في مقال نشره مؤخّراً، تحدّث الكاتب السوري ياسين الحاج صالح عن المرحلة التي تلت سقوط الحكم الأسدي: “عرفت الأشهر الأحد عشر المنقضية منذ سقوط الحكم الأسدي استقطابات مفرطة الحدّة بين المعنيّين السوريين بالشؤون العامّة”، من هذا المدخل، يقدّم الحاج صالح محاولة لقراءة التحوّلات السورية من خلال تشخيص لما يسمّيه “مزاج السوريين”، في زمن ما بعد النظام.
قسّم المجال العامّ إلى فئتين: فئة “الطبّالين”، الذين اصطفّوا مع الحكم الجديد بمنطق الولاء، وفئة “المكيودين”، الذين يعارضونه بانفعال، وكأنهم يستكملون معركتهم القديمة مع النظام السابق.
ويقترح الكاتب “مسلكاً سياسياً وأخلاقياً أصوب”، يقوم على مبدأ مباشر: “أن نقول الحقّ هنا والآن، أياً يكن المرتكبون؛ وأن نقف إلى جانب الضحايا أياً يكونوا، هنا والآن”.
هذا المبدأ ضروري لاستعادة ميزان العدالة الفردية بعد الانقسامات الطويلة، ومع ذلك، يمكن لقراءة نسوية نقدية أن تشير إلى فجوة ما بين القول والممارسة، وبين من يملك القدرة على قول الحقّ ومن يُطالَب به، فـ”قول الحقّ” ليس فعلاً مجرّداً متاحاً بالتساوي للجميع، بل هو مشروط بالسلطة والمكانة والنوع الاجتماعي.
يفترض المبدأ السابق، أن المجال العامّ متاح لكلّ الأصوات، على اختلافها واستقطابها، أصوات محميّة للتعبير، ومضمون “مقاضاتها” في حال تجاوزت “قوانين” الفضاء العامّ، لكنّ النساء، وخصوصاً اللواتي دفعن ثمن الصمت في سنوات الحرب في سوريا، يعرفن أن هذه المساواة مجرّد وهم، فعندما تُهان امرأة أو يُشهّر بها لأنها تجرّأت على الكلام، نادراً ما نجد ذلك “المسلك الأخلاقي” حاضراً لدى من يطالبون بقول الحقّ، بل يختبئون خلف حياد لغوي بارد أو دعواتٍ للتعقّل. وهكذا، يتعثّر “قول الحقّ” حين تكون الضحيّة امرأة.
الثنائيات المريحة والمسكوت عنه
يقول الحاج صالح إنه يسعى لتجاوز “المسلكين الهائجين” اللذين يجسّدهما “الطبّالون والمكيودون”، لأن كليهما يصدر عن “تعصّب ديني أو شبه ديني ينعكس في عنف لفظي ونفسي شديد”.
بهذا التشخيص، في هذا الطرح، يعكس الحاج صالح بنية الاستقطاب ذاتها التي يحاول نقدها، حين يجعل الخلاص الأخلاقي محصوراً في موقع المثقّف العاقل. إلا أن هذه الثنائية، رغم بلاغتها، تُعيد إنتاج التراتب القديم بين “العقلاني” و”المنفعل”، بين “المتكلّم” و”المتكلَّم عنه”.
لا شكّ في أن الحاج صالح من أكثر من حاولوا مساءلة اللغة والسلطة في السياق السوري، لكن حتى الخطابات التقدّمية تقع أحياناً في أسر البنى التي تنتقدها حسب تعبير جوديث باتلر، فهذه الثنائية “المحايدة” تعبّر عمّا يسمّى “اقتصاد القول والاعتراف”، أي النظام الذي يوزّع القدرة على النطق وفق هرم اجتماعي يحدّد من يُسمَع ومن يُقصى.
في هذا الخطاب، تحضر النساء لغوياً (الحائرات) لكن يُغيّب حضورهن المعرفي. يُنظر إليهن كرمز للحيرة والصمت، لا كمصدرٍ للفكر أو الفعل السياسي. وفي المقابل، ما تفعله النساء السوريات اليوم من توثيق ورعاية وتعليم وحماية وبناء حياة جديدة، هو تطبيق حيّ لما تسمّيه نانسي فريزر “العدالة التواصلية”، أي الاعتراف بالفاعلين غير المسموعين كمنتجين للمعنى. هؤلاء النساء لا يشاركن في جدل “من الأحقّ بالحقّ”، بل يمارسن العدالة فعلاً، في الميدان والحياة اليومية، بصمت فعّال ومثابر.
من يمتلك حقّ “قول الحقّ”؟
يقول الحاج صالح: “نقول الحقّ هنا والآن لأننا لا نعلم ما قد يحدث فيما بعد. قد نموت، وقد ينتهي العالم… “لكنّ الحقّ لا يُقال في الفراغ، بل داخل بنى السلطة والأمان والمكانة”، من يستطيع قول الحقّ هو من يملك الشرط الرمزي للاعتراف. مثقّف يمتلك منبراً آمناً يستطيع قول الحقّ بأمان نسبي، بينما امرأة تُعلن عن تعرّضها للعنف تواجه التكذيب والتشهير. هذه المفارقة تذكّر بما تسمّيه سوزان برايسون “سياسات التصديق”، أي النظام الذي يقرّر مسبقاً من يُصدَّق ومن يُعتبر “منفعلاً”. فما يُعدّ شجاعة فكرية لدى رجل، يُصنّف تهوّراً عند امرأة.
وحين كتب الحاج صالح أن “علوّ صوت الطبّالين والمكيودين يحجب وجود الحائرين والحائرات”، كان محقّاً في الإشارة إلى الفئة الصامتة، لكنّه لم يشر إلى أن هذا “الصمت” لدى النساء خصوصاً، ليس حيرة بل استراتيجية بقاء وفعل. الكثير من النساء اخترن إعادة بناء ما تهدّم، أنشأن مبادرات للتوثيق والمساءلة، أدرن مراكز دعم، وخلقن فضاءات تضامن رقمية تتجاوز الرقابة والحدود. إنهن لا يطبّلن ولا يكدن، بل ينسجن العدالة من تفاصيل الحياة اليومية.
إقرأوا أيضاً:
وهنا أيضاً مشكلة “استراتيجيّة بقاء” لا تعني فقط أن المجال العامّ “مسموم” وممتلئ بالتهديد، وأن المرأة (كما الرجل) في حالة سوريا محرومة من الممارسة السياسية ضمن إطار الدولة، ودورها يقتصر على الماريونيت لإرضاء الكوتا المتواضعة، بل يعني أن نساء سوريات خاضعات لتهديد قد يودي بحياتهن لا فقط أصواتهن، والصمت هنا تظهر فيه “النجاة” كفعل ذي أثر مادّي لاستمرار حياة المرأة في ظلّ اللا نظام في سوريا والتهميش، الحياة بمعناها المادّي والجسدي التي تحوّلت إلى مادّة للاستعراض وصراع القوى، سواء كانت المرأة ضحيّة أم ناجية، أي بعد الثورة والإطاحة بالأسد، ما زالت النساء يقدّمن تنازلات للبقاء على قيد الحياة، لا الانخراط في الحياة السياسية بمعناها السيادي لا الخدمي والتشغيلي.
الإدانة والتحليل: غضب النساء عقل آخر
يُحسب للحاج صالح أنه يحاول دائماً وضع حدود واضحة بين التحليل والإدانة، لكن في واقع النساء، لا يمكن فصل الاثنين، فالإدانة هي التحليل ذاته، لأن الجريمة لا تكمن فقط في الفعل، بل في الثقافة التي سمحت به.
تُبيّن كارول جيليغان أن الأخلاق النسوية تقوم على “أخلاق الرعاية”، أي الإصغاء والتعاطف والمسؤوليّة المشتركة، لا على إصدار الأحكام من علٍ. أما أودري لورد فترى أن غضب النساء ليس تدميراً، بل طاقة معرفية تكشف حدود العدالة المزعومة.
غضب النساء، إذاً، ليس نقيض العقل، بل شكله الأصدق في مجتمع يطلب منهن الصمت باسم “السلم الأهلي”، والاختبار الحقيقي لشعار “قول الحقّ هنا والآن” لا يكون أمام السلطة فقط، بل أمام المجتمع ذاته. فالسلطة تعاقب الجسد، أما المجتمع فيعاقب السمعة، وحين تتعرّض كاتبات وناشطات للتشهير، قلّما يقف المثقّفون الذين يرفعون شعار العدالة إلى جانبهن، ذلك الصمت، كما كتب الحاج صالح نفسه “يسري مسرى السمّ في الجسد”.
“العدالة التواصلية”
ربما لا يكفي اليوم أن نبحث عن “المثقّف العاقل”، بل عن الإنسان المتضامن. لقد قدّمت النساء شكلاً جديداً من السياسة والأخلاق، قائماً على الإصغاء والرعاية وعدالة التشارك التي لا تقوم على التفوّق الأخلاقي، بل على الاعتراف المتبادل بالكرامة والضعف الإنساني.
نحن المخذولات الفاعلات، اللواتي خلقن مساراً رابعاً قائماً على العدالة التواصلية، العدالة التي تتحقّق حين تُسمع كلّ الأصوات لا حين يُحكم باسمها. لم ننتظر أن يُسمح لنا بالكلام، بل صنعنا فضاءنا الخاصّ، حيث الإصغاء فعل مقاومة، والاعتراف علاقة متبادلة.
مسارنا لا يرفع شعارات النقاء الأخلاقي، بل يمارس الأخلاق يومياً. لا يطلب التصفيق من النخبة ولا ينتظر اعتراف المؤسّسات، لأن شرعيته تأتي من الصمود في وجه الصمت.
كثيرات نحن، وأصواتنا متعدّدة ومختلفة، قرّرنا أن نصنع هذا الطريق بأيدينا، طريقأً يعرف أن العدالة ليست توازناً بين الغاضبين، بل انحياز لمن لا يُسمع صوتهن. طريق يعرف أن قول الحقّ لا يُختبر في مواجهة العدوّ فقط، بل في مواجهة الصديق، أي “السياسة” بمعناها الصرف، نحن اللواتي نحاول أن نجعل من العدالة علاقة حيّة، ومن قول الحقّ ممارسة يومية.
كثيرات نحن، اللاتي قرّرن إعلاء الصوت لا لأننا ندّعي تمثيل النساء، وكثيرات منّا ذوات أصوات “مسموعة”.
نقول ما يمليه علينا التعاطف، أي أن نكون مكان “الضحيّة”، تلك التي صودر صوتها وتصمت نجاةً. نحن اللاتي لن نسكت وإن نُعتنا بـ”الهاربة مع شريك عاطفي، والهيستيرية، والموتورة”… وسنقول الحقّ “الآن وهنا” لأن غيرنا صمتن “نجاةً” لا خوفاً.











