هو رجل بسيط يُنهي عمله ويعود إلى منزله باكراً، يحمل لأطفاله حلوى ولعبة صغيرة، ينتظر مولوده الثالث، لا يشغل باله بالسياسية ولا بالحكام طالما أنه يستطيع تأمين قوت يومه من عمله في المستشفى الدولي في مدينة الأقصر. لكن في بلاد لا تحترم حرية التعبير والاحتجاج ولا تحترم حرمة الناس وأوجاعهم، يضطر المواطن إلى الدفاع عن نفسه طوال الوقت، حتى في وجه دولته… ولكن قد ينتهي به الأمر برصاصة في الرأس يطلقها عنصر في الشرطة، لإسكات صوته إلى الأبد… وبذلك يحرم أولاد الرجل البسيط وزوجته من حبه وحنانه.
هذه ليست أحداثاً خيالية مقتبسة من فيلم قديم، إنما حقيقة حصلت في قرية العوامية في محافظة الأقصر فجر الأربعاء 30 أيلول/ سبتمبر 2020.
ماذا حدث؟
بدءاً من 20 أيلول، شهدت قرية العوامية في الأقصر احتجاجات كما في بقية القرى المصرية، يرى بعض المحللين أنها استجابة لمقاول الجيش المصري، محمد علي، ويرى آخرون أنها بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وقانون التصالح مع البناء وهدم منازل المواطنين، ولكن الذين خرجوا في العوامية أكدوا أن تحركاتهم تأتي كرد فعل على الظروف الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية الصعبة والمجحفة في حق الشعب المصري.
بعد هذه الاحتجاجات، عكفت الشرطة والأمن على القبض على المحتجين وملاحقة آخرين في منازلهم، وكان منهم ضياء الراوي، فاتجهت قوة أمنية من الأقصر إلى منزل عائلة الراوي في العوامية، للبحث عن الشاب الداعي إلى الاحتجاجات لإسقاط النظام، والذي يستخدم حسابه للكتابة عنها، فلم يجدوه. فقرروا أخذ “الراوي الراوي” ابن عمه وشقيق عويس الراوي الصغير. فرفضت الأسرة وخصوصاً عويس. استخدم عناصر الشرطة القوة وقاموا بتكبيل الراوي الصغير، فلحقهم عويس إلى الخارج محاولاً تحرير أخيه، فأطلق الضابط 5 رصاصات، أيقظت الجيران من نومهم، ليروا عويس غارقاً في دمه، بعدما أصابت رصاصة منتصف رأسه.
أحد الجيران الذين شاهدوا الواقعة يقول لـ”درج”: “رأيت عويس على الأرض غارقاً في دمه، وبجانبه كان والده لا يستطيع الوقوف على قدميه، وكان أخوه يحاول فك قيوده للذهاب بأخيه إلى المستشفى، وكانت زوجته وأمه تصرخان. كان المشهد مأساوياً جداً”.
ويضيف، “بعد ذلك هرع الأهالي للخروج من منازلهم واتجهوا إلى منزل الراوي، وحاول بعضهم المساعدة وأخذ عويس إلى المستشفى، لكنه مات قبل أن يصل، وتم حفظه في المستشفى لكتابة تقرير بالواقعة. وبسبب غضب القرية، قام شباب محتجون منذ 20 أيلول، بخطف 3 أمناء شرطة. وهؤلاء لا يتبعون القوة الأمنية التي قتلت الراوي، ولكن يعملون لمصلحة مديرية الأمن في الأقصر، ويحاولون قمع المحتجين والداعين للاحتجاج وتسريب بياناتهم للشرطة التي غالباً ما تأتي فجراً للقبض عليهم”.
يوضح مصدر متابع: “يُقال في القرية إن أحد هؤلاء الأمناء هو من أفشى بيانات ضياء الراوي و25 شخصاً على الأقل اعتقلوا في الفترة السابقة في العوامية بسبب الاحتجاجات”.
الشرطة لن تتغير
مصدر آخر من القرية وأحد ثوار يناير، يقول لـ”درج” إن “الشرطة تحفظت على جثمان عويس الراوي لساعات طويلة وتمت مساومة أهالي القرية على الإفراج عن أمناء الشرطة الثلاثة”. يضيف المصدر أن الاجتماع حضره كبار العائلات في العوامية ومندوبون لوزارة الداخلية من الأقصر والقاهرة واستمر لساعات للتشاور، لتحديد إن كان سيتم أخذ حق الراوي، وانتهت الجلسة بوعود من مندوبي الداخلية بمحاكمة الضابط.
“الغريب بعد هذه الجلسة منع كبار العائلات أفرادها من التظاهر أو التحدث أو التصريح لصحافيين أو قنوات تلفزيونية، وجميعهم أصدروا تعاميم أن من سيتحدث عن الواقعة هم كبار العائلة فقط، ما أغضب شباب العوامية”، وفق المصدر.
يرجح المصدر أن كبار العائلات لا ينجرفون وراء الشرطة ولكن هذا التشدد يأتي في إطار على عدم تسييس الموضوع، وإدخال دعوات محمد علي في الأمر، لأن بعض أهالي القرية قاموا بمداخلات في قنوات إخوانية وتحدثوا لجرائد تمولها جماعة الإخوان المسلمين، لذا كبار العائلات حتى وإن كانوا غاضبين، ولكنهم يرفضون الجماعة وأعوانها.
يرى المصدر، أن ما زاد الغضب اشتعالاً بين الشباب هو أنهم بعدما رضخوا لكبار العائلات وتم الإفراج عن أمناء الشرطة، جاءت جثة عويس تصحبها سيارة شرطة كبيرة ومدرعة وعدد كبير من الجنود وسيارة إسعاف، وحينما وصلوا رموا قنابل غاز مسيل للدموع على الأهالي الذين أتوا من كل قرى الأقصر لحضور الجنازة. ويقول: “المصاب جلل والخطب عظيم والقلوب منفطرة على عويس وأهله”، ومع ذلك لم تحترم الشرطة هذا الحزن وقام عناصرها بتفريق الأهالي وملاحقتهم حتى في الجنازة.
وفقاً للمصدر فإن الأهالي رجالاً ونساء، استخدموا الطوب لحضور الجنازة في مواجهة الشرطة التي بدورها استخدمت الرصاص وقنابل الغاز المسيلة للدموع بشكل كثيف، ثم قطعوا عن القرية الكهرباء أكثر من يوم.
غضب عارم
حادثة الراوي أشعلت وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أن كثراً من مؤيدي السيسي قدّموا التعازي لأهالي الأقصر ورأوا في مقتل الراوي تجاوزاً واستعراضاً للقوة، واعتبر نشطاء سياسيون ما حصل تمهيداً لتفجير غضب مكتوم.
حمدين صباحي المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، كتب تدوينة على “فايسبوك” قال فيها: “سلطة مصر مصابة بضمور العقل السياسي وتضخم العضلات الأمنية، ما يستفز بركان الغضب المكتوم لينفجر”.
هرع الأهالي للخروج من منازلهم واتجهوا إلى منزل الراوي، وحاول بعضهم المساعدة وأخذ عويس إلى المستشفى، لكنه مات قبل أن يصل.
وقبلها أرفق صورة لعويس وابنه وكتب: “كيف سيكبر هذا الطفل ما لم تنتصر العدالة لدم هذا الرجل؟ شهيد الكرامة على يد سلطة متدنية الكرامة والكفاءة والأخلاق تنشر الظلم والكراهية وتدفع الوطن إلى الهاوية”.
المحامي الحقوقي خالد علي، كتب تدوينة طويلة أكد فيها أن عويس ليس الأول الذي قُتل على يد الشرطة، ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 قتلت قوة تابعة للشرطة طلعت شبيب، أثناء عودته من عند الحلاق، ووضعه عناصر الأمن في سيارة الشرطة وعذّبوه، ثم نقلوه إلى المستشفى وهربوا إلى القسم، وقد فارق الرجل الحياة. وتولى خالد علي إضافة إلى محامين آخرين، الدفاع عن ورثة شبيب، وتمكنوا من أخذ حكم على ضابط 7 سنوات مشدد و3 سنوات لخمسة أمناء شرطة، وتعويض ورثة شبيب بمليون ونصف المليون جنيه.
الاحتجاجات مستمرة
ما زالت الاحتجاجات في القرى المصرية والمناطق العشوائية المتطرفة من القاهرة مستمرة حتى الآن.
يوضح محام حقوقي يعمل في مركز “بلادي” (منظمة مجتمع مدني)، لـ”درج” أنه “يصعب حصر عدد المواطنين المقبوض عليهم أو المختفين قسراً، فالعدد الفعلي أكبر بكثير من المعلن عنه من مؤسسات المجتمع المدني،
إذ وثقت المفوضية المصرية للحقوق الشخصي حتى 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، 676 حالة اعتقال على هامش تظاهرات 20 أيلول”.
وأكدت المفوضية صدور قرارات بالحبس الاحتياطي لـ532 معتقلاً، وأخلي سبيل 26 شخصاً، وأشارت إلى استمرار اختفاء 118 آخرين لم يظهروا في أي نيابة أو مكان احتجاز حتى الآن.
وتصدرت محافظة الجيزة أعداد المعتقلين بـ194 شخصاً، تليها محافظة القاهرة بـ175 شخصاً، ثم محافظة المنيا بـ80 معتقلاً. وأغلب المقبوض عليهم تم التحقيق معهم على ذمة القضية رقم 880 لسنة 2020، حصر أمن دولة عليا.
ووجهت نيابة أمن الدولة العليا للمعتقلين، اتهامات بالانضمام لجماعة إرهابية، نشر أخبار كاذبة، إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، تمويل جماعة إرهابية، المشاركة في تظاهرات دون المنصوص عليها قانوناً.
ما تداعيات حادثة عويس؟
محلل سياسي، رفض ذكر اسمه، يقول لـ”درج” إن حادثة عويس بمثابة البنزين الذي وُضع على النار، ليزيد الغضب اشتعالاً، فالشعب مستاء بسبب حملات الإزالة والغلاء وارتفاع الأسعار وثبات الرواتب والتداعيات الاقتصادية لتعويم الجنيه وارتفاع أسعار الكهرباء.
ويضيف: “هذه المرة الغضب بسبب الفقر والحاجة عكس 25 يناير، التي كانت ذات أبعاد سياسية أكثر منها اجتماعية. الآن الفقراء وأصحاب “الجلاليب” يصرخون بسبب عدم قدرتهم على الإنفاق على أنفسهم وعائلاتهم لذا يجب الاستماع إليهم والتوقف عن القبض عليهم بشكل عشوائي، وإلا فالعواقب ستكون وخيمة”.
يرى المحلل السياسي أن التظاهرات البسيطة في القرى ليست استجابة لمحمد علي وأعوانه، فدعوات هؤلاء ربما شجّعت الناس على الرجوع إلى الشارع، لكنها ليست السبب، “فمعظم المحتجين في الفيديوات، من الناس البسطاء مرتدي الجلاليب وغير المتعلمين، الذين ربما لا يعرفون شيئاً عن الصراع بين السيسي وجماعة الإخوان، ولا يهمهم من يحكم مصر، بل أن يستطيعوا تأمين قوت يومهم على الأقل”.
يشير المحلل السياسي إلى أن هذه الاحتجاجات تمثل خطراً على السلطة الحاكمة وقد رأينا الدعوات للاحتفال بنصر أكتوبر لأهداف شعبوية بحتة.