“إنّها قصّةُ شخصٍ يحاول أن يهجر المدينة، شخصٌ باقٍ فيها، وشخص يجسّد المدينة التي تنهار“. هكذا يعرّف العرض المسرحي “كوكتيل شقف بلا معنى” (إخراج جنى بو مطر) عن نفسه. من على خشبة مسرح استوديو زقاق الذي يقع على بعد كيلومترين تقريباً من انفجار مرفأ بيروت، والذي تهاوت بعض من جدرانه، وحدثت فجوات وثقوب في سقوفه آنذاك. يحاول كلّ من الشخصيّات الثلاث (فرح كردي، جو رميا، أنطونيلا رزق) إعادة تعريف علاقة الإنسان بثقوب مدينته، باعتبارها بوّابات للعبور من الواقعي إلى الخيالي، بين الانتقال من “نصّ الشخصيّة ونصّها الخارجي” باعتراف أحد المؤيدين الثلاثة.
“كل شيء نراه، ينطوي على آخر لا نراه، ونحن نتوق دائماً لمعرفة المخفي وراء ما نراه”.
في احدى اللّوحات الأكثر رواجاً لصاحب هذه المقولة، الرسّام البلجيكي رينيه ماغريت “خيانة الصور” يجسّد ماغريت رسماً صوريّاً لغليون، كتب تحته عبارة: “هذا ليس غليوناً”.
بمنطق ماغريت ذاته، يبدأ العرض بعبارة “هذه ليست قصّة حب”. عندما سُئل ماغريت عمّا قصده بتلك الجملة أجاب ببساطة: “الصورة تخدعُنا. فهذا ليس غليوناً، لأننا لا نستطيع تدخينه. إنها صورته فقط”.
من يعرف شكل الغليون في الواقع إذاً؟ الناظر إليه أم الممسك إيّاه بين أصابعه؟ الحب هو الغليون في حالة “كوكتيل المعنى” هذا. لا يعرف الحب سوى من تعرّض للخيبة، ولا يعرف القلق الّا من نظر الى المرآة ولم يجد لوجهه مكاناً فيها.
“الصورة دائماً ما تحتاج إلى من ينظر إليها” تقول المخرجة. لم يكن الهدف من العرض تفكيك الصورة السائدة للوهم، بل أرادت من خلالها أن تفتح ثقباً في تأويل الصورة من خلال إضافة ثلاثة عناصر (الشخصيّات)، بحيث يكون الشخص الثالث هو المراقب دائما للحدث من بعد.
ما نستطيع فهمه من “غليون” ماغريت، يمكننا إسقاطه على المسرح. بيد أنّ الحياة هي الأخرى ليست حياة حقيقيّة فوق المسرح، حتّى لو ظهرت لك على أنّها كذلك. بإمكانك مشاهدة مقتطفات من حياة أحدهم على تلك الخشبة، أو مشاهد حميميّة في غرفة لا يستطيع أحد اقتحامها في الواقع، لكنّه أمر لا يجعلها حقيقيّة، لكونها موجودة ضمن إطار مسرحي يسمح لها بخيانة الصورة التي رسمناها عنها في أذهاننا.
استعملت المخرجة والكاتبة المسرحيّة جنى بو مطر المسرح كأنّه غليون ماغريت، أخذت اللوحة/ المدينة كلّها، أشعلتها وحوّلتها إلى رماد، فعلت ذلك دون أن تختلط عليها الأمور بين الحقيقة وبين تصوّرها الذهنيّ عنها، بين الحياة الواقعية وبين ما يراد لها أن تكون في عقلها.
“كانت لدي رغبة في إنشاء لغة جديدة من خلال أداء مسرحي مختلف عما اعتدنا على رؤيته”، تقول المخرجة. “وجدنا أنفسنا أنا وطاقم العمل محاصرين بهذه اللغة الجديدة، وعند هذا الحدّ بدأت الأمور تأخذ منحى ساخراً، بحيث أنّ ما هو حقيقي خارج النص، صار حقيقيّاً داخله.. مشكلتنا ليست في عدم وجود ما هو حقيقيّ بقدر ما هي في غياب قدرتنا على تحديد ما هو وهميّ”.
يحاول ماغريت تذكيرنا من خلال لوحاته بعدم الخلط بين الصور وبين الأشياء التي تمثلها، الّا أنّ المخرجة بعرضها ذاك، فعلت العكس تماما، خلطت صوراً ومفاهيمَ وأنتجت ما سمّته “كوكتيل شقف بلا معنى”.
في علم اللّغة، إنّ الدلالة هي الفعل الذي يربط بين الدال والمدلول، أي أن هذا الفعل يؤدِّي إلى بناء مغزى أو دلالة معيّنة، أمّا في علم النفس، فإنّ اللغة تعمل كبنية تحتية بالنسبة للكلام.
عندما وضع كلا المؤدّيين (فرح كردي وجو رميا) غطاءين على وجهيهما، في محاولة لتقليد لوحة ماغريت “الحبيبان”، التي اشتهرت كثيراً بدايات جائحة فيروس كورونا، كان القصد منها إخفاء شيء من الواقع المتّسم بحقيقة الوجوه، والإبقاء من خلال الغطاء على شيء من الحب الخياليّ في ذهن الحبيبين.
لم يكن استعمال تلك الصّورة عبثيّاً في العرض، الحقيقة دائماً ما تحتاج إلى إعادة تعريف وما إذا كانت الحقيقة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعمل الحواس، بين ما هو ملموس ومرئي وبين ما هو متخيّل. لو رأى الحبيبين في اللّوحة بعضهما، سيصبح كلاهما موجودا. “يراك المُحبّ يجعلك موجودا” إنّها الفلسفة نفسها التي اتّبعها الشّاعر بسّام حجّار في محاولته تفسير الحبّ في كتابه “معجم الأشواق”.
“هذا العرض هو بمثابة فعل مصارحة مع الواقع” تقول المخرجة. كأنّ المعنى الوحيد المتاح أمامنا اليوم “هو ذاك الذي يقبع خلف تدميرنا لجميع الصور والمعاني الوجدانية التي نملكها عن المدينة” أيّ أن نراها أخيراً كما هي بالفعل، بواقعها وحقيقتها: مدينة منتهية. “يبدأ التغيير عندما ينهار الوهم، هذا ما أعرفه عن نفسي، عندما فقدت الأمل بالفن، استخدمت الفن لكي أقول إنّني فقدت الأمل”. خشبة المسرح إذا هي عزاء الفنّان الوحيد وسط حطام مدينة مثقوبة بالواقع.
لا يمكننا مواجهة الوهم الّا عبر استعمال الخيال وفي الحالتين “السياسة هي لبٌّ هذا الصراع”، تقول فرح كردي. إنّ عمليّة إدراك المعنى لا يمكن الوصول إليها دون الاستعانة بالخيال، وكان كارل غوستاف يونغ؛ عالم النفس الشهير، أحد أبرز من أشاروا إلى تلك العلاقة بين صوغ المعنى وبين الخيال. “الوهم يسقطك في دوامة هذيانيّة، أما الخيال فيقودك إلى احتمال حياتك، بعد صنع معنى لها”.
يدخل الممثلون إلى الإطار الحديديّ بغية تشكيل لوحة ومن ثمّ يخرجون منه، يفعلون ذلك مع النص أيضاً كما المدينة. ظلالهم المتحرّكة واضحة على الجدران المحاذية لهم، تلك التي تمثّل الحدّ الفاصل بين الحياة وبين إمكانيّة حدوثها بالفعل.
في فلسفة الكهف لدى كلّ من سقراط وأفلاطون، الجدران هي “أشبه بالحواجز التي يضعها أمامهم لاعبو الدمى المتحرّكة، والتي تخفي اللاعبين وهم يعرضون ألعابهم”. أمّا بالنسبة إلى الظلال، فإنّها ما يدلّ على أنّ الحياة التي يشاهدها سكّان الكهف ليست إلّا صور في أذهانهم عمّا يحصل بالفعل خارج ذلك الكهف. هذا هو المعنى المستور الذي يبحث عنه هذا العرض، بحيث أنّ إحدى الممثّلات تذكر في أحد المشاهد، نيّتها لأن تكون “شخصاً آخر”، لكنّ الظلّ وحده قادر على تطبيق ذلك فعلياً.
إقرأوا أيضاً: