هشاشة النظام السوري، والأذى الذي لحق بحلفائه.

ما الحل؟

مثّلت مسيرة هذا الرجل من “أبو محمد الجولاني” إلى أحمد الشرع شخصية وصفها الكثير من الخبراء/ات في دراسة المجموعات الإرهابية والإسلامية الجهادية بالشخصية “البراغماتية”، وتعدّ من بين أكثر المجموعات وحشية في تاريخ الثورة السورية، ارتكبت جرائمها أمام أعين العالم، من قطع الرؤوس، والكراهية والعدائية المتوحشة تجاه النساء والطفلات، واستعبادهن جنسياً. خلال سلسلة تطوراته من “داعش” إلى “القاعدة” (جبهة النصرة) إلى “هيئة تحرير الشام” و”حكومة الإنقاذ” الخاصة بها، حتى وصوله إلى دمشق كبطل يمنح عفواً ومسامحات ويطالب بالعقاب يميناً ويساراً، من دون حتى أن يعتذر عن جرائم “داعش” التي بايعها في سوريا، وجرائم “القاعدة” و”جبهة النصرة” التي أسسها في سوريا، ولا عن جرائم “هيئة تحرير الشام” وانتهاكاتها التي ما تزال مستمرة.
لم يعتذر “الجولاني” ولن يعتذر من النساء السوريات والعراقيات وخاصة الأيزيديات، على تعريضهن للعبودية الجنسية وبيع أجسادهن في سوق للسبايا، لم يعتذر “الجولاني” من عائلات المخطوفات والمخطوفين على يد “داعش”، ولن يسهّل عملية معرفة مصيرهن/م ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، التي ارتكبتها التنظيمات التي بايعها و أسسها وقادها بنفسه خلال الثورة السورية.
اليوم لا خيار أمامنا كنسويات ونساء سوريات في هذا الصراع الوجودي، إلا الدفاع عن سرديتنا والوقوف بوجه “الغسيل الوردي” والتعويم السياسي، الذي يضع وجه “أبو محمد الجولاني” أحمد الشرع والتطبيع معه، على أساس “مخلّص” سوريا من عائلة الأسد و”محرر” سوريا.

 إذا كانت سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية للتعافي وتحقيق العدالة في كل ما حدث خلال السنوات القاسية والمتوحشة الماضية، فعليها ألا تجعل من تجربة انتهاك أجساد النساء السوريات وتجريدهن من حريتهن وكرامتهن وحقوقهن، حدثاً تفصيلياً يمكن تجاوزه، وجسراً يتمختر عليه “أبو محمد الجولاني”، خلال كل تحولاته الأيديولوجية و”مراجعاته الجهادية” و”تغيراته الفكرية”، في  صراعه على السلطة في كل التنظيمات التي شكّلها وقادها. 

يجب أن يكون هذا من النصوص الواضحة والأساسية في دستور سوريا الجديد، لتكون سوريا مكاناً آمناً للنساء، ولكل الفئات المهمشة والضعيفة، التي لا تمتلك الأدوات ولا المساحات للتفاوض على حقوقها، للعيش في بلد تُصان فيه كرامة الجميع من دون استثناء.

27.12.2024
زمن القراءة: 8 minutes
|
آخر القصص
“دمقرطة” صناعة الأبطال
ديانا عيتاوي - مدوّنة في التواصل والتصميم | 31.01.2025
المواجهة مع منطق “البعث” في لبنان يجب أن تستمر 
كريم صفي الدين وعزت زهر الدين | 30.01.2025

اشترك بنشرتنا البريدية