fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“يجب على الجميع فهم تعريف الاغتصاب”… الفرنسيّة جيزيل بيليكو بمواجهة عقدٍ من الاعتداءات الجنسيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

 من خلال تجربتها المؤلمة، تسعى جيزيل إلى محاسبة الجناة، وإلى كشف المزيد من الجرائم التي تُرتكب بصمت ضد النساء. وكما تقول في ردها على اعتذار بعض المتهمين: “إنهم يعتذرون لأنفسهم، وليس لي”، فجيزيل كآلاف النساء تعرف أن اعتذاراً بعد جريمة بشعة كهذه ما هو إلا محاولة لتبرئة الضمير، وليست تعبيراً حقيقياً عن الندم أو الاعتراف بحجم الألم الذي تسبب به كل هؤلاء الرجال لامرأة واحدة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يمكن وصف حادثة الاعتداءات الجنسيّة التي تعرضت لها الفرنسية جيزيل بيليكو على يد زوجها، إلا بالمروِّعة والصادمة.

جيزيل (72 عاماً) هي مديرة لوجستية سابقة، خدّرها زوجها دومينيك بيليكو بسحق الأقراص المنومة والأدوية المضادة للقلق ووضعها في طعامها ومشروباتها، ودعا أكثر من 80 رجلاً لاغتصابها على مدار عشر سنوات، خلال الفترة من 2011 إلى 2020 في قرية مازان بإقليم بروفانس في فرنسا.

المغتصبون من كلّ الأعمار والخلفيّات المهنيّة

في الجلسة التي شهدت فيها جيزيل في شهر تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، كان الوضع مؤلماً وملهماً في الوقت ذاته، واجهت السيدة زوجها ومغتصبيها بقوة، وبكت في الوقت ذاته، لكنها أصرت على كونها ضحية وعلى ضرورة محاسبة المعتدين عليها.

وبينما حاول المتّهمون إلقاء اللوم على زوج جيزيل، والادعاء بأنه تلاعب بهم ولم يعرفوا أنه خدّرها، بل اعتقدوا أنها في لعبة جنسية مع زوجها، قال الزوج للمحكمة: “أنا مغتصب، مثل الآخرين في هذه الغرفة”.

تنوّعت خلفيات المغتصبين وأعمارهم، فكان عمر المتهم (جوان ك) وقت اغتصاب جيزيل 22 عاماً، والذي اغتصبها خلال زيارتين منفصلتين عامي 2019 و2020. جوان (عمره حالياً 26 عاماً)، ادعى ككثير من المتهمين أنه لم ينوِ اغتصاب جيزيل، قليلون فقط من الرجال اعترفوا باغتصاب جيزيل.

المثير أن ستة من المتهمين لديهم إدانات سابقة بالعنف المنزلي، واثنين لديهما إدانات بالعنف الجنسي وما مجموعه 23 لديهم سجل جنائي لجرائم مثل القيادة تحت تأثير الكحول وحيازة المخدرات، ما يشير إلى أن المعنّفين والمتحرشين يكررون غالباً أفعالهم، وبخاصة في ظل عدم وجود قوانين رادعة، إذ إن الإفلات من العقاب أو العقوبات غير الكافية تمنح هؤلاء دافعاً لتكرار جرائمهم.

الذكورة السامة وجرائم الاغتصاب الفنتازية، كما حدث مع جيزيل، قابلان للاستنساخ، إذ وخلال التحقيق مع أحد المتهمين ويدعى (جان بيير م – 63 عاماً)، وهو غير متهم  باغتصاب جيزيل بيليكو، إنما باستخدام الأسلوب نفسه لتخدير زوجته والتواطؤ مع زوج جيزيل لاغتصابها سوياً.

 وُصِفَ بيير في المحكمة بأنه “تلميذ” بيليكو، واعترف بتخدير زوجته، التي أنجب منها خمسة أطفال، وبدعوة بيليكو لاغتصابها.

تسلّط قضية جيزيل الضوء على أن العنف الجنسي ضد النساء ليس استثناءً فردياً، بل جزء من شبكة مترابطة من الجرائم التي تتكرر بطرق يصعب تصوّرها. الاعتداءات التي تعرضت لها جيزيل لم تُكشف إلا عندما قُبض على زوجها أثناء تصويره أجساد النساء خلسة من تحت تنانيرهن. وخلال التحقيق، وعند تفتيش حاسوبه وهاتفه، اكتشفت الشرطة، بالمصادفة، مقاطع فيديو توثق اعتداء رجال آخرين على زوجته من دون علمها. 

هذه الجريمة المروعة لم تقف عند هذا الحد، فقد تبعها “تلميذ بيليكو” الذي استنسخ النمط نفسه من الاعتداء على زوجته، ما يشير إلى أن جرائم العنف الجنسي ليست معزولة، بل تجمعها روابط خفية تجعل العنف ضد النساء جزءاً من منظومة أكبر تستمر في إعادة إنتاج نفسها.

تتشكّل دوائر العنف الجنسي على أيدي رجال يعتقدون أن لديهم القدرة والمساحة القانونية لارتكاب الجرائم وتكرارها. القانون الفرنسي والعالمي لم يفشل في حماية النساء وحسب إنما ساهم في كارثة استنساخ العنف وتبادله كسعلة بين هؤلاء الرجال.

تنوّعت خلفيات المتهمين وأعمارها والحالات الاجتماعية، فمنهم الأب والزوج والجد. بعض زوجات المتهمين أكدن أن أزواجهن ليسوا عدوانيين، وبعد سماع جيزيل الزوجات أو الصديقات أو الأصدقاء في المحكمة يقولون، إن المتهم لا يبدو قادراً على الاغتصاب، قالت: “علينا أن نحرز تقدماً في ثقافة الاغتصاب في المجتمع، يجب على الناس أن يتعلموا تعريف الاغتصاب”.

معايير الاغتصاب تقتل العدالة

تعرّضت جيزيل خلال المحاكمة إلى “أسئلة مهينة” من هيئة المحكمة ومحامي الدفاع حول ملابسها وشربها، وما إذا كانت وافقت على ممارسة الجنس مع الرجال، ما أثار موجة من الغضب، وبخاصة من ناشطات نسويات بسبب محاولات النظام الذكوري تحويل الضحايا إلى جناة ومشاركات في جرائم الاغتصاب.

وعندما سألها المحامي عما إذا كان ينبغي لها أن تسأل نفسها عما إذا كانت مسؤولة عما حدث، أجابت جيزيل: “بالطبع أشعر اليوم بالمسؤولية عن لا شيء. اليوم، وقبل كل شيء، أنا ضحية”.

ومن ضمن الأسئلة عن بعض الرجال وما إذا كانت مداعباتهم “بلطف” أثناء الاعتداء تُعتبر اغتصاباً، قالت جيزيل بيليكو إن الرجال كانوا يلطخون “امرأة فاقدة للوعي”، متابعة: “بالنسبة لي، هم مغتصبون، ويظلون مغتصبين. الاغتصاب هو اغتصاب”.

الصادم حقاً أن النظام القانوني يستمر في إعادة إنتاج النظام الأبوي وتعزيزه، ليس فقط من خلال تقاعسه عن حماية النساء، بل عبر زرع الشكوك حول تواطؤ الضحايا مع الجناة.

 في حالة جيزيل، على سبيل المثال، لا يترك حجم القضية والأدلة مجالاً لأي شك معقول، ومع ذلك، يواصل هذا النظام الأبوي التلميح الى أن النساء قد يكنّ متواطئات أو لهن دور في الجرائم التي يتعرضن لها، حتى في أشد الحالات بشاعة، مثل اغتصاب امرأة أكثر من 100 مرة وهي تحت تأثير المخدر.

تُظهِر النظرة المنحازة كيفية إعادة النظام البطريركي إنتاج ذاته عبر إلقاء اللوم على النساء، ما يرسخ عدم المساواة ويضعف محاسبة المعتدين.

عندما سئلت جيزيل عن كيفية استمرارها في مواجهة كلّ ما سمعته في المحكمة، أجابت: “صحيح أنني أسمع الكثير من النساء والرجال الذين يقولون إنك شجاعة جداً. أقول إنها ليست شجاعة، بل إرادة وتصميم على تغيير المجتمع”.

عن الموافقة في قانون الاغتصاب

خلال إحدى جلسات محاكمة المتّهمين في قضية اغتصاب مازان، نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، سأل رئيس محكمة الجنايات في فوكالوز، الضحية جيزيل بيليكو: “هل وافقت على اختيار أحد هؤلاء الشركاء؟”، فأجابت بانزعاج: “مصطلح الشريك يثير اشمئزازي بشكل عميق (…) مرة أخرى، في الحالة التي كنت فيها، لم أكن في وضع يمكنني من الإجابة، كنت في غيبوبة”.

يحاول الدفاع استغلال إحدى الثغرات في القانون الفرنسي، إذ لا تذكر فرنسا الموافقة في تعريفها الجنائي للاغتصاب، على عكس معظم دول أوروبا، وهذا ما أدى إلى تصاعد الجدل القانوني بشأن توسيع تعريف مفهوم الاغتصاب، ليشمل الموافقة من خلال تحسين القانون الجنائي الحالي سداً لثغرات غالباً ما تُستغل ضد الضحايا وتحرمهن من الحصول على العدالة. 

قد تساهم محاكمة مازان في إدخال عنصر الموافقة أخيراً إلى قانون الاغتصاب الفرنسي، إذ ورغم أن حكومات الرئيس إيمانويل ماكرون عارضت هذا التغيير التشريعي سابقاً، لكنها بدأت بتغيير موقفها أثناء محاكمة اغتصاب مازان. وفي مقابلة مع إذاعة “فرانس أنتار”، قال وزير العدل ديديه ميغو أنه يدعم إدراج عنصر الموافقة في القانون الجنائي الفرنسي.

ويؤدي ضعف القانون وعدم التعامل الجاد مع جرائم الاعتداء الجنسي، بشكل مباشر، إلى تفاقم هذه الجرائم واستمرارها لفترات طويلة من دون تدخل فعال. 

خلال محاكمات مازان، اكتشفت جيزيل أن الشرطة أوقفت زوجها قبل 10 سنوات بالتهمة ذاتها، وهي تصوير النساء خلسة من تحت تنانيرهن. لكن الصادم هو أن أحداً لم يخبر جيزيل بذلك في حينه. لو علمت بذلك، كما تقول، لكانت تركته ولما تعرضت للاعتداء والاغتصاب طوال عقد من الزمن.

في لحظة مواجهة مؤلمة، وجهت جيزيل سؤالاً لزوجها، الذي لم تكن ترغب حتى في النظر إليه: “كيف خنتني إلى هذا الحد؟ كيف أمكنك إحضار هؤلاء الغرباء إلى غرفة نومي؟”. تحمل كلمات جيزيل ألم الخيانة والانتهاك العميق، ليس فقط من زوجها، بل من نظام قانوني ومجتمعي لم يوفر لها الحماية.

من حقّ الضحايا أن يكنّ قويات أو منهارات

جيزيل اليوم، ورغم قوتها في مواجهة الإساءات التي تعرضت لها، إلا أنها أيضاً متعبة وتخضع للعلاج النفسي: “أنا امرأة مدمرة تماماً، ولا أعرف كيف سأنهض من هذا الأمر”.

وقالت في المحكمة بينما كان صوتها يرتعش، إن ما حدث دمرها، واصفة الأمر: “عنيفاً بشكل لا يصدق”، وبخاصة أن الكثير من المتهمين قالوا إنهم اعتقدوا أنها وافقت على الاغتصاب أو كانت تتظاهر بالنوم.

 ولفتت جيزيل متوجّهة الى زوجها وهي تبكي: “لقد كنت زوجاً صالحاً ورجلاً صالحاً، وقد وثقت بك. ولم أشك فيك أبداً”. لكن هذا الرجل الطيب، كما قالت للمحكمة، كان مسؤولاً عن تعرضها للاغتصاب 100 مرة.

من جهة أخرى، تظهر جيزيل قوة منقطعة النظير، حين قررت أن تكون المحاكمة علنية في سبيل دعم الضحايا اللواتي يخشين التحدث، تقول: “لقد قررت ألا أشعر بالخجل، ولم أرتكب أي خطأ”، متابعة: “إنها ليست شجاعة، إنه التصميم على تغيير الأمور. هذه ليست معركتي فقط، بل معركة جميع ضحايا الاغتصاب”.

جعل قضايا الاغتصاب علنيّة جزءٌ من الحل

تضيء هذه القضية على مشكلات تم تجاهلها لعقود، مثل جرائم التخدير والاعتداء، التي تعد من أصعب الجرائم كشفاً، إذ لا تدرك كثيرات من الضحايا تعرضهن للاعتداء نتيجة التخدير، أو قد يشعرن بالشكّ من دون يقين، كما حدث مع جيزيل. 

وبسبب قلة الوعي بتأثيرات التخدير وكيفية عمله على الضحايا، قد تمر مثل هذه الجرائم من دون ملاحظة. على سبيل المثال، عانت جيزيل لسنوات من أعراض المواد المخدرة التي كان زوجها يضعها لها من دون علمها. لم يخطر في بالها أن يكون ما تمر به نتيجة لهذا النوع من الانتهاك، ما يعكس غياب الوعي بهذه الأفعال وآثارها المدمّرة.

 قالت جيزيل: “يحدث هذا غالباً (تقصد التخدير والاعتداء) في العائلات، ويجب علينا جميعاً أن نكون على دراية بذلك حتى نتمكن من التعرف على العلامات التحذيرية، مثل الصداع المتكرر وضعف الذاكرة”.

موقع coco يُسهل جرائم الاغتصاب

من جهة أخرى، لا بد من الإشارة إلى الموقع الذي لعب الدور الأكبر في تسهيل هذه الاعتداءات، والذي تعرف بيليكو من خلاله إلى معظم الرجال الذين اغتصبوا زوجته، وهو الموقع الفرنسي COCO. 

الموقع غير مشهور إلا أنه معروف على نطاق واسع لدى المدافعين عن حقوق LGBTQ  وحقوق الأطفال، الذين طالما حذروا من خطورته، إذ بات مساحة مفتوحة للانتهاكات المتنوعة، إلا أن الجماعات الحقوقية والسلطات واجهت عقبات قانونية مختلفة في التحقيق واتخاذ الإجراءات القانونية ضده. 

واحتوت لوائح الاتحاد الأوروبي على أحكام واسعة تمنع مالك الموقع من تحمّل المسؤولية القانونية عن المحتوى الموجود على موقعه. كما أن انتقال الموقع  إلى نطاق مسجل في جزيرة غيرنسي المتمتعة بالحكم الذاتي عقّد الأمور القانونية للتعامل معه.

في جميع الأحوال، تعرّف معظم الرجال المتّهمون باغتصاب جيزيل على بيليكو في منتدى الدردشة على موقع COCO، حيث نسقوا معه وحضّروا للاعتداء على الزوجة.

وساعد تغاضي مديري الموقع عن المحتوى الذي تمت مشاركته عبره، بيليكو على ارتكاب جرائم بهذا الحجم وإبقائها مخفية طوال هذا الوقت.

منذ تأسيسه في عام 2003، تورطت شركة كوكو في جرائم القتل والاعتداءات الجنسية على الأطفال والمثليين لأنها تهربت من المساءلة. وأغلقت السلطات الموقع في 25 أيلول/ سبتمبر عام 2023، واعتقلت مؤسسه إلى جانب مديرين تنفيذيين آخرين. تم ذكر الموقع في أكثر من 23 ألف تقرير عن نشاط إجرامي، وشارك أكثر من 480 ضحية في الإجراءات القضائية المتعلقة بالموقع.

 من خلال تجربتها المؤلمة، تسعى جيزيل إلى محاسبة الجناة، وإلى كشف المزيد من الجرائم التي تُرتكب بصمت ضد النساء. وكما تقول في ردها على اعتذار بعض المتهمين: “إنهم يعتذرون لأنفسهم، وليس لي”، فجيزيل كآلاف النساء تعرف أن اعتذاراً بعد جريمة بشعة كهذه ما هو إلا محاولة لتبرئة الضمير، وليست تعبيراً حقيقياً عن الندم أو الاعتراف بحجم الألم الذي تسبب به كل هؤلاء الرجال لامرأة واحدة.

عمّار المأمون - كاتب سوري | 17.05.2025

“سوريا الجديدة”: هذيان “الديمقراطيين” وسحر “البراغماتية” الشائن!

الحكومة المؤقتة في سوريا لم تُتح مساحة للسياسة، لا قانون لتنظيم الأحزاب، لا نقابات مستقلّة منتخبة، أما الفضاءات العامّة فتُهدَّد ضمن منطق "فائض القوّة"، فالسلطة تمتلك القدرة على تحريك جموع غاضبة، مستعدّة للقتال، بعضها مسلّح، وبعضها يرفع هتافات إبادية.
08.11.2024
زمن القراءة: 8 minutes

 من خلال تجربتها المؤلمة، تسعى جيزيل إلى محاسبة الجناة، وإلى كشف المزيد من الجرائم التي تُرتكب بصمت ضد النساء. وكما تقول في ردها على اعتذار بعض المتهمين: “إنهم يعتذرون لأنفسهم، وليس لي”، فجيزيل كآلاف النساء تعرف أن اعتذاراً بعد جريمة بشعة كهذه ما هو إلا محاولة لتبرئة الضمير، وليست تعبيراً حقيقياً عن الندم أو الاعتراف بحجم الألم الذي تسبب به كل هؤلاء الرجال لامرأة واحدة.

لا يمكن وصف حادثة الاعتداءات الجنسيّة التي تعرضت لها الفرنسية جيزيل بيليكو على يد زوجها، إلا بالمروِّعة والصادمة.

جيزيل (72 عاماً) هي مديرة لوجستية سابقة، خدّرها زوجها دومينيك بيليكو بسحق الأقراص المنومة والأدوية المضادة للقلق ووضعها في طعامها ومشروباتها، ودعا أكثر من 80 رجلاً لاغتصابها على مدار عشر سنوات، خلال الفترة من 2011 إلى 2020 في قرية مازان بإقليم بروفانس في فرنسا.

المغتصبون من كلّ الأعمار والخلفيّات المهنيّة

في الجلسة التي شهدت فيها جيزيل في شهر تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، كان الوضع مؤلماً وملهماً في الوقت ذاته، واجهت السيدة زوجها ومغتصبيها بقوة، وبكت في الوقت ذاته، لكنها أصرت على كونها ضحية وعلى ضرورة محاسبة المعتدين عليها.

وبينما حاول المتّهمون إلقاء اللوم على زوج جيزيل، والادعاء بأنه تلاعب بهم ولم يعرفوا أنه خدّرها، بل اعتقدوا أنها في لعبة جنسية مع زوجها، قال الزوج للمحكمة: “أنا مغتصب، مثل الآخرين في هذه الغرفة”.

تنوّعت خلفيات المغتصبين وأعمارهم، فكان عمر المتهم (جوان ك) وقت اغتصاب جيزيل 22 عاماً، والذي اغتصبها خلال زيارتين منفصلتين عامي 2019 و2020. جوان (عمره حالياً 26 عاماً)، ادعى ككثير من المتهمين أنه لم ينوِ اغتصاب جيزيل، قليلون فقط من الرجال اعترفوا باغتصاب جيزيل.

المثير أن ستة من المتهمين لديهم إدانات سابقة بالعنف المنزلي، واثنين لديهما إدانات بالعنف الجنسي وما مجموعه 23 لديهم سجل جنائي لجرائم مثل القيادة تحت تأثير الكحول وحيازة المخدرات، ما يشير إلى أن المعنّفين والمتحرشين يكررون غالباً أفعالهم، وبخاصة في ظل عدم وجود قوانين رادعة، إذ إن الإفلات من العقاب أو العقوبات غير الكافية تمنح هؤلاء دافعاً لتكرار جرائمهم.

الذكورة السامة وجرائم الاغتصاب الفنتازية، كما حدث مع جيزيل، قابلان للاستنساخ، إذ وخلال التحقيق مع أحد المتهمين ويدعى (جان بيير م – 63 عاماً)، وهو غير متهم  باغتصاب جيزيل بيليكو، إنما باستخدام الأسلوب نفسه لتخدير زوجته والتواطؤ مع زوج جيزيل لاغتصابها سوياً.

 وُصِفَ بيير في المحكمة بأنه “تلميذ” بيليكو، واعترف بتخدير زوجته، التي أنجب منها خمسة أطفال، وبدعوة بيليكو لاغتصابها.

تسلّط قضية جيزيل الضوء على أن العنف الجنسي ضد النساء ليس استثناءً فردياً، بل جزء من شبكة مترابطة من الجرائم التي تتكرر بطرق يصعب تصوّرها. الاعتداءات التي تعرضت لها جيزيل لم تُكشف إلا عندما قُبض على زوجها أثناء تصويره أجساد النساء خلسة من تحت تنانيرهن. وخلال التحقيق، وعند تفتيش حاسوبه وهاتفه، اكتشفت الشرطة، بالمصادفة، مقاطع فيديو توثق اعتداء رجال آخرين على زوجته من دون علمها. 

هذه الجريمة المروعة لم تقف عند هذا الحد، فقد تبعها “تلميذ بيليكو” الذي استنسخ النمط نفسه من الاعتداء على زوجته، ما يشير إلى أن جرائم العنف الجنسي ليست معزولة، بل تجمعها روابط خفية تجعل العنف ضد النساء جزءاً من منظومة أكبر تستمر في إعادة إنتاج نفسها.

تتشكّل دوائر العنف الجنسي على أيدي رجال يعتقدون أن لديهم القدرة والمساحة القانونية لارتكاب الجرائم وتكرارها. القانون الفرنسي والعالمي لم يفشل في حماية النساء وحسب إنما ساهم في كارثة استنساخ العنف وتبادله كسعلة بين هؤلاء الرجال.

تنوّعت خلفيات المتهمين وأعمارها والحالات الاجتماعية، فمنهم الأب والزوج والجد. بعض زوجات المتهمين أكدن أن أزواجهن ليسوا عدوانيين، وبعد سماع جيزيل الزوجات أو الصديقات أو الأصدقاء في المحكمة يقولون، إن المتهم لا يبدو قادراً على الاغتصاب، قالت: “علينا أن نحرز تقدماً في ثقافة الاغتصاب في المجتمع، يجب على الناس أن يتعلموا تعريف الاغتصاب”.

معايير الاغتصاب تقتل العدالة

تعرّضت جيزيل خلال المحاكمة إلى “أسئلة مهينة” من هيئة المحكمة ومحامي الدفاع حول ملابسها وشربها، وما إذا كانت وافقت على ممارسة الجنس مع الرجال، ما أثار موجة من الغضب، وبخاصة من ناشطات نسويات بسبب محاولات النظام الذكوري تحويل الضحايا إلى جناة ومشاركات في جرائم الاغتصاب.

وعندما سألها المحامي عما إذا كان ينبغي لها أن تسأل نفسها عما إذا كانت مسؤولة عما حدث، أجابت جيزيل: “بالطبع أشعر اليوم بالمسؤولية عن لا شيء. اليوم، وقبل كل شيء، أنا ضحية”.

ومن ضمن الأسئلة عن بعض الرجال وما إذا كانت مداعباتهم “بلطف” أثناء الاعتداء تُعتبر اغتصاباً، قالت جيزيل بيليكو إن الرجال كانوا يلطخون “امرأة فاقدة للوعي”، متابعة: “بالنسبة لي، هم مغتصبون، ويظلون مغتصبين. الاغتصاب هو اغتصاب”.

الصادم حقاً أن النظام القانوني يستمر في إعادة إنتاج النظام الأبوي وتعزيزه، ليس فقط من خلال تقاعسه عن حماية النساء، بل عبر زرع الشكوك حول تواطؤ الضحايا مع الجناة.

 في حالة جيزيل، على سبيل المثال، لا يترك حجم القضية والأدلة مجالاً لأي شك معقول، ومع ذلك، يواصل هذا النظام الأبوي التلميح الى أن النساء قد يكنّ متواطئات أو لهن دور في الجرائم التي يتعرضن لها، حتى في أشد الحالات بشاعة، مثل اغتصاب امرأة أكثر من 100 مرة وهي تحت تأثير المخدر.

تُظهِر النظرة المنحازة كيفية إعادة النظام البطريركي إنتاج ذاته عبر إلقاء اللوم على النساء، ما يرسخ عدم المساواة ويضعف محاسبة المعتدين.

عندما سئلت جيزيل عن كيفية استمرارها في مواجهة كلّ ما سمعته في المحكمة، أجابت: “صحيح أنني أسمع الكثير من النساء والرجال الذين يقولون إنك شجاعة جداً. أقول إنها ليست شجاعة، بل إرادة وتصميم على تغيير المجتمع”.

عن الموافقة في قانون الاغتصاب

خلال إحدى جلسات محاكمة المتّهمين في قضية اغتصاب مازان، نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، سأل رئيس محكمة الجنايات في فوكالوز، الضحية جيزيل بيليكو: “هل وافقت على اختيار أحد هؤلاء الشركاء؟”، فأجابت بانزعاج: “مصطلح الشريك يثير اشمئزازي بشكل عميق (…) مرة أخرى، في الحالة التي كنت فيها، لم أكن في وضع يمكنني من الإجابة، كنت في غيبوبة”.

يحاول الدفاع استغلال إحدى الثغرات في القانون الفرنسي، إذ لا تذكر فرنسا الموافقة في تعريفها الجنائي للاغتصاب، على عكس معظم دول أوروبا، وهذا ما أدى إلى تصاعد الجدل القانوني بشأن توسيع تعريف مفهوم الاغتصاب، ليشمل الموافقة من خلال تحسين القانون الجنائي الحالي سداً لثغرات غالباً ما تُستغل ضد الضحايا وتحرمهن من الحصول على العدالة. 

قد تساهم محاكمة مازان في إدخال عنصر الموافقة أخيراً إلى قانون الاغتصاب الفرنسي، إذ ورغم أن حكومات الرئيس إيمانويل ماكرون عارضت هذا التغيير التشريعي سابقاً، لكنها بدأت بتغيير موقفها أثناء محاكمة اغتصاب مازان. وفي مقابلة مع إذاعة “فرانس أنتار”، قال وزير العدل ديديه ميغو أنه يدعم إدراج عنصر الموافقة في القانون الجنائي الفرنسي.

ويؤدي ضعف القانون وعدم التعامل الجاد مع جرائم الاعتداء الجنسي، بشكل مباشر، إلى تفاقم هذه الجرائم واستمرارها لفترات طويلة من دون تدخل فعال. 

خلال محاكمات مازان، اكتشفت جيزيل أن الشرطة أوقفت زوجها قبل 10 سنوات بالتهمة ذاتها، وهي تصوير النساء خلسة من تحت تنانيرهن. لكن الصادم هو أن أحداً لم يخبر جيزيل بذلك في حينه. لو علمت بذلك، كما تقول، لكانت تركته ولما تعرضت للاعتداء والاغتصاب طوال عقد من الزمن.

في لحظة مواجهة مؤلمة، وجهت جيزيل سؤالاً لزوجها، الذي لم تكن ترغب حتى في النظر إليه: “كيف خنتني إلى هذا الحد؟ كيف أمكنك إحضار هؤلاء الغرباء إلى غرفة نومي؟”. تحمل كلمات جيزيل ألم الخيانة والانتهاك العميق، ليس فقط من زوجها، بل من نظام قانوني ومجتمعي لم يوفر لها الحماية.

من حقّ الضحايا أن يكنّ قويات أو منهارات

جيزيل اليوم، ورغم قوتها في مواجهة الإساءات التي تعرضت لها، إلا أنها أيضاً متعبة وتخضع للعلاج النفسي: “أنا امرأة مدمرة تماماً، ولا أعرف كيف سأنهض من هذا الأمر”.

وقالت في المحكمة بينما كان صوتها يرتعش، إن ما حدث دمرها، واصفة الأمر: “عنيفاً بشكل لا يصدق”، وبخاصة أن الكثير من المتهمين قالوا إنهم اعتقدوا أنها وافقت على الاغتصاب أو كانت تتظاهر بالنوم.

 ولفتت جيزيل متوجّهة الى زوجها وهي تبكي: “لقد كنت زوجاً صالحاً ورجلاً صالحاً، وقد وثقت بك. ولم أشك فيك أبداً”. لكن هذا الرجل الطيب، كما قالت للمحكمة، كان مسؤولاً عن تعرضها للاغتصاب 100 مرة.

من جهة أخرى، تظهر جيزيل قوة منقطعة النظير، حين قررت أن تكون المحاكمة علنية في سبيل دعم الضحايا اللواتي يخشين التحدث، تقول: “لقد قررت ألا أشعر بالخجل، ولم أرتكب أي خطأ”، متابعة: “إنها ليست شجاعة، إنه التصميم على تغيير الأمور. هذه ليست معركتي فقط، بل معركة جميع ضحايا الاغتصاب”.

جعل قضايا الاغتصاب علنيّة جزءٌ من الحل

تضيء هذه القضية على مشكلات تم تجاهلها لعقود، مثل جرائم التخدير والاعتداء، التي تعد من أصعب الجرائم كشفاً، إذ لا تدرك كثيرات من الضحايا تعرضهن للاعتداء نتيجة التخدير، أو قد يشعرن بالشكّ من دون يقين، كما حدث مع جيزيل. 

وبسبب قلة الوعي بتأثيرات التخدير وكيفية عمله على الضحايا، قد تمر مثل هذه الجرائم من دون ملاحظة. على سبيل المثال، عانت جيزيل لسنوات من أعراض المواد المخدرة التي كان زوجها يضعها لها من دون علمها. لم يخطر في بالها أن يكون ما تمر به نتيجة لهذا النوع من الانتهاك، ما يعكس غياب الوعي بهذه الأفعال وآثارها المدمّرة.

 قالت جيزيل: “يحدث هذا غالباً (تقصد التخدير والاعتداء) في العائلات، ويجب علينا جميعاً أن نكون على دراية بذلك حتى نتمكن من التعرف على العلامات التحذيرية، مثل الصداع المتكرر وضعف الذاكرة”.

موقع coco يُسهل جرائم الاغتصاب

من جهة أخرى، لا بد من الإشارة إلى الموقع الذي لعب الدور الأكبر في تسهيل هذه الاعتداءات، والذي تعرف بيليكو من خلاله إلى معظم الرجال الذين اغتصبوا زوجته، وهو الموقع الفرنسي COCO. 

الموقع غير مشهور إلا أنه معروف على نطاق واسع لدى المدافعين عن حقوق LGBTQ  وحقوق الأطفال، الذين طالما حذروا من خطورته، إذ بات مساحة مفتوحة للانتهاكات المتنوعة، إلا أن الجماعات الحقوقية والسلطات واجهت عقبات قانونية مختلفة في التحقيق واتخاذ الإجراءات القانونية ضده. 

واحتوت لوائح الاتحاد الأوروبي على أحكام واسعة تمنع مالك الموقع من تحمّل المسؤولية القانونية عن المحتوى الموجود على موقعه. كما أن انتقال الموقع  إلى نطاق مسجل في جزيرة غيرنسي المتمتعة بالحكم الذاتي عقّد الأمور القانونية للتعامل معه.

في جميع الأحوال، تعرّف معظم الرجال المتّهمون باغتصاب جيزيل على بيليكو في منتدى الدردشة على موقع COCO، حيث نسقوا معه وحضّروا للاعتداء على الزوجة.

وساعد تغاضي مديري الموقع عن المحتوى الذي تمت مشاركته عبره، بيليكو على ارتكاب جرائم بهذا الحجم وإبقائها مخفية طوال هذا الوقت.

منذ تأسيسه في عام 2003، تورطت شركة كوكو في جرائم القتل والاعتداءات الجنسية على الأطفال والمثليين لأنها تهربت من المساءلة. وأغلقت السلطات الموقع في 25 أيلول/ سبتمبر عام 2023، واعتقلت مؤسسه إلى جانب مديرين تنفيذيين آخرين. تم ذكر الموقع في أكثر من 23 ألف تقرير عن نشاط إجرامي، وشارك أكثر من 480 ضحية في الإجراءات القضائية المتعلقة بالموقع.

 من خلال تجربتها المؤلمة، تسعى جيزيل إلى محاسبة الجناة، وإلى كشف المزيد من الجرائم التي تُرتكب بصمت ضد النساء. وكما تقول في ردها على اعتذار بعض المتهمين: “إنهم يعتذرون لأنفسهم، وليس لي”، فجيزيل كآلاف النساء تعرف أن اعتذاراً بعد جريمة بشعة كهذه ما هو إلا محاولة لتبرئة الضمير، وليست تعبيراً حقيقياً عن الندم أو الاعتراف بحجم الألم الذي تسبب به كل هؤلاء الرجال لامرأة واحدة.

08.11.2024
زمن القراءة: 8 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية