ينشر موقع “درج” على حلقات كتاباً صدر هذا العام (2050) في نيويورك لكاتبه مارك دبوسي، وهو صحفي أميركي من أصل لبناني عاش في بيروت قرابة عشر سنوات. الكتاب، كما يقول عنوانه، يصف واقع الجمهوريات التي انقسم إليها ما كان يُعرف حتى العام 2040 بدولة لبنان. الحلقتان السابقتان تناولتا جبل لبنان وطرابلس. هنا الحلقة الثالثة.
لحظة وصولي إلى مدينة بعلبك، عاصمة جمهورية البقاع الإسلامية، كان زعماء العشائر البقاعية يجتمعون بهدف التوصل إلى حل يضع حداً لموجة الثأر التي ضربت جمهوريتهم في الأشهر الأخيرة. وبالفعل فقد التقى علي مهدي جعفر وعلي مهدي شمص وعلي مهدي علو وعلي مهدي زعيتر وباقي زعماء العشائر في قاعة قيل لي أنها كانت جزءاً من فندق لم يعد له وجود، كان اسمه بالميرا. هناك أتيح لي أن أستمع إلى خطاب علي مهدي شمص الذي افتُتح به المؤتمر، لأنه أكبر زعماء العشائر سناً، وذلك قبل أن يتم إخراج الصحافيين إلى خارج القاعة. وكان أكثر ما استوقفني في هذا الخطاب الذي استعرض تاريخ التصفيات الدموية المتبادلة فقرة تقول:
“إن أهلنا من عشيرة آل جعفر قتلوا جدّ جدّي قبل سبعين عاماً، ثمّ قتلنا نحن قبل خمسين سنة أحد شيوخ أهلنا من عشيرة آل جعفر، وعاد أهلنا الجعافرة قبل ثلاثين سنة ليقتلوا واحداً من أجدادنا…”. وعلى هذا النحو يستمر العرض وصولاً إلى يومنا الراهن، مع إصرار منه، رأيته مستغرباً جداً، على تكرار كلمة “أهلنا”.
لكن حين خرجت من القاعة وكانت تشكيلات من جيوش العشائر تحيط بها، وترفع أعلامها الخاصة والملونة، حصل اشتباك مسلح نتج عن أن أحد القادة العسكريين ثبّت ريشة صفراء في مقدمة خوذته الحربية. وما إن حاول قائد آخر الاستيلاء على الريشة التي أعجب بها حتى نشبت الاشتباكات التي أسفرت عن أربعة جرحى اثنان منهم في حالة خطرة.
هذا الوضع السياسي في جمهورية البقاع الإسلامية، والذي يصفه بعض الشبان هنا بحماوة الدم وقوة الكرامة “مما لا نستطيع السيطرة عليه”، لا يوحي بالاطمئنان إلى مستقبل الجمهورية واستقرارها. والحقيقة أنه منذ توقيع اتفاق الفجيرة للسلام قبل عشر سنوات لم يستقر الوضع السياسي في هذه الجمهورية على حال. فقد توافق زعماء العشائر على التناوب في ما بينهم على رئاسة الجمهورية بحيث يتسلمها كل واحد منهم لخمس سنوات، بحسب الترتيب الأبجدي لاسم العشيرة. لكن بما أن العشائر الكبرى هي عشر، فهذا ما فجر الأوضاع في العشائر التي يأتي ترتيبها الأبجدي متأخراً. ذاك أنه ما إن يصل إليها الدور حتى يكون قادتها الحاليون قد رحلوا. فضلاً عن ذلك، تأدى عن هذه الصيغة أن ثلاثة من أبناء الزعماء قتلوا آباءهم، وهو ما أشعل حروباً صغرى داخل تلك العشائر التي توصلت إلى ضرورة إعادة النظر بالصيغة كلها.
لكن مشاكل جمهورية البقاع الإسلامية تتعدى ذلك. فالسنّة على العموم مستاؤون جداً لأن دستور الجمهورية ينص صراحة على أن يكون الرئيس من الشيعة الإثني عشريين. وهذا التذمر الصامت لدى سنة مدينة بعلبك يتخذ شكلاً انفجارياً في بلدة عرسال السنية التي يقال أن وجهاءها ومثقفيها قد توصلوا، بعد طول تداول، إلى عدد من القرارات أهمها اعتماد منهج حرب العصابات “لتحرير عرسال وعموم سنة البقاع من الطغمة الكافرة والباغية”. ويبدو، وفق معلومات تمكنتُ مؤخراً من الحصول عليها، أن جبهة مقاتلة تشكلت باسم “جبهة تحرير عرسال والبقاع”، وأن “ألوية عمر بن الخطاب” في جمهورية طرابلس هي التي تتولى تدريب عناصرها الشابة في مخيم أقيم خصيصاً لهم في جرد القموعة في عكار. ولدى العرساليين مآخذ كثيرة أخرى على حكام جمهورية البقاع الإسلامية: فهي، برأيهم، ليست إسلامية على الإطلاق، خصوصاً وأن وزارة التربية أوقفت تدريس الدين واستبدلته بما سمي “الزراعات النافعة والممنوعة”. ويصرّ العرساليّون على ما يسمونه “فصل التجارة عن الأخلاق والدين”. “فنحن – كما شرح لي أحدهم – لسنا مضطرين إلى تقديس العشب لمجرد أننا نستفيد تجارياً منه، وبالطبع لا داعي لإغلاق كلية الطب وفرض التداوي بالأعشاب بوصفه الطب الأوحد، مع ما يرافق ذلك من غلق عيادات وتحريم ما يسمونه الطب الغربي”.
وبالانتقال المعاكس من نقد أخلاقي وديني إلى نقد تحكمه المصالح، يضيف العرساليون أن الحكام أخطأوا بحق أنفسهم قبل سواهم حين عاملوهم كمواطنين من درجة ثانية، علماً بأنهم هم، وفي كل الحالات، الأكثر خبرة في نقل تلك “الزراعات النافعة والممنوعة” إلى الجمهوريات السورية المجاورة وإلى باقي العالم.
وأخيراً يأخذ العرساليون على سلطة بعلبك “نزعة توسعية خطيرة” تتجسد في مطالبتها بضم البقاع الغربي إلى الجمهورية، مع أن الشيعة بين سكان البقاع الغربي لا يشكلون إلا أقلية نسبياً.
لكن التناقضات بين السنة والشيعة لا تختصر الحيوية الفائضة التي نشهدها في جمهورية البقاع الإسلامية. فمع أن قرار التحكيم الدولي لم يصدر حتى الآن في ما خص مدينة زحلة، إلا أن سائر المسيحيين الذين يعيشون في الجمهورية يسيّرون المظاهرات بشكل يومي جاعلين من موضوع زحلة تلخيصاً لمجموع مطالبهم الاستقلالية. لكن الواضح أن قلة خبرة الزحلاويين السياسية تدفعهم إلى رفع شعارات غريبة في مظاهراتهم، بحيث يحشدون في عبارة واحدة أكبر عدد من الرموز التي يتباهون بها ويعتبرونها دليلاً على خصوصيتهم. وبهذا المعنى لفتني شعار يقول: “سعيد عقل كان لا يأكل إلا الكبة الزحلاوية”، فعندما سألت: من هو عقل هذا؟ قيل لي أنه كان شاعراً توفي قبل أقل من نصف قرن، ولأن أحداً لم يقرأ شعره فقد ساد انطباع شامل بأنه عبقري.
ومن الواضح كم أن الزحلاويين يهتمون بما يرونه ميزات يمتازون بها عن سواهم: في الكبة التي يأكلونها، وفي الشجاعة التي ينسبونها إلى أنفسهم، ولكن أيضاً في ما يصفونه بالاهتمام بالثقافة والكتب. فهم، كما روى لي أحد مثقفيهم، باتوا أكبر مطبعة للكتاب في الشرق الأوسط بدليل أنهم طبعوا خلال شهر واحد خمسين ألف كتاب، أربعون ألفاً منها عن مار شربل، وهو قديس لدى المسيحيين الغربيين، وخمسة آلاف عن قديسين آخرين، وخمسة آلاف أخرى عن شؤون الحياة جميعاً. وفي نظرة سريعة إلى العناوين يدهشنا هذا الدوران حول قدرات مار شربل: “الفلسفة عند مار شربل”، “علم النفس عند مار شربل”، “الكيمياء عند مار شربل”، وهكذا دواليك…
وبدورهم يتولى سكان قرية عنجر خصوصاً، وهم من الأرمن، تلوين المطالب المسيحية بلون شديد الذاتية: فهم يشددون على أن تكون الأرمنيّة إحدى اللغات التي تدرّس إجباريّاً في أية دولة مسيحية تنشأ مستقبلاً في البقاع، كما يطالبون الدولة الموعودة باعتبار نفسها في حالة حرب دائمة مع تركيا. وحينما التقيت أستاذ تاريخ أرمنيّاً وصارحته بأنّني أرى في هذه المطالب قدراً من الغرابة، ضحك لي كأنّه يراعي جهلي وراح يشرح: “في هذه المنطقة من العالم تجري الأمور على نحو لا تفهمونه أنتم في الغرب. هل تعلم أنّ حزباً سياسيّاً عاش طويلاً بيننا، ولم يختف من الوجود إلا قبل عشرين عاماً، كان يطالب بوحدة البلدان التي كانت تُعرف بلبنان وسوريّا والأردن والعراق وجزيرة قبرص. نعم، جزيرة قبرص. بعد هذا، هل تعتبر ما أطالب به غريباً!؟”.
لكنْ في شمال الجمهورية، وفي قرى وبلدات دير الأحمر وراس بعلبك والقاع المسيحية يترافق الشعور الانفصالي مع حدة نضالية تطالب بمباشرة العمل العسكري فوراً، خصوصاً وأن سكان هذه القرى والبلدات ما عادوا يحتملون تعييرهم بأنهم طابور خامس لجمهورية الجبل المسيحية، بسبب علاقتهم الوثيقة مع بلدة بشري المارونية والجبلية.
ما يزيد الطين بلة أن الصلات ما بين الشيعة والشيعة ليست أيضاً على ما يرام. فهناك في جمهورية البقاع الإسلامية أكثر من بؤرة انفصالية واحدة. فقرية اليمونة بدأت تطالب بالحكم الذاتي رغم أن سكانها يقلون عن ألف شخص، وحجتها أنها مكتفية اقتصادياً بفعل زراعتها، وأنها لكثرة الأجانب التي عاشوا فيها بسبب تعلقهم بمنتجاتها الزراعية، تملك رصيداً كبيراً من “الصداقات الأجنبية” التي تحميها. وكمثل اليمونة الصغيرة، تطالب بالاستقلال قرية شمسطار الكبرى التي يقول بعض سكانها بـ”التفوق الحضاري” عن باقي سكان الجمهورية. مع هذا يبدو أن التحالفات العائلية في شمسطار على أهبة الانفجار الدموي في أية لحظة رغم توافقها جميعاً على الانفصال: فعائلة الحسيني مدعومة بعائلة دياب تقف في مواجهة عائلة الحاج حسن مدعومة بعائلة سلمان. ويذهب التحالف الأول إلى أن الطور الذي يلي الاستقلال ينبغي أن يصحبه بناء “علاقات مميزة” مع جمهورية الجبل المسيحية، بينما يصر التحالف الثاني، الذي يسمي شمسطار “سويسرا البقاع”، على الحياد الكامل حيال جمهوريتي البقاع والجبل كما حيال جمهورية حمص في سوريا السابقة.
في المقابل، تطالب قرية النبي شيت بالانفصال لأسباب ثقافية – دينية، إذ تضم مقامات ثلاثة للنبي شيت (الذي تحمل اسمه) ولأبي الفضل العباس ولعباس الموسوي، وهم رموز دينية وسياسية شيعية عاشوا في مراحل مختلفة. فوق هذا، يردد الشبان المتحمسون الذين أسسوا “الحزب الراديكالي للنبي شيت” أن اسم نبيهم مذكور في القرآن بوصفه الأخ الثالث لقايين وهابيل. إلا أن هذا كله يبقى بسيطاً بالقياس إلى مشكلتين أخريين، أولاهما أن بعض العشائر ذات الأصول الهرملية تطالب بنقل العاصمة من بعلبك إلى الهرمل. وفي شرح هذا الموقف يقال أن ما يسمونه “الهرمل الكبرى” أكثر صفاء دينياً ومذهبياً من بعلبك، وبالتالي أكثر “أصالة”، وهذا فضلاً عن أنها الموقع الصدامي المباشر مع “ألوية عمر” و”أبناء بن سيفا” وباقي المسلحين السنة من جهة عكار في جمهورية طرابلس الإسلامية.
أما المشكلة الأخرى فيثيرها آل حيدر، وهي عائلة بعلبكية كبيرة هجّر آل ياغي قبل تسعة عقود نصف أهلها إلى بلدة بدنايل. وقد حدّثني عن ذلك أستاذ تاريخ في مدرسة ابتدائية يلقّبه أقاربه المتعلمون ببسمارك حيدر، قاصدين أنه سيعاود توحيد آل حيدر مثلما وحد بسمارك ألمانيا. وبحسب هذا الأستاذ المتحمس لن ينام جفن لأي حيدري قبل إعادة الوحدة العائلية واستعادة الأراضي السليبة والمغتصبة التي أُجلوا عنها وحل فيها آل ياغي. وقد ألمح لي أن عائلته تخطط لاستقدام عناصر للقتال معها من الأقارب في منطقة جبيل الواقعة في جمهورية الجبل المسيحية ممن يعانون هناك “التسلط المسيحي”.
وليعذرني القارىء إذا صارحته بالقول إن جمهورية البقاع الإسلامية أتعبتني بمشاكلها الكثيرة وبعدم اتفاقها على أي شيء. وفيما أنا أحزم حقائبي كي أغادرها كان السكان يحتفلون بما يسمونه “عيد تبادل السبايا” بين البقاع وحمص. وهو عيد غريب يُحتفل به مرة في السنة، فيرد البقاعيون للحماصنة ما خطفوه من سبايا حمصيات إبان الاشتباكات التي تدور بين الطرفين خلال العام، كما يبادلهم الحماصنة الشيء نفسه. هذا الاحتفال يتم اليوم في قلعة بعلبك الرومانية التي علمت من كتب التاريخ أنها كانت، قبل أربعة عقود فقط، مقراً لمهرجانات فنية ذات طابع دولي.