وثّق الفنان وصانع الأفلام الفلسطيني خالد جرارّ عام 2012 محاولات الفلسطينيين تجاوز الحواجز وجدار الفصل بين القدس والضفّة الغربية في فيلمه “مُتسللون”. يكتشف بجسمه الذي تلتصق به الكاميرا، مساحات العبور والفواصل الحدوديّة سواء كانت بشراً،أو طريقاً سريعاً أو جداراً، مشيراً إلى مساحات الخطر المُفرط، حيث العبور رهان يتحرك بين الحياة والموت.
يعود جرار الى اكتشاف مساحات العبور في فيلمه الوثائقي الجديد “هوامش طاردة-Notes on displacement”، الذي عُرض في مهرجاني الإسماعيليّة في مصر، ودوكسا في كندا وغيرهما من المهرجانات العالميّة، التي تعرف فيها الجمهور على جرار وهو يلاحق رحلة لجوء نادرة عبود الهواري، التي أطلقت نداءً للسلطة الفلسطينيّة كي تنقذها من مخيم اليرموك في ريف دمشق، بالطبع لا مجيب، لكن جرار تلقف النداء، وقرر التواصل معها ومرافقتها في رحلة لجوئها نحو أوروبا.
يكفي أن نقرأ سيرة نادرة عبر تواريخ حياتها، لندرك قسوة التهجير القسريّ المتكررّ الذي اختبرته وتهجيرها بين جغرافيات الشرق الأوسط وأوروبا، إذ ولدت عام 1936، وهجّرت من الناصرة عام 1948، ثم هجّرت من مخيم اليرموك عام 2014، لتدفن نهايةً كلاجئة في ألمانيا عام 2017.
المهاجرون أفراد وليسوا حشوداً
لا تصح كلمة تقفّي الأثر لوصف الجهد الوثائقي الذي قام به جرار، فلا مسافة بينه وبين الهاربين، هو مثلهم، يستغني عن جواز سفره، وينضم إليهم في رحلة من اليونان عبر أوروبا نحو ألمانيا كـ”لاجئ سوريّ”، يستمع إلى نداءات اقتراب الغرق عبر “واتسآب”، ثم دموع الوصول إلى شواطئ اليونان حيث ينتظر نادرة، هو على تماس مباشر مع الشخصيات وذو أثر في الرحلة التي يخوضونها.
الشخصيات في الفيلم ليست موضوعات للمخرج، بل هي أقران، لا مسافة بين صانع الفيلم وبينها، يستغني جرار عن حقه بالتحرك والانتقال بسبب جواز سفره، ليختبر مع الهاربين قسوة حرس الحدود، ولعنة الطريق والجوع والبرد.
يتحول جرار في الفيلم من مراقب “مُحايد” إلى جزء من الرحلة وشريك لأولئك الباحثين عن “الحريّة”، الكلمة التي يركز عليها كل من يظهرون أمامنا على الشاشة، إذ تتفتت كتلة المهاجرين، ليصبحوا أفراداً وأشخاصاً ذوي حكايات، تصنيفهم كـ”كتلة مهاجرين” يتفكك أمام تحديقة الكاميرا، فلكل واحد منهم اسم وحلم، يحملهما معه نحو الأرض الجديدة.
يكسر جرار في الفيلم مفهوم الحياد المعروف عن صانع الفيلم، هو يساعد العابرين، يترجم، يقود تظاهرة في المخيّم في هنغاريا لأجل طعام أفضل، ينسق الرحلة وتقسيم المجموعات، يجيب بدقة عن السؤال الخاص بحياد صانع الفيلم أو الصحافي، “كيف يمكنك أن تشاهد المأساة ولا تتدخل؟”.
الإجابة لدى جرار واضحة، سيتدخل، وينظم سير الرحلة ويصوّر، كواحد من المهاجرين أنفسهم، أولئك الذين تتدخل عوامل سياسيّة وحكائيّة لجعلهم كتلة واحدة متجانسة تحمل القصة ذاتها والهدف ذاته، الشأن الذي يشير إليه جرار، ففي هنغاريا يرفض التوقيع على ورقة لم يفهم منها شيئاً، ورقة تختزل حكايته القسريّة المطابقة لحكاية من حوله، حكاية رسميّة مفادها أنهم عابرون فقط، ولن يبقوا في هنغاريا.
هذه اللامسافة التي يتبناها جرار، تحيلنا إلى وثائقيات كثيرة تتعلق بالهجرة والحروب بعد عام 2011، المخرج في نماذج كثيرة لن نذكرها، بعيد، لا يقف وراء الكاميرا، بل تصله الصور والتسجيلات جاهزة للمونتاج، البعض يتعاقد مع من “يصوّر” ليلتقط الصور لاحقاً ويعيد توليفها، مسافة الأمان واللاأمان هنا تحيلنا إلى سياسة صناعة الفيلم ومفهوم استهلاك الصورة، التي تنتقل من مساحة الموت إلى مساحة المهرجان، بينما المخرج أو صانع الفيلم وراء الشاشة يولّف الصور من دون الوقوف وراء الكاميرا.
خطر الهوامش والحدود
تكشف الرحلة التي يخوضها جرار عن مساحات اللامكان عبر درب الهرب من جحيم سوريا، تلك المساحات السياسيّة لضبط “أفواج” اللاجئين، الذين ينتقلون من سطوة السيادة المتمثلة بالشرطة وحرس الحدود، نحو اللامكان في البحر وعلى البر، لتتكشف استراتيجيّة أوروبيّة واضحة في تكديسهم، للحفاظ على صورة الحشد العابر للحدود، وهذا ما تعمل كاميرا جرار ضده، هؤلاء ليسوا حشداً، هؤلاء أفراد يدعوهم جرار الى الكلام، احتجوا، لا تسكتوا، وصوّرا، “نحن لسنا حيوانات” يقول مؤنباً إياهم حين صمتوا عن الطعام السيئ في المخيم.
نسمع صوت جرار في بداية الفيلم يقولها بوضوح “نحن كالخرفان نساق إلى معلفنا في ألمانيا”، وهنا كلمة نُساق ساسيّة، حجج اليسار عن “كسر البصمة” في ألمانيا وفتح الحدود، لا تحل المشكلة، الخطر في الطريق نفسه، وكأنه مسابقة احتمال، دول اللجوء ترحب بالأقدر على قطع الطريق وتجاوز مخاطره.
إقرأوا أيضاً:
الوعي بالصورة
يضطر جرار أمام حرس العبّارة في اليونان لأن يعرف بنفسه “أنا فنان أصور فيلماً”، فطرد، ثم تمكن من الدخول. هذا الإعلان عن الهوية أمام الشرطة وأمام المجموعة التي يصوّرها يكسر الحياد أيضاً، الكل موافق على وجود الكاميرا ومدرك لسطوتها، ما يكشف الوعي بالصورة التي تُنقل عن اللاجئين من “المحايدين”.
يسخر أحد المهاجرين من جرار قائلاً، “تريد إطالة الفيلم وتأخير وصولنا إلى ألمانيا؟”، يتهكم منه أحدهم في مخيم في هنغاريا، “نحن نتعذب، وأنت تصورنا لتقبض اليوروات”، آخر ينهره “أوقف التصوير وركّز على الطريق”، الصورة إذاً حدث ذو أثر سياسيّ ، نسمع بداية الفيلم تسجيلاً من مركب على وشك الغرق بين تركيا واليونان يختزل كلّ مأساة رحلة اللجوء، تسجيل يحوي جملة واحدة… “ما لازم نموت وما حدا يشوفنا”.
هذه المفارقات والسخرية أحياناً يعيها جرار وأقرانه، الصورة سلاح سياسيّ أثره لا يستهان به، ويصل أحياناً حد التشكيك في موقع المهاجرين كضحايا، كالمقولة التي انتشرت بأن الهاربين عبر الحدود يحملون هواتف Iphone، إذاً هم أغنياء فلمَ يهربون من بلادهم!
تصوير المهاجرين كـ”حشود” و”قطعان” تعبر الحدود كما نرى في إنتاجات صحافيّة ووثائقيّة كثيرة، يترك الهاربين ضحية الصور النمطيّة، هم أفواج تعبر الحدود، حشود تنتظر دور المعونات، وجمهرات أمام مكتب العمل، حوّلتهم الصور في أحيان كثيرة إلى”زومبي” الحضارة الأوروبية التي سيلتهمون “لحمها الأبيض” حسب اليمين المتطرف.
انهيار الأيديولوجيا
تكشف حميمية الكاميرا في فيلم جرار عن انهيار الأيديولوجيا على لسان الكثيرين، نسمع الخذلان من العالم العربي، وأحاديث عن ظلم السعوديّة وقطر والإمارات، بل تقولها نادرة بوضوح للصحافي السويدي الذي ظهر فجأة: “السعوديّة أقرب لنا، لكننا اخترنا أن نأتي إليكم”، ترافقها لاحقاً نداءات من المهاجرين تسخر من العروبة ومعناها.
تنهار الأيديولوجيا إذاً أمام البرد والذل في المخيم، مفاهيم الفرد العربي والانتماء تتلاشى، الكتلة البشرية التي يفترض أن ينتمي إليها “العرب” وهم، وحلت مكانها النزعات الوطنية الاقتصاديّة والإقامات الذهبيّة والمهاجرين الأكفاء.
تدمير صورة “الأخوّة العربيّة” إحدى أبرز نتائج ثورات 2011، التي كشفت أن أن مفهوم العروبة أداة ديماغوجية لقيادة الحشود والجموع وقمعهم، وطريق الهجرة حطّم هذه الأداة، تلك التي تنهار كلياً أمام رجل ألماني يرحّب بالقادمين المنهكين، هو ليس أفضل أو أشد رحمة من “الأخ العربي”، لكن لا يمكن إنكار فرصة “المواطنة” أمام اللاجئين الذين ما زال الآلاف منهم في الدول العربيّة من دون حقوق.
سياسة الانتقال والحركة
يكشف الفيلم عن طبيعة القوى السياسية التي تتحكم بالحركة، تظهر الحدود كقوّة للتصنيف والتعنيف، هناك من يحق له المرور وآخرون منفيون على الهوامش الخطرة، الجسد نفسه يخضع للاختبار والقدرة على التحمل طوال الرحلة، ونقصد هنا القدرة العضلية على النجاة التي تتحكم بالأفراد، لتظهر جملة “مرحباً بك في ألمانيا” التي يُستقبل بها اللاجئون في محطة القطار ساخرة.
الترحيب والاستقبال لا يعنيان الانتظار على الحدود، بل تمهيد الطريق، وإتاحة العبور نفسه، في حين أنهما في الحالة الأوروبية اختبار للأقوى، من يستطيع المقاومة الجسدية عبر البر ووعورة الطريق و عنف حرس الحدود، الجسد المهاجر في هذه الحالة يواجه الانتقال بوصفه تمريناً على الاحتمال.
تحوي صور حشود المهاجرين التي يلتقطها الصحافيون “الأجانب” نوعاً من الشفقة والإعجاب، شفقة على انهيار البلاد التي جاؤوا منها وإعجاب بالقدرة على الانتقال، وهذا بالضبط ما يحاول جرار “السرد” ضده، هي مأساة، لا شيء يثير الإعجاب، الفعل السياسي الأوروبي يتمثّل بدقة، بـ”ترك” المهاجرين لمصيرهم وقوتهم الجسديّة، ثم الترحيب بهم كفائزين في مُسابقة ما.
في “فقه” الخوف والخطر
قسوة الطريق وسياسية الانتقال نحو الجغرافية الأوروبيّة تتمثلان بالعمل الواضح على تعرية المهاجر مما يمتلكه، إذ يترك على حواف النجاة دوماً، أقل قدر من الطعام، أقل قدر من الماء ومن الراحة، المطلوب إذاً، أن يبقى على حافة الموت.
عدم رد نداء استغاثة المهاجرين، أقرب الى القتل، وهنا تتضح سياسات الفناء، هي لا تعني الاستهداف المباشر، بل ترك أحدهم للموت، لأنه لا يحمل “ورقة”، والحق بإعاقة الحركة وصد الدخلاء حسب مقولات اليمين الأوروبيّ يتمثل بإضعاف الجسد وشل حركته، حرمانه من الماء والطعام والطريق المعبّد، ليظهر جسد الفنان هنا بوصفه حاملاً لسؤال جماليّ حول سياسة العبور والهرب والفرار، والانتقال من حالة من يمتلك حق الحركة إلى ذاك المحروم منها، ما يعكس أحد ملامح فن الأداء في الفيلم، وهو أن يخاطر الفنان بجسده ليكشف عُنف مؤسسات السلطة على الجسد نفسه.