تعتبر عائلات سورية كثيرة إدلبَ الملاذ الأخير، وذلك بعد نزوحهم القسري من منازلهم إلى أنحاء أخرى من البلاد. لكن المحافظة مهددة بخطر أن تصبح ملاذاً بلا مخرج، وهو ما أطلق عليه ناشطون مصطلح “صندوق القتل” الذي لا مفر منه. يتحصن الجيش السوري، الذي يحظى بدعم القوات الروسية والإيرانية، في الجنوب والشرق.كما تُغلق القوات التركية التي تحتل منطقة عفرين السورية الطريق الشمالي، وتمكنت بمعاونة مسلحي الجيش السوري الحر(FSA) ، من الاستيلاء على منطقة في شكل هلال حول إدلب. وأقام الأتراك “مراكز مراقبة” لتطويق المنطقة. ولهذا السبب، فرّ عدد من لاجئي منطقة دمشق إلى جيب المتمردين في درعا. ولكن هناك أيضاً مخاوف من شن هجوم حكومي جديد.
باعتبارها آخر المحافظات المتبقية التي لا تخضع لسيطرة قوات بشار الأسد، تعد إدلب نقطة تجمع كل من معارضي نظام الرئيس السوري وأولئك الذين لا يملكون مكاناً آخر ليذهبوا إليه لكن وضعهم مريع، إِذْ يحتاج حوالى 1.7 مليون شخص إلى المساعدات الإنسانية.
ونُقِل سُكان الغوطة الشرقية، خارج دمشق، على متن حافلات إلى هناك بعد سقوط الجيب المحاصر في أيدي قوات النظام في وقت سابق من هذا العام. وحصلت عملية مماثلة الشهر الماضي، شارك فيها أشخاص من مخيم اليرموك للّاجئين ومدينة الحجر الأسود، قرب العاصمة.
كما أصبحت إدلب حلقة اتصال لجماعات المعارضة المسلحة، بينهم ما يُقدّر بحوالى 10 آلاف جهادي، كثيرون منهم على علاقة بتنظيم القاعدة، الذي يسيطر على جزء كبير من المحافظة. ويأتي الضغط على الأسد من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة بحق إيران: إِذْ تعتبر إدلب التي لم تخضع للسيطرة بعد حاجزاً أمام خطتها المتمثلة في إنشاء ممر بري إلى البحر المتوسط من طريق العراق وسوريا. وبعد سقوط الغوطة، قال علي أكبر ولايتي، أحد كبار مستشاري المرشد الأعلى في إيران، إن إدلب كانت التالية خلال عملية “التحرير”.
كما تضغط روسيا من أجل إنهاء الصراع الذي استمر 7 سنوات: وتم توجيه هذه الرسالة إلى الأسد من طريق فلاديمير بوتين شخصياً. وفي الوقت ذاته، ربما يفسر الأسد مخططات دونالد ترامب التي تهدف إلى سحب القوات الأميركية من سوريا، إضافة إلى وقف كل المساعدات الأميركية لإدلب، على أنهما ضوء أخضر.
محاصر من جميع الجهات
وحظي موقف الأسد بدعم جديد عندما تمكن في نهاية المطاف من السيطرة على جميع المناطق المحيطة بدمشق. ومن المتوقع تكثيف القصف الجوي الذي يحصل يومياً تقريباً على إدلب من قبل القوات السورية والروسية.
استخدم النظام الأسلحة الكيماوية مراراً وتكراراً في إدلب. لكن وعلى رغم هذا الاستنزاف، يرسم تقرير جديد بعنوان، “تحيا إدلب – قصة الأبطال المسكوت عنها”، من إعداد جماعة التأييد المستقلة المعروفة باسم “حملة سوريا”Syria Campaign ، و”المنظمة الدولية لمناهضة الحرب”، صورة استثنائية للمرونة الإبداعية والابتكار في خضم الشدائد المروعة، في الوقت الذي تقول الأمم المتحدة إن معدل المساعدات والمعونات الدولية قد انخفض إلى مستويات خطيرة.
تقود الكثير من هذه المبادرات المدنية غير الرسمية نساء، دفعتهن الحرب بشكل غير متوقع إلى اعتلاء مناصب قيادية. ويرجع هذا جزئياً إلى غياب الآباء والأزواج والأبناء الذين يقاتلون أو يُفقدون أو يموتون، كما يرجع أيضاً إلى انهيار الاتفاقيات والمحظورات التقليدية والاجتماعية التي تحدد للنساء ما يفعلنه وما لا يفعلنه.
عموماً، أثّر الصراع السوري بشكل غير متناسب في النساء والفتيات. فعلى وجه التحديد، أدت السيطرة الممتدة من الجماعات المتطرفة المحافظة إلى زيادة استبعاد النساء من الأدوار القيادية. ولكن تواجه النساء في إدلب الموقف. يقول التقرير: “في ظل التصدي للهجمات من النواحي كافة، يواصل المجتمع المدني عمله بفاعلية وتصميم مميزين. ففي المناطق المشهورة دولياً بالمجازر، هناك قصص لم تروَ بعد عن مئات الجماعات التي توفر الخدمات التي يحتاج إليها المدنيون من أجل البقاء”.
يقول التقرير إن مبادرات المساعدة الذاتية هذه، مثلها مثل أي تسوية سلمية مستقبلية مفروضة من الخارج، تشير إلى سبل المضي قدماً نحو سوريا ما بعد الحرب. “يمثل المجتمع المدني في إدلب أفضل فرصة أمام المؤسسات الحرة والديموقراطية… وتقف إدلب عند مرحلة حرجة، ولكن إذا استثمر السياسيون الدوليون والواهبون والمنظمات الدولية غير الحكومية ومقررو السياسات في المجتمع المدني، فسنشهد أفكاراً جديدة وستكثر الحلول”.
جعلتنا التجارب التي عشناها أكثر قوة
تعمل مريم شيروت مديرة ومعلمة للأطفال في أحد معاهد الدعم بعد المدرسة، كما تعتبر أيضاً مؤسسة مشاركة للمنظمة السورية للمرأة، إضافة إلى عملها مديرة لمكتب المرأة التابع لجماعةZoom In ، الناشطة مدنياً.
“نقوم بأنشطة كثيرة مع الطلاب، منها الطهو وتوزيع الطعام سوياً على العائلات ذوات الدخل المنخفض. فعندما أرى الأطفال قادمين إلى المركز تحت القصف، لأنهم يريدون قضاء بعض الوقت مع أصدقائهم ومعي، لا أفكر في التوقف أبداً”. كما أنها تجد بعض الوقت لمساعدة النساء على إيجاد عمل وبدء أعمالهن الخاصة.
“تتقن نساء كثيرات مهارات الخياطة: وحاولنا إطلاق ورشة عمل حول الخياطة، لتتمكن النساء من مشاركة الأفكار الخلاقة. وقامت إحدى النساء النازحات من دمشق بعمل رائع من خلال إعادة تدوير الملابس. في البداية، وجد المجتمع الأمر غير طبيعي بعض الشيء في أن ترى المرأة تقوم بأعمال متنوعة وتذهب إلى حيث تريد. والآن ينظرون إليّ كنموذج تحتذي به الفتيات الأخريات”.
“جعلتنا التجارب التي مررنا فيها أقوى. فلو أن الناس مكثوا في منازلهم تعبيراً عن حزنهم، لتوقفت الحياة منذ أمد طويل. لن تتوقف الحياة: نحن في حاجة إلى الاستمرار والعمل، فأنا مؤمنة بالعمل حتى آخر لحظة ممكنة”.
تعمل نورا حلبي (ليس اسمها الحقيقي) منسقة مشاريع لمراكز “نساء الخوذ البيضاء” (المعروفة أيضاً باسم الدفاع المدني السوري).
“توفر المراكز الإسعافات الأولية والقبالة كما تتخصص المراكز في إصابات النساء. وتقوم المتطوعات بحملات توعية لإعداد الناس للغارات الجوية والهجمات الكيماوية ويقدمن الإسعافات الأولية الأساسية والتدريب على التمريض. وتقع بعض المراكز في كهوف؛ والبعض منها محصن. كما نقدم متابعات للأشخاص المصابين في الغارات الجوية والنساء اللاتي يحتجن إلى عمليات ولادة قيصرية داخل منازلهن”.
“عندما بدأت المتطوعات الإناث الانضمام إلى الخوذ البيضاء، لم يكن المجتمع متقبلاً الفكرة. ولكن نظراً إلى أن بإمكاننا تقديم خدمات حيوية لا يستطيع المتطوعون الرجال تقديمها في مجتمعنا المحافظ، مثل رعاية النساء المصابات والدخول إلى المنازل والمدارس، فقد بدأ الناس إدراك الأثر الإيجابي لعملنا. وفي الوقت الحالي، يريد الناس ضم بناتهم إلينا”.
“تمثل السلامة أكبر التحديات التي نواجهها. فليست كل المراكز محصنة، حتى أن بعضها لا يتمتع بأقبية تحت الأرض، لذا تعتبر أبنيتها ضعيفة للغاية أمام الغارات الجوية، لا سيما أن مراكزنا تعدّ أهدافاً”.
يوضح رائد فارس مؤسس ورئيس “مجموعة اتحاد المكاتب الثورية للحملات الإعلامية” URB، أن معظم العاملين في اتحاد المكاتب الثورية نساء، إِذْ يُدِرن ستة مراكز للفتيات المراهقات، و12 مركزاً للأطفال والمحطة الإذاعية الأكثر شعبية في إدلب.
“على مدى عامين قمنا بتدريب 28 امرأة في الراديو، بينهن محررات ومذيعات. وفي العام الماضي، مُنِعت الموسيقى وصوت النساء من قبل هيئة تحرير الشام ( HTSإحدى الفصائل السلفية المسلحة). وتوصلنا إلى فكرة تغيير أصواتهن رقمياً لتبدو أشبه بأصوات الرجال. “ما يجعلني أكثر فخراً هو عملنا مع الفتيات المراهقات. تبادرت الفكرة إلى ذهني عندما رأيت أن كثيرين من الطلاب خارج سوريا لديهم وظائف بدوام جزئي وهو ما يمنحهم بعض الاستقلالية”.
“عندما فتحنا أول مركز للمرأة، لم يتقبل المجتمع ذلك. أمّا الآن فهناك عشرات المراكز وأصبح عمل المرأة أمراً طبيعياً. يريد الناس أن تعمل بناتهن في مراكزنا. نواجه 100 مشكلة كل يوم. ونعمل في ظل ظروف لا يعمل في ظلها إلا المجنون. لكنني سعيد بهذه الطريقة. فكلما زادت التحديات في طريقي، كلما زاد تصميمي”.
تدير أنون مدرسة ابتدائية للفتيات تضم 100 طفلة محلية ونازحة. فبعد إجبارها على الخروج من داريا، إحدى ضواحي دمشق، وتخليها عن مدرستها هناك، فتحت مدرسة في أطمة، على الحدود التركية.
“لم يكن لدينا أي خيار آخر للأطفال الذين نزحوا من داريا معنا. فلم تقبلهم أي مدرسة هنا. ووعدونا بمدرسة في المخيم، ولكن لم تفتح”.
“نوفر الكتب ودفاتر الكتابة. تحب طالباتي الرسم. وأقوم بإعداد المشاريع الفنية والحرفية لهن حول موضوعات قمن بدراستها في الحصص الأخرى. فعندما درسن الهرم الغذائي في العلوم، رسمناه في حصة الرسم”.
“لا توجد مكتبات لشراء القصص هنا، ولذا نحصل على ما هو متاح على الإنترنت”.
“يصعب العثور على مدرسين لديهم مهارات، لذا قمنا بإدارة ورش عمل تعليمية للمعلمين على يد مدربين جديرين بالثقة. نسمع تعليقات الآباء بأن أطفالهم يحبون المدرسة ولا يريدون أن يفوتوا يوماً واحداً، حتى عندما يمرضون. ينادي بعض الأطفال عليّ وعلى المعلمين الآخرين بكلمة ماما أو عمتي أو خالتي”.
تشغل مُزْنة منصب المديرة الإدارية في “مركز معرة النعمان للنساء”. درست الهندسة الطبية الحيوية في جامعة حلب قبل أن تبدأ إنشاء مركز تعليم مجاني للنساء سنة 2014.
“لدينا مركزان في إدلب – ومركز تمكين ومقهى مزود بالإنترنت للنساء. ولدينا غرفة رعاية نهارية وجليسات أطفال مدربات”.
“بدأنا من خلال برنامج القيادة، الذي يتضمن مجموعة من المهارات التي تؤهل المرأة لتولي مناصب اتخاذ القرار. وساعدت هذه المهارات نساءً كثيرات للحصول على عمل في المجالس المحلية والمنظمات المدنية. فبمجرد حضور المرأة الدورات الدراسية، تكتسب معرفة وتنشئ صداقات. وهذا وحده من شأنه دعمها وتمكينها. تقول لي أمي باستمرار: “أرى أحلامي تتحقق فيك”.
“يتعيّن على المرأة التي فقدت زوجها أن تصبح عائلةً لأطفالها. فبالنسبة إليهم، ما زالت الحياة قائمة. ولدينا رغبة في تحقيق آمالنا والاستقلال. عندما يشعر المجتمع حولنا بأثر النساء العاملات الإيجابي، فلن يقف ضدهن”.
“أعرف نساء كثيرات من برنامج القيادة اللائي تعملن حالياً فيما يمكث أزواجهن في المنازل مع الأطفال. وسواء كان هناك قصف أم لا، فستستمر الحياة. لدينا رغبة في العيش وتحقيق أحلامنا والاستقلال”.
هذا المقال مترجم عن موقع صحيفة the guardian ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي