fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

وهم الحد الأدنى للأجور في مصر…لماذا سيبقى المصريون يعانون الفقر؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مؤخراً، استبق السيسي قرار التعويم الرابع في أقل من عامين، والخامس منذ 2016، بإعلان رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6000 جنيه، ضمن حزمة ضخمة، قدرت بـ180 مليار جنيه، استهدفت التهدئة الاجتماعية، وكالعادة ضربت مواقع كثيرة عرض الحائط بهذا القرار، منها شركات كبرى، كشركة طلعت مصطفى المقربة من النظام.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في أعقاب “ثورة يناير” عام 2011، كان مطلب تحسين الحد الأدنى للأجور، هو أكثر مطالب الحركة العمالية عموماً، وهو أيضاً واحد من المطالب القليلة جداً؛ إن لم يكن المطلب الوحيد، الذي حقّق فيه العمال قدراً من التقدّم الملموس حتى الآن.

لكن هل هذا الاستنتاج حقيقي أو كافي في ظل التدهور الاقتصادي المعيشي الحاصل حالياً في مصر؟ 

فوفقاً لقرار رئيس الوزراء رقم 631 لسنة 2024، الصادر في مارس/ آذار الماضي، ارتفع الحد الأدنى لأجور العاملين لدى أجهزة الدولة والهيئات العامة الخدمية والاقتصادية إلى 6000 جنيه، ووفقاً لقرار وزارة التخطيط رقم 27 لسنة 2024، الصادر في إبريل/ نيسان، أصبح الحد الأدنى لأجور قطاع الأعمال العام والخاص 6000 جنيه (124  دولار) هو الآخر، شاملاً حصة صاحب العمل في التأمينات الاجتماعية.

للوهلة الأولى يبدو حجم الإنجاز في هذا المجال ملموساً، لكنه ما زال غير كافٍ، في ظل التضخم والارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع الأساسية، كما أن تعقب تطور الأمر خطوة بخطوة، والغوص في التفاصيل، يجعل هذا الإنجاز مجرد وهم، فالشيطان يكمن في التفاصيل!

قبل الثورة…ضجيج بلا طحن

لطالما كانت سياسة الحد الأدنى للأجور في مصر، موضوع اهتمام وجدل، في عام 2003 نصت المادة 34 من قانون العمل رقم 12، السارية أحكامه على قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص، على إنشاء مجلس قومي للأجور، تكون مهمته وضع حد أدنى للأجور على المستوى “القومي”، ووضع حد أدنى للعلاوة السنوية، بما لا يقل عن 7% من الأجر الأساسي، وحدد قرار رئيس الوزراء رقم 983 لسنة 2003، تشكيل المجلس من وزير التخطيط رئيساً، وثمانية مسؤولين حكوميين بحكم مناصبهم، وأربعة ممثلي منظمات أصحاب الأعمال، وأربعة ممثلي عمال يختارهم اتحاد العمال، الذي لا يضم سوى عضوية إجبارية لا تزيد نسبتها على 10٪ من القوى العاملة، المأساة أن المجلس ظل يجتمع بتشكيله المعيب هذا، لسنوات طويلة، من دون إصدار أي قرار بشأن الحد الأدنى للأجور.

وفي فبراير/ شباط 2008، تظاهر الآلاف من عمال شركة “غزل المحلة”، ورفعوا مطلب الحد الأدنى للأجور، في أول مرة يرفع فيها عمال، مطلباً على المستوى القومي، وليس مطلباً خاصاً، وتشكلت بعدها مجموعات عمالية وسياسية سعت إلى اللجوء إلى القضاء الإداري، للمطالبة بإلزام المجلس القومي للأجور، بتحديد حد أدنى قدروه حينها بـ1200 جنيه (25 دولار)، وفعلاً، في مارس/ آذار 2010، صدر حكم المحكمة الإدارية العليا، بإلزام المجلس بأداء مهمته، ولكن حكم المحكمة لم يغير من الأمر شيئاً، إذ يبدو أن تحديد حد أدنى للأجر، كان يتطلب اندلاع ثورة!   

حكومة الثورة…تمخض الجبل فولد فأراً!

كان منتظراً من أول حكومة بعد الثورة، أن تُقر حداً أدنى متساوياً للأجور، 1200 جنيه (25 دولار) على أقل تقدير، لكل عامل بأجر على المستوى القومي، وهو المطلب الذي طالما نادى به العمال والموظفون وحركة التغيير في سنوات ما قبل الثورة، ولكن تمخض الجبل فولد فأراً، وبدلاً من ذلك، اكتفت حكومة شرف بإعلانها رفع الحدّ الأدنى لأجور العاملين في الدولة إلى 700 جنيه (14 دولار)، بدءاً من يوليو/ تموز 2011، ووعد وزير المالية سمير رضوان، بأن يُرفع إلى 1200 جنيه على مدى السنوات الخمسة التالية، لكن لم يتسن لرضوان الوفاء بوعده، إذ استقال قبل نهاية الصيف ذك العام. 

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2011، أعلن المجلس الأعلى للأجور أخيراً ولأول مرة، تطبيق الحد الأدنى المساوي ـ700 جنيه على قطاع الأعمال العام والخاص، ولكنه كان قراراً صورياً في ظل غياب أية آلية لتنفيذه، علاوة على ذلك أعفى القرار الشركات التي فيها أقلّ من عشرة موظفين، وهي نسبة كبيرة من إجمالي المنشآت الإنتاجية، وأُعفيت أيضاً، الشركات التي تقدّم “دليلا كافياً” على أنها لا تستطيع رفع الرواتب، كما استُثني من تطبيق هذا القرار، بعض القطاعات النوعية والمناطق الجغرافية التي “ستتأثر قدرتها التنافسية”، على أن يحددها الوزير المختص، كما نص القرار على أن الزيادة في الأجر لن تخضع للوعاء التأميني، وعلى أنها تطبق بعد فترة تدريب تتراوح بين 6 أشهر وسنة. 

دُفن بعد ذلك موضوع الحد الأدنى للأجور، ولم ير النور ثانية خلال السنوات الأولى للثورة، وهو ما يدعو للتساؤل؛ لماذا عجزت الثورة عن تحقيق مطلب جماعي مثل الحد الأدنى للأجور؟ ولماذا لم نر مليونية من المليونات، التي كان يُدعى إليها بعد تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك، بهدف الضغط لتحقيق مطلب ما، ترفع مطلب الحد الأدنى؟ ولماذا لم تنجح الحركة العمالية؛ وهي في أوجها، في تنظيم احتجاج جماعي يرفع هذا المطلب، بدلاً من رفع كل موقع له على حدة؟ ولماذا لم يتبن كثير من الثوار مطالب الحركة العمالية؟ ولماذا أعطى من حكموا باسم الثورة، وخاصة الإخوان ظهرهم للعمال؟ محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ستزيل كثيراً من الأوهام بشأن من أُطلق عليهم “معسكر الثورة”، بل وعن الحركة العمالية نفسها. 

30 يونيو…فرق تسد

بعد 30 يونيو/ حزيران 2013، تم استدعاء “كارت” الحد الأدنى للأجور مرة أخرى، وكما استخدمته حكومة المجلس العسكري في لحظات التقلبات السياسية، استخدمته حكومة حازم الببلاوي، وأعلنت في سبتمبر/ أيلول 2013 رفع الحدَّ الأدنى لأجور العاملين في الحكومة إلى 1200 جنيه، إلا أن الحكومة اختارت ألا تذكر مسألة الـ1200 جنيه صراحة، وفي قرار رئيس الوزراء رقم 22 لسنة 2014، الذي صدر بعد فترة، ولسبب غير مفهوم، تم طرح الموضوع باعتباره علاوة. 

إضافةً إلى ذلك، لم تطبق الحكومة الحد الأدنى على العاملين كافة في الدولة، واكتفت بالموظفين المدنيين، فتلك الشريحة التي تبلغ حوالي 4.5 مليون موظف، هي قاعدة اجتماعية لها أهمية سياسية بالغة، جعلت نظم الحكم المتتالية طيلة العقود الماضية، تعول على كسب ولائها، أو على الأقل تحييدها عن أي صراع، في حين تم استبعاد العاملين في الشركات والهيئات التابعة للدولة، وغير الخاضعة لقانون الخدمة المدنية، مما أدّى إلى موجه من الاحتجاجات، كانت سبباً لتقدم حكومة الببلاوي باستقالتها، فأضرب عاملون في مديريات المساحة، وهيئات الأوقاف والنظافة والتجميل والطرق والكباري (الجسور) وعاملون في الأحياء والمدن، وعمال قطاعات حيويّة كالبريد والنقل العام، و12 شركة تابعة لقطاع الأعمال العام للغزل والنسيج، واضطر النظام إلى مراضاة بعض القطاعات على حدة، كالمعلمين والأطباء، من خلال إصدار قرارات خاصة بها.

بعد ذلك، ظل الحد الأدنى للأجور ثابتاً لخمس سنوات، اتسمت بالقمع الشديد، فخمدت الاحتجاجات باستثناءات قليلة، كتنظيم عمال “تي إي داتا” في 2016، وقفة احتجاجية أمام الشركة، مطالبين بتطبيق الحد الأدنى للأجور، وفي 2019، نظم العاملون بالتغذية المدرسية وعمال شركة السكك الحديدية للخدمات المتكاملة، وقفات مماثلة، ولكن عندما حاول عمال الشركة المصرية للصيانة وخدمات السكك الحديدية (ايرماس) ممارسة الحق نفسه، ألقت قوات الأمن القبض على بعضهم بتهمة التحريض، بينما كان نصيب عاملين في الترسانة البحرية، المحاكمة العسكرية بالحبس سنة مع الإيقاف، وغرامة 2000 جنيه، والفصل من العمل.   

لكن مع نهاية تطبيق حزمة إجراءات أوصى بها صندوق النقد الدولي؛ أضرت بالفقراء، وبالتزامن مع التعديلات الدستورية، صدر فجأة قرار رئيس الوزراء رقم 1627 لسنة 2019 بتحديد حد أدنى للأجور قدره 2000 جنيه، لهذا القرار أهمية خاصة، ليس فقط لأنه شمل العاملين لدى أجهزة الدولة والهيئات العامة الخدميـة والاقتصادية (حوالي 300 ألف عامل) وليس لأنه لم يكتف بتحديد حد أدنى للأجور، ولكن حدد الحدود الدنيا لكل الدرجات، انتهاءً بـ7000 جنيه للدرجة الممتازة، ولكن لأنه يُعد الأساس الذي تمت عليه كل التعديلات اللاحقة.  

ماطلت كثير من المواقع، على رأسها التعليم والصحة ووزارات النقل والشباب والرياضة والثقافة، في تنفيذ القرار، مما دفع بكثير من العاملين إلى تقديم شكاوى، أيدتها طلبات إحاطة من بعض أعضاء مجلس النواب، وتم تعديل القرار في العام نفسه، بقرار رئيس الوزراء رقم 2421، ولكن لتعذر الحصول على نص القرار، لا نعلم تحديداً ما الذي تم تعديله.

طوال هذه الفترة لم تصدر أية قرارات بشأن العاملين في قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص، فقد توقف المجلس القومي للأجور عن الاجتماع من سبتمبر/ أيلول 2013، حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، ليصدر قرار رئيس الوزراء رقم 2659 لسنة 2020، بإعادة تشكيله وتحديد اختصاصاته، وإضافة أربعة خبراء إلى المسؤولين الحكوميين، ويصبح عدد ممثلي أصحاب الأعمال والعمال ستة لكل منهما، وتضاف عبارة “مع مراعاة اختلاف الحد الأدنى للأجور من إقلـيم لآخـر، وكذلك بين الأنشطة الصناعية والخدمية”، وتختفي قيمة الـ7% كحد أدنى للعلاوة الدورية! 

لجأ النظام خلال هذه الفترة، إلى تجزئة مطالب الحركة العمالية بقصد إقرار الحد الأدنى، في البداية، على العاملين في الجهاز الإداري للدولة، ثم عليهم وعلى العاملين في الهيئات العامة الخدميـة والاقتصادية، الذين احتجوا بكثافة، على إثر القرار السابق، مع استبعاد عمال قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص.

عندما أصبح التعويم عنوان المرحلة

خلال الخمس سنوات الأخيرة، وعلى إثر الزيادات المستمرة في الأسعار مع تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار، كشرط من شروط صندوق النقد الدولي، تم رفع الحد الأدنى لأجور العاملين، لدى أجهزة الدولة والهيئات العامة الخدميـة والاقتصادية، بموجب قرارات رئيس الوزراء أرقام 1455 لسنة 2021، و1325 لسنة 2022، و4017 لسنة 2022، و1408 لسنة 2023، ليرتفع الحد الأدنى للأجور إلى 2400، و2700، و3000، و3500 جنيه، على التوالي.

خلال ذلك، أعلنت منظمة العمل الدولية في عام 2020، أن الدول التي يحظى فيها فقط العاملون في القطاع الحكومي بأجر أدنى، لا تُعتبر من الدول المطبقة للحد الأدنى للأجر، ليفيق فجأة المجلس الأعلى للأجور من غيبوبته، ويعلن أخيراً بعد ثبات لمدة عشر سنوات طوال، عن رفع الحد الأدنى لأجور العاملين في قطاع الأعمال العام والخاص إلى 2400 جنيه، وفقاً لقرار وزير التخطيط رقم 57 لسنة 2021، الذي أعفى الشركات التي تتعرض لظروف اقتصادية، يتعذر معها الوفاء بالحد الأدنى للأجور. 

وتحت ذريعة الضغوط الاقتصادية التي فرضتها جائحة كورونا، تم التقدم للمجلس بطلبات للاستثناء بلغت 3090 طلباً فردياً، و2855 طلباً من 22 قطاع فيها 2855 شركة، على رأسها السياحة والملابس الجاهزة، وخدمات الأمن والحراسة، وشركات الأوراق المالية، ومحالّ التجزئة، إضافة إلى الرعاية الصحية، والمقاولات ومواد البناء، والصيدلة والتعليم، وإلحاق العمالة بالخارج والجمعيات الأهلية.

في يوليو 2021، أضرب عمال “لينين جروب” لإجبار شركتهم على تطبيق الحد الأدنى، علماً أن الشركة تصدر 70% من صادرات مصر من المفروشات المنزلية، بما يشير إلى عدم وجود أزمات لديها، المفارقة أن ثلاثة من ممثلي أصحاب الأعمال في المجلس، ذكروا في أحاديث صحافية أن قرار المجلس بزيادة الحد الأدنى للأجور قرار استرشادي وغير ملزم.   

وعلى خلاف القرارات الخاصة بالعاملين لدى الدولة، الصادرة في هذا التاريخ، لم ينص القرار على زيادات متدرجة للأجور بشكل عام، بل إنه قلص العلاوة السنوية لتصبح 3%، بحد أدنى ستون جنيهاً، بخلاف القانون، على الرغم من أن هذه العلاوة هي الوسيلة الوحيدة لزيادة الأجور في القطاع الخاص، بعد أن توقف المجلس القومي للأجور منذ 2013، عن إصدار قرارات خاصة بعلاوات غلاء المعيشة للعاملين في القطاع الخاص، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدل ‏الاحتجاجات، وبالتالي زيادة عدد “الإجراءات الاستثنائية” المتخذة في حق العمال. ربما تكون تلك الاحتجاجات هي السبب في إعلان مجلس الوزراء لأول مرة، زيادة الحد الأدنى لأجور الشركات الخاضعة لقانون قطاع الأعمال العام، في يوليو 2022،  بقيمة 2700 جنيه، شاملاً البدلات والأجر الأساسي والعلاوات والحوافز،‏ لكنه لا يشمل الأرباح السنوية. 

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2022، أقر المجلس الأعلى للأجور الحد الأدنى للأجور المساوي ـ2700 جنيه، وعلاوة سنوية 3% بحد أدنى 100 جنيه، وصدر بذلك قرار وزيرة التخطيط رقم 103 لسنة 2022، الذي لم يستثنِ هذه المرة أية منشأة من التنفيذ، ولكن هذا لم يحل المشكلة، فأصل المشكلة يكمن في أن العقوبات المنصوص عليها في المادة 247 من قانون العمل، لم تتضمن المادة 34 الخاصة بالمجلس الأعلى للأجور، وبما أنه لا عقوبة إلا بنص، فلا يمكن توقيع هذه العقوبات على الشركات، التي تمتنع عن تطبيق الحد الأدنى للأجور والعلاوة الدورية، فضرب الكثير من أصحاب الأعمال بالقرار عرض الحائط، وفي يونيو / حزيران 2023، رفع المجلس القومي الحد الأدنى للأجور، مرة ثانية، ليصبح 3000 جنيه، وبناء عليه صدر قرار وزارة التخطيط رقم 46 لسنة 2023، وسط اعتراضات قوية لضآلة المبلغ، مقارنة بارتفاع الأسعار، ولإن القرارات الوزارية تُعد حبراً على ورق، دأب أصحاب الأعمال على التملص من تنفيذها، في ظل عدم وجود آلية ملزمة.

وفي سبتمبر/ أيلول 2023 أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي حزمة من القرارات الاقتصادية، تضمنت رفع الحد الأدنى للأجور إلى 4000 جنيه، فصدر  قرار رئيس الوزراء رقم 4220 لسنة 2023، فيما يخص العاملين في الحكومة والهيئات الاقتصادية والخدمية، لكن المجلس القومي للأجور اكتفى بـ3500 جنيه، وعلاوة سنوية 3% بحد أدنى 200 جنيه، وهو ما أقره قرار وزيرة التخطيط رقم 90 لسنة 2023

ما يحدث الآن

مؤخراً، استبق السيسي قرار التعويم الرابع في أقل من عامين، والخامس منذ 2016، بإعلان رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6000 جنيه، ضمن حزمة ضخمة، قدرت بـ180 مليار جنيه، استهدفت التهدئة الاجتماعية، وكالعادة ضربت مواقع كثيرة عرض الحائط بهذا القرار، منها شركات كبرى، كشركة طلعت مصطفى المقربة من النظام.

وفي نهاية فبراير/ شباط أضرب الآلاف من عمال شركة “غزل المحلة“، مطالبين بتطبيق قرار الحد الأدنى للأجور على الشركات التابعة لوزارة قطاع الأعمال العام، وهو ما دفع وزير قطاع الأعمال العام إلى إصدار القرار رقم 16 لسنة 2024، لكن في الوقت نفسه تم احتجاز العشرات من عمال الشركة، وتفاوتت فترات الاحتجاز، فبينما أُطلق سراح أغلبهم بعد استجوابهم، بقي عاملان قيد الحبس احتياطياً، بتهمة نشر أخبار كاذبة، والانضمام إلى جماعة أُسست على خلاف القانون، وأُضيف إلى القضية أشخاص لا تربطهم بهما أية صلة، في الوقت الذي وجهت فيه إدارة الشركة إنذارات بفصلهما بحجة التغيب عن العمل، ليُطلق سراحهما بعد ثلاثة أشهر، على ذمة القضية.

ومع ذلك، ورغم القمع، كان هناك تأثير واضح لإضراب المحلة، إذ تبعه موجة احتجاجات رافعة مطلب الحد الأدنى، من ضمنها عمال شركة الزيوت والصابون بأسيوط، وشركة يونيفرسال لإنتاج الأجهزة الكهربائية، والشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، و شركة الضفائر الكهربائية (ليوني) وشركة النيل للطرق والكباري، وشركة الإسكندرية للإنشاءات.

جذر المشكلة

قرار رفع الحد الأدنى للأجور خطوة في الاتجاه الصحيح دون شك، ولكنها لن تحل المشكلة، فمشكلة الحد الأدنى للأجور في مصر، أعمق من ذلك بكثير، وجذر المشكلة هو أن النظام لا يتعامل مع الموضوع باعتباره حقاً، ولكن كهبة، يحدد قيمتها كيفما شاء، متجاهلاً الطرق المتبعة في سائر دول العالم، ويهبها لمن يشاء ووقتما يشاء، لأسباب تخصه هو وليس العمال. 

لو كان يعتبر الأمر حقاً، لأصدر قانوناً خاصاً به، كما يفعل مع الحد الأقصى للأجور للعاملين لدى الدولة، ولنص في القانون على عقوبة تقع على من لا يطبق الحد الأدنى للأجور من أصحاب الأعمال، هذا لا يعني مطالبة النظام بفرض حد أدنى للأجور على القطاع الخاص، فهو أمر ممكن أن يُترك للتفاوض بين الحكومة وأصحاب الأعمال والعمال، ولكن بشرط وجود تنظيمات نقابية، تُعبر بشكل فعلي عن العمال وتدافع عن حقوقهم، ولكن هذا حق آخر سُلب من العمال، ليس هذا فقط، بل إن النظام جرد العمال من أدواتهم الاحتجاجية، بترسانة من القوانين المكبلة للحريات، مما زاد من سوء وضعهم التفاوضي، وجعلهم عرضة لأعمال انتقامية، من بينها الاعتقال، في حال مطالبتهم بالحد الأدنى، كما حدث مع عمال “سمنود للوبريات“، عندما أغلقت شركتهم لأجل غير مسمى، وعمال شركة “لورد” في الإسكندرية، الذين كان جزاؤهم حسم الرواتب وتخفيضها أو الفصل، وعمال شركة “كريازي“، الذين تم القبض على عدد منهم في منازلهم، ووجهت لهم النيابة اتهامات بالتظاهر بدون تصريح، والدعوة إلى الإضراب وتعطيل سير العمل. 

وجود حد أدنى للأجور في قطاع الأعمال العام والخاص في مصر، مجرد كذبة لا يُستهدف منها إلا الدعاية، لكن حقيقة الأمر أن المجلس القومي للأجور، يجتمع كيفما اتفق وبمن اتفق، ليصدر قرارات يعتبرها أصحاب الأعمال غير إلزامية، ولا توجد أية آلية لتظلم العمال عند عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور في شركاتهم، ولا يستطيعون الاحتجاج نتيجة لقوانين منع الإضراب والتظاهر، ولا يستطيعون رفع قضية أمام القضاء، لعدم وجود نص قانوني، يجرم عدم الوفاء بالحد الأدنى أو العلاوة الدورية، في حين يمكن لأصحاب الأعمال التظلم أمام المجلس، بذريعة عدم القدرة على تطبيق قراراته، أو ببساطة تجاهلها فهي “ليست إلزامية”.

استثناء المشروعات التي يقل عدد العمال فيها عن 10 عمال، فيه محاباة شديدة لأصحاب الأعمال، نفهم أن يمنح النظام لهذه المشروعات استثناءات، من جيبه وليس من جيب الغلابة، التي تقوم هذه المشاريع على أكتافهم، فما ذنب العامل إذا كان يعمل في منشأة كبيرة أو صغيرة؟ فهو في النهاية، إنسان يدفع التكلفة نفسها مقابل الغذاء والمسكن والصحة والتعليم والضروريات الأخرى، ولذلك عرفت منظمة العمل الدولية الحد الأدنى للأجور، بأنه الحد الأدنى من الأجر المطلوب من صاحب العمل، ولا يمكن تخفيضه باتفاق جماعي أو عقد فردي. 

العلاوة الدورية مهزلة أخرى، خاصة في القطاع الخاص، فالنسبة المنطقية الوحيدة، هي أن تتجاوز نسبة التضخم، أي شيء بخلاف هذا، يعني أن الأجر الفعلي للعامل، لا يرتفع مع زيادة سنوات عمله.

وبتأمل معدلات التضخم التالية، نجد أن في الواقع أن أجور العاملين في القطاع الخاص، قد تآكلت عبر السنين، بزيادة سنوية 7%، استكثرها النظام عليهم، وأصبحت بقدرة قادر 3%.

العاملون في الحكومة والهيئات الاقتصادية والخدمة وعمال القطاع العام (نحو 150 ألف عامل) وقطاع الأعمال العام، أكثر حظاً، إذ يحصلون على الأقل، على علاوة دورية نسبتها 7% من الأجر الأساسي.  

السنةمعدل التضخم
202326.70%
202213.90%
20215.21%
20205.04%
20199.15%
201814.40%
201729.51%
201613.81%
201510.37%
201410.07%
20139.47%
20127.11%
201110.06%

الحد الأدنى للأجر بالتعريف، هو أقل أجر يمكن أن يحصل عليه أي عامل، ويحصل عليه أي شخص يدخل حديثاً إلى سوق العمل، كشخص بلا خبرة قليل المهارات، في مصر ما زلنا نحارب كي يحصل عليه من أمضوا 10 و20 و30 سنة عمل. 

وفقاً لمنظمة العمل الدولية، 20% من عمال مصر يعملون لدى الدولة، هؤلاء فقط، يتمتعون بقرارات الحد الأدنى للأجور، بينما يعمل في القطاع الخاص بشكل رسمي 11%، يبلغ عددم نحو 2.5 عامل، تُرك مصيرهم هم ونصف مليون يعملون في قطاع الأعمال العام، في يد إدارات الشركات وأصحاب الأعمال، في ظل عدم وجود أية آلية لإلزامهم بشيء، بينما لا يملك 37% يعملون في القطاع الخاص الرسمي بلا عقود عمل ولا أية مظلة تأمينية أو صحية، إضافة إلى 40% يعملون في القطاع غير الرسمي، رفاهية مجرد الحلم بالحد الأدنى. 

16.07.2024
زمن القراءة: 12 minutes

مؤخراً، استبق السيسي قرار التعويم الرابع في أقل من عامين، والخامس منذ 2016، بإعلان رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6000 جنيه، ضمن حزمة ضخمة، قدرت بـ180 مليار جنيه، استهدفت التهدئة الاجتماعية، وكالعادة ضربت مواقع كثيرة عرض الحائط بهذا القرار، منها شركات كبرى، كشركة طلعت مصطفى المقربة من النظام.

في أعقاب “ثورة يناير” عام 2011، كان مطلب تحسين الحد الأدنى للأجور، هو أكثر مطالب الحركة العمالية عموماً، وهو أيضاً واحد من المطالب القليلة جداً؛ إن لم يكن المطلب الوحيد، الذي حقّق فيه العمال قدراً من التقدّم الملموس حتى الآن.

لكن هل هذا الاستنتاج حقيقي أو كافي في ظل التدهور الاقتصادي المعيشي الحاصل حالياً في مصر؟ 

فوفقاً لقرار رئيس الوزراء رقم 631 لسنة 2024، الصادر في مارس/ آذار الماضي، ارتفع الحد الأدنى لأجور العاملين لدى أجهزة الدولة والهيئات العامة الخدمية والاقتصادية إلى 6000 جنيه، ووفقاً لقرار وزارة التخطيط رقم 27 لسنة 2024، الصادر في إبريل/ نيسان، أصبح الحد الأدنى لأجور قطاع الأعمال العام والخاص 6000 جنيه (124  دولار) هو الآخر، شاملاً حصة صاحب العمل في التأمينات الاجتماعية.

للوهلة الأولى يبدو حجم الإنجاز في هذا المجال ملموساً، لكنه ما زال غير كافٍ، في ظل التضخم والارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع الأساسية، كما أن تعقب تطور الأمر خطوة بخطوة، والغوص في التفاصيل، يجعل هذا الإنجاز مجرد وهم، فالشيطان يكمن في التفاصيل!

قبل الثورة…ضجيج بلا طحن

لطالما كانت سياسة الحد الأدنى للأجور في مصر، موضوع اهتمام وجدل، في عام 2003 نصت المادة 34 من قانون العمل رقم 12، السارية أحكامه على قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص، على إنشاء مجلس قومي للأجور، تكون مهمته وضع حد أدنى للأجور على المستوى “القومي”، ووضع حد أدنى للعلاوة السنوية، بما لا يقل عن 7% من الأجر الأساسي، وحدد قرار رئيس الوزراء رقم 983 لسنة 2003، تشكيل المجلس من وزير التخطيط رئيساً، وثمانية مسؤولين حكوميين بحكم مناصبهم، وأربعة ممثلي منظمات أصحاب الأعمال، وأربعة ممثلي عمال يختارهم اتحاد العمال، الذي لا يضم سوى عضوية إجبارية لا تزيد نسبتها على 10٪ من القوى العاملة، المأساة أن المجلس ظل يجتمع بتشكيله المعيب هذا، لسنوات طويلة، من دون إصدار أي قرار بشأن الحد الأدنى للأجور.

وفي فبراير/ شباط 2008، تظاهر الآلاف من عمال شركة “غزل المحلة”، ورفعوا مطلب الحد الأدنى للأجور، في أول مرة يرفع فيها عمال، مطلباً على المستوى القومي، وليس مطلباً خاصاً، وتشكلت بعدها مجموعات عمالية وسياسية سعت إلى اللجوء إلى القضاء الإداري، للمطالبة بإلزام المجلس القومي للأجور، بتحديد حد أدنى قدروه حينها بـ1200 جنيه (25 دولار)، وفعلاً، في مارس/ آذار 2010، صدر حكم المحكمة الإدارية العليا، بإلزام المجلس بأداء مهمته، ولكن حكم المحكمة لم يغير من الأمر شيئاً، إذ يبدو أن تحديد حد أدنى للأجر، كان يتطلب اندلاع ثورة!   

حكومة الثورة…تمخض الجبل فولد فأراً!

كان منتظراً من أول حكومة بعد الثورة، أن تُقر حداً أدنى متساوياً للأجور، 1200 جنيه (25 دولار) على أقل تقدير، لكل عامل بأجر على المستوى القومي، وهو المطلب الذي طالما نادى به العمال والموظفون وحركة التغيير في سنوات ما قبل الثورة، ولكن تمخض الجبل فولد فأراً، وبدلاً من ذلك، اكتفت حكومة شرف بإعلانها رفع الحدّ الأدنى لأجور العاملين في الدولة إلى 700 جنيه (14 دولار)، بدءاً من يوليو/ تموز 2011، ووعد وزير المالية سمير رضوان، بأن يُرفع إلى 1200 جنيه على مدى السنوات الخمسة التالية، لكن لم يتسن لرضوان الوفاء بوعده، إذ استقال قبل نهاية الصيف ذك العام. 

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2011، أعلن المجلس الأعلى للأجور أخيراً ولأول مرة، تطبيق الحد الأدنى المساوي ـ700 جنيه على قطاع الأعمال العام والخاص، ولكنه كان قراراً صورياً في ظل غياب أية آلية لتنفيذه، علاوة على ذلك أعفى القرار الشركات التي فيها أقلّ من عشرة موظفين، وهي نسبة كبيرة من إجمالي المنشآت الإنتاجية، وأُعفيت أيضاً، الشركات التي تقدّم “دليلا كافياً” على أنها لا تستطيع رفع الرواتب، كما استُثني من تطبيق هذا القرار، بعض القطاعات النوعية والمناطق الجغرافية التي “ستتأثر قدرتها التنافسية”، على أن يحددها الوزير المختص، كما نص القرار على أن الزيادة في الأجر لن تخضع للوعاء التأميني، وعلى أنها تطبق بعد فترة تدريب تتراوح بين 6 أشهر وسنة. 

دُفن بعد ذلك موضوع الحد الأدنى للأجور، ولم ير النور ثانية خلال السنوات الأولى للثورة، وهو ما يدعو للتساؤل؛ لماذا عجزت الثورة عن تحقيق مطلب جماعي مثل الحد الأدنى للأجور؟ ولماذا لم نر مليونية من المليونات، التي كان يُدعى إليها بعد تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك، بهدف الضغط لتحقيق مطلب ما، ترفع مطلب الحد الأدنى؟ ولماذا لم تنجح الحركة العمالية؛ وهي في أوجها، في تنظيم احتجاج جماعي يرفع هذا المطلب، بدلاً من رفع كل موقع له على حدة؟ ولماذا لم يتبن كثير من الثوار مطالب الحركة العمالية؟ ولماذا أعطى من حكموا باسم الثورة، وخاصة الإخوان ظهرهم للعمال؟ محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ستزيل كثيراً من الأوهام بشأن من أُطلق عليهم “معسكر الثورة”، بل وعن الحركة العمالية نفسها. 

30 يونيو…فرق تسد

بعد 30 يونيو/ حزيران 2013، تم استدعاء “كارت” الحد الأدنى للأجور مرة أخرى، وكما استخدمته حكومة المجلس العسكري في لحظات التقلبات السياسية، استخدمته حكومة حازم الببلاوي، وأعلنت في سبتمبر/ أيلول 2013 رفع الحدَّ الأدنى لأجور العاملين في الحكومة إلى 1200 جنيه، إلا أن الحكومة اختارت ألا تذكر مسألة الـ1200 جنيه صراحة، وفي قرار رئيس الوزراء رقم 22 لسنة 2014، الذي صدر بعد فترة، ولسبب غير مفهوم، تم طرح الموضوع باعتباره علاوة. 

إضافةً إلى ذلك، لم تطبق الحكومة الحد الأدنى على العاملين كافة في الدولة، واكتفت بالموظفين المدنيين، فتلك الشريحة التي تبلغ حوالي 4.5 مليون موظف، هي قاعدة اجتماعية لها أهمية سياسية بالغة، جعلت نظم الحكم المتتالية طيلة العقود الماضية، تعول على كسب ولائها، أو على الأقل تحييدها عن أي صراع، في حين تم استبعاد العاملين في الشركات والهيئات التابعة للدولة، وغير الخاضعة لقانون الخدمة المدنية، مما أدّى إلى موجه من الاحتجاجات، كانت سبباً لتقدم حكومة الببلاوي باستقالتها، فأضرب عاملون في مديريات المساحة، وهيئات الأوقاف والنظافة والتجميل والطرق والكباري (الجسور) وعاملون في الأحياء والمدن، وعمال قطاعات حيويّة كالبريد والنقل العام، و12 شركة تابعة لقطاع الأعمال العام للغزل والنسيج، واضطر النظام إلى مراضاة بعض القطاعات على حدة، كالمعلمين والأطباء، من خلال إصدار قرارات خاصة بها.

بعد ذلك، ظل الحد الأدنى للأجور ثابتاً لخمس سنوات، اتسمت بالقمع الشديد، فخمدت الاحتجاجات باستثناءات قليلة، كتنظيم عمال “تي إي داتا” في 2016، وقفة احتجاجية أمام الشركة، مطالبين بتطبيق الحد الأدنى للأجور، وفي 2019، نظم العاملون بالتغذية المدرسية وعمال شركة السكك الحديدية للخدمات المتكاملة، وقفات مماثلة، ولكن عندما حاول عمال الشركة المصرية للصيانة وخدمات السكك الحديدية (ايرماس) ممارسة الحق نفسه، ألقت قوات الأمن القبض على بعضهم بتهمة التحريض، بينما كان نصيب عاملين في الترسانة البحرية، المحاكمة العسكرية بالحبس سنة مع الإيقاف، وغرامة 2000 جنيه، والفصل من العمل.   

لكن مع نهاية تطبيق حزمة إجراءات أوصى بها صندوق النقد الدولي؛ أضرت بالفقراء، وبالتزامن مع التعديلات الدستورية، صدر فجأة قرار رئيس الوزراء رقم 1627 لسنة 2019 بتحديد حد أدنى للأجور قدره 2000 جنيه، لهذا القرار أهمية خاصة، ليس فقط لأنه شمل العاملين لدى أجهزة الدولة والهيئات العامة الخدميـة والاقتصادية (حوالي 300 ألف عامل) وليس لأنه لم يكتف بتحديد حد أدنى للأجور، ولكن حدد الحدود الدنيا لكل الدرجات، انتهاءً بـ7000 جنيه للدرجة الممتازة، ولكن لأنه يُعد الأساس الذي تمت عليه كل التعديلات اللاحقة.  

ماطلت كثير من المواقع، على رأسها التعليم والصحة ووزارات النقل والشباب والرياضة والثقافة، في تنفيذ القرار، مما دفع بكثير من العاملين إلى تقديم شكاوى، أيدتها طلبات إحاطة من بعض أعضاء مجلس النواب، وتم تعديل القرار في العام نفسه، بقرار رئيس الوزراء رقم 2421، ولكن لتعذر الحصول على نص القرار، لا نعلم تحديداً ما الذي تم تعديله.

طوال هذه الفترة لم تصدر أية قرارات بشأن العاملين في قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص، فقد توقف المجلس القومي للأجور عن الاجتماع من سبتمبر/ أيلول 2013، حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، ليصدر قرار رئيس الوزراء رقم 2659 لسنة 2020، بإعادة تشكيله وتحديد اختصاصاته، وإضافة أربعة خبراء إلى المسؤولين الحكوميين، ويصبح عدد ممثلي أصحاب الأعمال والعمال ستة لكل منهما، وتضاف عبارة “مع مراعاة اختلاف الحد الأدنى للأجور من إقلـيم لآخـر، وكذلك بين الأنشطة الصناعية والخدمية”، وتختفي قيمة الـ7% كحد أدنى للعلاوة الدورية! 

لجأ النظام خلال هذه الفترة، إلى تجزئة مطالب الحركة العمالية بقصد إقرار الحد الأدنى، في البداية، على العاملين في الجهاز الإداري للدولة، ثم عليهم وعلى العاملين في الهيئات العامة الخدميـة والاقتصادية، الذين احتجوا بكثافة، على إثر القرار السابق، مع استبعاد عمال قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص.

عندما أصبح التعويم عنوان المرحلة

خلال الخمس سنوات الأخيرة، وعلى إثر الزيادات المستمرة في الأسعار مع تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار، كشرط من شروط صندوق النقد الدولي، تم رفع الحد الأدنى لأجور العاملين، لدى أجهزة الدولة والهيئات العامة الخدميـة والاقتصادية، بموجب قرارات رئيس الوزراء أرقام 1455 لسنة 2021، و1325 لسنة 2022، و4017 لسنة 2022، و1408 لسنة 2023، ليرتفع الحد الأدنى للأجور إلى 2400، و2700، و3000، و3500 جنيه، على التوالي.

خلال ذلك، أعلنت منظمة العمل الدولية في عام 2020، أن الدول التي يحظى فيها فقط العاملون في القطاع الحكومي بأجر أدنى، لا تُعتبر من الدول المطبقة للحد الأدنى للأجر، ليفيق فجأة المجلس الأعلى للأجور من غيبوبته، ويعلن أخيراً بعد ثبات لمدة عشر سنوات طوال، عن رفع الحد الأدنى لأجور العاملين في قطاع الأعمال العام والخاص إلى 2400 جنيه، وفقاً لقرار وزير التخطيط رقم 57 لسنة 2021، الذي أعفى الشركات التي تتعرض لظروف اقتصادية، يتعذر معها الوفاء بالحد الأدنى للأجور. 

وتحت ذريعة الضغوط الاقتصادية التي فرضتها جائحة كورونا، تم التقدم للمجلس بطلبات للاستثناء بلغت 3090 طلباً فردياً، و2855 طلباً من 22 قطاع فيها 2855 شركة، على رأسها السياحة والملابس الجاهزة، وخدمات الأمن والحراسة، وشركات الأوراق المالية، ومحالّ التجزئة، إضافة إلى الرعاية الصحية، والمقاولات ومواد البناء، والصيدلة والتعليم، وإلحاق العمالة بالخارج والجمعيات الأهلية.

في يوليو 2021، أضرب عمال “لينين جروب” لإجبار شركتهم على تطبيق الحد الأدنى، علماً أن الشركة تصدر 70% من صادرات مصر من المفروشات المنزلية، بما يشير إلى عدم وجود أزمات لديها، المفارقة أن ثلاثة من ممثلي أصحاب الأعمال في المجلس، ذكروا في أحاديث صحافية أن قرار المجلس بزيادة الحد الأدنى للأجور قرار استرشادي وغير ملزم.   

وعلى خلاف القرارات الخاصة بالعاملين لدى الدولة، الصادرة في هذا التاريخ، لم ينص القرار على زيادات متدرجة للأجور بشكل عام، بل إنه قلص العلاوة السنوية لتصبح 3%، بحد أدنى ستون جنيهاً، بخلاف القانون، على الرغم من أن هذه العلاوة هي الوسيلة الوحيدة لزيادة الأجور في القطاع الخاص، بعد أن توقف المجلس القومي للأجور منذ 2013، عن إصدار قرارات خاصة بعلاوات غلاء المعيشة للعاملين في القطاع الخاص، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدل ‏الاحتجاجات، وبالتالي زيادة عدد “الإجراءات الاستثنائية” المتخذة في حق العمال. ربما تكون تلك الاحتجاجات هي السبب في إعلان مجلس الوزراء لأول مرة، زيادة الحد الأدنى لأجور الشركات الخاضعة لقانون قطاع الأعمال العام، في يوليو 2022،  بقيمة 2700 جنيه، شاملاً البدلات والأجر الأساسي والعلاوات والحوافز،‏ لكنه لا يشمل الأرباح السنوية. 

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2022، أقر المجلس الأعلى للأجور الحد الأدنى للأجور المساوي ـ2700 جنيه، وعلاوة سنوية 3% بحد أدنى 100 جنيه، وصدر بذلك قرار وزيرة التخطيط رقم 103 لسنة 2022، الذي لم يستثنِ هذه المرة أية منشأة من التنفيذ، ولكن هذا لم يحل المشكلة، فأصل المشكلة يكمن في أن العقوبات المنصوص عليها في المادة 247 من قانون العمل، لم تتضمن المادة 34 الخاصة بالمجلس الأعلى للأجور، وبما أنه لا عقوبة إلا بنص، فلا يمكن توقيع هذه العقوبات على الشركات، التي تمتنع عن تطبيق الحد الأدنى للأجور والعلاوة الدورية، فضرب الكثير من أصحاب الأعمال بالقرار عرض الحائط، وفي يونيو / حزيران 2023، رفع المجلس القومي الحد الأدنى للأجور، مرة ثانية، ليصبح 3000 جنيه، وبناء عليه صدر قرار وزارة التخطيط رقم 46 لسنة 2023، وسط اعتراضات قوية لضآلة المبلغ، مقارنة بارتفاع الأسعار، ولإن القرارات الوزارية تُعد حبراً على ورق، دأب أصحاب الأعمال على التملص من تنفيذها، في ظل عدم وجود آلية ملزمة.

وفي سبتمبر/ أيلول 2023 أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي حزمة من القرارات الاقتصادية، تضمنت رفع الحد الأدنى للأجور إلى 4000 جنيه، فصدر  قرار رئيس الوزراء رقم 4220 لسنة 2023، فيما يخص العاملين في الحكومة والهيئات الاقتصادية والخدمية، لكن المجلس القومي للأجور اكتفى بـ3500 جنيه، وعلاوة سنوية 3% بحد أدنى 200 جنيه، وهو ما أقره قرار وزيرة التخطيط رقم 90 لسنة 2023

ما يحدث الآن

مؤخراً، استبق السيسي قرار التعويم الرابع في أقل من عامين، والخامس منذ 2016، بإعلان رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6000 جنيه، ضمن حزمة ضخمة، قدرت بـ180 مليار جنيه، استهدفت التهدئة الاجتماعية، وكالعادة ضربت مواقع كثيرة عرض الحائط بهذا القرار، منها شركات كبرى، كشركة طلعت مصطفى المقربة من النظام.

وفي نهاية فبراير/ شباط أضرب الآلاف من عمال شركة “غزل المحلة“، مطالبين بتطبيق قرار الحد الأدنى للأجور على الشركات التابعة لوزارة قطاع الأعمال العام، وهو ما دفع وزير قطاع الأعمال العام إلى إصدار القرار رقم 16 لسنة 2024، لكن في الوقت نفسه تم احتجاز العشرات من عمال الشركة، وتفاوتت فترات الاحتجاز، فبينما أُطلق سراح أغلبهم بعد استجوابهم، بقي عاملان قيد الحبس احتياطياً، بتهمة نشر أخبار كاذبة، والانضمام إلى جماعة أُسست على خلاف القانون، وأُضيف إلى القضية أشخاص لا تربطهم بهما أية صلة، في الوقت الذي وجهت فيه إدارة الشركة إنذارات بفصلهما بحجة التغيب عن العمل، ليُطلق سراحهما بعد ثلاثة أشهر، على ذمة القضية.

ومع ذلك، ورغم القمع، كان هناك تأثير واضح لإضراب المحلة، إذ تبعه موجة احتجاجات رافعة مطلب الحد الأدنى، من ضمنها عمال شركة الزيوت والصابون بأسيوط، وشركة يونيفرسال لإنتاج الأجهزة الكهربائية، والشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، و شركة الضفائر الكهربائية (ليوني) وشركة النيل للطرق والكباري، وشركة الإسكندرية للإنشاءات.

جذر المشكلة

قرار رفع الحد الأدنى للأجور خطوة في الاتجاه الصحيح دون شك، ولكنها لن تحل المشكلة، فمشكلة الحد الأدنى للأجور في مصر، أعمق من ذلك بكثير، وجذر المشكلة هو أن النظام لا يتعامل مع الموضوع باعتباره حقاً، ولكن كهبة، يحدد قيمتها كيفما شاء، متجاهلاً الطرق المتبعة في سائر دول العالم، ويهبها لمن يشاء ووقتما يشاء، لأسباب تخصه هو وليس العمال. 

لو كان يعتبر الأمر حقاً، لأصدر قانوناً خاصاً به، كما يفعل مع الحد الأقصى للأجور للعاملين لدى الدولة، ولنص في القانون على عقوبة تقع على من لا يطبق الحد الأدنى للأجور من أصحاب الأعمال، هذا لا يعني مطالبة النظام بفرض حد أدنى للأجور على القطاع الخاص، فهو أمر ممكن أن يُترك للتفاوض بين الحكومة وأصحاب الأعمال والعمال، ولكن بشرط وجود تنظيمات نقابية، تُعبر بشكل فعلي عن العمال وتدافع عن حقوقهم، ولكن هذا حق آخر سُلب من العمال، ليس هذا فقط، بل إن النظام جرد العمال من أدواتهم الاحتجاجية، بترسانة من القوانين المكبلة للحريات، مما زاد من سوء وضعهم التفاوضي، وجعلهم عرضة لأعمال انتقامية، من بينها الاعتقال، في حال مطالبتهم بالحد الأدنى، كما حدث مع عمال “سمنود للوبريات“، عندما أغلقت شركتهم لأجل غير مسمى، وعمال شركة “لورد” في الإسكندرية، الذين كان جزاؤهم حسم الرواتب وتخفيضها أو الفصل، وعمال شركة “كريازي“، الذين تم القبض على عدد منهم في منازلهم، ووجهت لهم النيابة اتهامات بالتظاهر بدون تصريح، والدعوة إلى الإضراب وتعطيل سير العمل. 

وجود حد أدنى للأجور في قطاع الأعمال العام والخاص في مصر، مجرد كذبة لا يُستهدف منها إلا الدعاية، لكن حقيقة الأمر أن المجلس القومي للأجور، يجتمع كيفما اتفق وبمن اتفق، ليصدر قرارات يعتبرها أصحاب الأعمال غير إلزامية، ولا توجد أية آلية لتظلم العمال عند عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور في شركاتهم، ولا يستطيعون الاحتجاج نتيجة لقوانين منع الإضراب والتظاهر، ولا يستطيعون رفع قضية أمام القضاء، لعدم وجود نص قانوني، يجرم عدم الوفاء بالحد الأدنى أو العلاوة الدورية، في حين يمكن لأصحاب الأعمال التظلم أمام المجلس، بذريعة عدم القدرة على تطبيق قراراته، أو ببساطة تجاهلها فهي “ليست إلزامية”.

استثناء المشروعات التي يقل عدد العمال فيها عن 10 عمال، فيه محاباة شديدة لأصحاب الأعمال، نفهم أن يمنح النظام لهذه المشروعات استثناءات، من جيبه وليس من جيب الغلابة، التي تقوم هذه المشاريع على أكتافهم، فما ذنب العامل إذا كان يعمل في منشأة كبيرة أو صغيرة؟ فهو في النهاية، إنسان يدفع التكلفة نفسها مقابل الغذاء والمسكن والصحة والتعليم والضروريات الأخرى، ولذلك عرفت منظمة العمل الدولية الحد الأدنى للأجور، بأنه الحد الأدنى من الأجر المطلوب من صاحب العمل، ولا يمكن تخفيضه باتفاق جماعي أو عقد فردي. 

العلاوة الدورية مهزلة أخرى، خاصة في القطاع الخاص، فالنسبة المنطقية الوحيدة، هي أن تتجاوز نسبة التضخم، أي شيء بخلاف هذا، يعني أن الأجر الفعلي للعامل، لا يرتفع مع زيادة سنوات عمله.

وبتأمل معدلات التضخم التالية، نجد أن في الواقع أن أجور العاملين في القطاع الخاص، قد تآكلت عبر السنين، بزيادة سنوية 7%، استكثرها النظام عليهم، وأصبحت بقدرة قادر 3%.

العاملون في الحكومة والهيئات الاقتصادية والخدمة وعمال القطاع العام (نحو 150 ألف عامل) وقطاع الأعمال العام، أكثر حظاً، إذ يحصلون على الأقل، على علاوة دورية نسبتها 7% من الأجر الأساسي.  

السنةمعدل التضخم
202326.70%
202213.90%
20215.21%
20205.04%
20199.15%
201814.40%
201729.51%
201613.81%
201510.37%
201410.07%
20139.47%
20127.11%
201110.06%

الحد الأدنى للأجر بالتعريف، هو أقل أجر يمكن أن يحصل عليه أي عامل، ويحصل عليه أي شخص يدخل حديثاً إلى سوق العمل، كشخص بلا خبرة قليل المهارات، في مصر ما زلنا نحارب كي يحصل عليه من أمضوا 10 و20 و30 سنة عمل. 

وفقاً لمنظمة العمل الدولية، 20% من عمال مصر يعملون لدى الدولة، هؤلاء فقط، يتمتعون بقرارات الحد الأدنى للأجور، بينما يعمل في القطاع الخاص بشكل رسمي 11%، يبلغ عددم نحو 2.5 عامل، تُرك مصيرهم هم ونصف مليون يعملون في قطاع الأعمال العام، في يد إدارات الشركات وأصحاب الأعمال، في ظل عدم وجود أية آلية لإلزامهم بشيء، بينما لا يملك 37% يعملون في القطاع الخاص الرسمي بلا عقود عمل ولا أية مظلة تأمينية أو صحية، إضافة إلى 40% يعملون في القطاع غير الرسمي، رفاهية مجرد الحلم بالحد الأدنى.