على مدخل ما يُعرف بالمربع الأمني في وسط العاصمة السورية دمشق، أكد لي قائد مجموعة الحرس، أنه لن يكون بإمكاني سوى مشاهدة الزنازين في الفرعين الأمنيين ٢١٥ و٢٤٨، من دون أن يُسمح لي، كصحافي، بالصعود إلى الطوابق العليا الملآى بالوثائق التي خلّفها قادة الفرعين وموظفوه خلفهم. وعلاوة على ذلك، رافقني عنصر من المجموعة طيلة زيارتي الزنازين في الداخل، كي يراقب امتثالي لهذه الإجراءات.
رائحة العفن والرطوبة والأمراض والدماء التي تميز المعتقلات السورية المكتظة والرهيبة ما زالت بقاياها في المكان. في الطابق الأرضي، ما زالت بعض أدوات التعذيب موجودة في قاعة فسيحة كانت تُستخدم للتحقيق والتعذيب.
أما الشواهد المتبقية في الزنازين والمنفردات، فهي بشكل أساسي ما حفره المعتقلون على الحائط: أسماءهم والمناطق التي ينحدرون منها، تواريخ اعتقالهم، إشارات وخطوطاً لمحاولة حساب الأيام، رسومات بسيطة، أمثالاً شعبية وحكماً، تعابير دينية، عبارات أشواق لأحبة وأقارب خارجاً.
أما الرسم الأكثر إثارة للذهول، فكان خريطة للعالم بتقسيم شبه دقيق للحدود بين الدول.
في المقابل، كان فرع فلسطين الأمني يشهد بعض الفوضى المستمرة، إذ ما زال متاحاً للصحافيين التجول بين المكاتب بدون أي رقابة. كانت هذه زيارتي الثانية للفرع خلال ثلاثة أيام، ولاحظت اختفاء ملفات حساسة، كنت قد شاهدتها خلال زيارتي الأولى. ولم أتعرض لأي تفتيش خلال مغادرتي، برغم أنني كنت أحمل حقيبة ظهر، أستطيع إخفاء بعض الوثائق فيها.

تمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات ونداءات، لحفظ ما يمكن حفظه من وثائق أجهزة النظام السابق ومقرات اعتقاله، بعد مشاهد العبث بها منذ ساعات هرب بشار الأسد الأولى.
عند البوابة الخارجية، ما زالت بعض الأسر المنكوبة تزور مقرات الفروع بحثاً عن أي معلومة عن مصائر أبنائها المفقودين. شاهدت عائلة رقّاوية تتحدث مع الحراس، قالت الأم المسنة التي ترتدي ثوباً تقليدياً إنها فقدت “ولديها الاثنين ماجد وثامر”، سألها الحارس عن تاريخ اعتقالهما فأجابت “من ١٠ سنوات أو أكثر… والله ما أذكر”، ثم انخرطت في بكاء خفيض الصوت.
على بعد دقائق بالسيارة من الفرع، يقع حي التضامن الذي بات اسمه مرتبطاً بالمجزرة التي خرجت تفاصيلها إلى العلن عام ٢٠٢٢. في شارع “نسرين” ذي التركيبة الطائفية المختلطة، بدت الحياة طبيعية. ذهبت لاستطلاع وضع شقة يملكها والدي في المساكن مسبقة الصنع وسط الحي. المنزل تقطن فيه عائلة لا نعرفها، ولم يصادف وجود أحد منهم وقت زيارتي، ولم أستطع أن أعرف وضع المنزل. أخبرني أحد الجيران أن الأسرة التي تقطن في الشقة حالياً خسرت منزلها في مخيم اليرموك إثر قصف لقوات النظام السابق. أحد الملفات الشائكة في سوريا الجديدة سيكون وضع العقارات والأملاك، إذ شهدت البلاد على مدى السنوات الفائتة دماراً عمرانياً هائلاً وتهجيراً قسرياً للملايين وحالات نزوح داخلي، وحرائق في بعض الدوائر الرسمية وعمليات مصادرة للممتلكات وتزوير لوثائق الملكية.

تناولت الغداء مع زميلتين صحافيتين في مطعم “ستة إلا ربع” الديري، اسم المطعم مستمد من اسم شارع تجاري شهير في مدينة دير الزور، ووجوده في دمشق ما هو إلا نتيجة جانبية للدمار الكبير، الذي شهدته تلك المحافظة الحدودية مع العراق، والنزوح الداخلي للعديد من سكانها باتجاه دمشق وحلب ومناطق أخرى. تحدثنا عن الملف الصعب بخصوص الملكيات العقارية، كما سمعت منهما، هما المقيمتان في دمشق وضواحيها، تفاصيل عن عائلات من انتماءات دينية وطبقية متنوعة ما زالت لا تغادر منازلها خوفاً من “الوضع الجديد”، على الرغم من الازدحام الشديد الذي تشهده العاصمة.
توجهنا إلى المدينة القديمة لمواكبة انطلاق مبادرة “مدنية” من دمشق. على الطريق، يمكن رؤية طوابير طويلة من المواطنين، على أفران الخبز، أو منافذ تصريف البنك التجاري السوري، أو أمام إدارة الهجرة والجوازات.
“مدنية” هي تجمع انطلق صيف العام الماضي، ويضم أكثر من 200 مؤسسة مجتمع مدني سورية داخل البلاد وخارجها. المقر الجديد للمبادرة يقع في قصر الفارحي، وهو ثاني أكبر قصور دمشق اليهودية، وما زالت بعض الكتابات بالعبرية مرئية على الجدران في الداخل. اليوم، لم يعد ثمة يهود في دمشق، أما المنزل فيملكه اليوم رجل الأعمال السوري المقيم في لندن أيمن الأصفري، وهو من مؤسسي “مدنية” وأحد أهم داعميها. العشرات من الناشطين والفاعلين في الشأن العام والعاملين في المنظمات، بعضهم عاد للتو إلى سوريا بعد سنوات طويلة من الغياب، تجمعوا للمشاركة في مؤتمر الإطلاق. لكن، وبالتوازي مع الحراك المدني المتنوع والنشط في مدن سورية عدة، لا بد من استرجاع رأي إحدى الزميلتين اللتين شاركتاني الغداء، إذ ترى أنه من الملحّ، إلى جانب نشاط المجتمع المدني، وجود حراك سياسي واضح وتشكيل أحزاب وأجسام سياسية جديدة واستئناف عمل القديمة منها. في المؤتمر الصحافي، قابلت الزميلة والأستاذة سعاد جروس بعد انقطاع دام أكثر من اثني عشر عاماً، قالت لي مازحة: “الآن فقط أستطيع أن أضع إشارة إعجاب على منشوراتك على فيسبوك”.
قبل مغادرة شوارع المدينة القديمة، شاهدت تجمهراً صغيراً أمام أحد المطاعم، كانت الفنانة السورية منى واصف محاطة بمجموعة من المعجبين لالتقاط الصور التذكارية، اقترب منها فريق تلفزيوني على أمل استخلاص تصريح منها حول التحولات الجارية، رفضت بأدب جم، ثم بارك لها أحد المارة، متمنياً عودة ابنها المعارض عمار عبد الحميد “بالسلامة”، فشكرته وتابعت طريقها.
عندما وصلتُ إلى مسرح القباني لحضور مسرحية “اللاجئان” للتوأمين محمد وأحمد ملص، كان المسرح مغلقاً والشارع معتماً كالأغلبية الغالبة من شوارع العاصمة، أخبرني فتى يافع يقف متكئاً على سيارة، أن العرض انتقل إلى مسرح “الخيام” القريب.
كان المسرح ممتلئاً تقريباً. العشرات أتوا احتفاء بالحدث وبفكرة إقامة أول عرض مسرحي بعد أيام على سقوط نظام الأسد، أكثر من احتفائهم بالمسرحية نفسها. قال الأخوان ملص، اللذان غادرا سوريا قبل أكثر من ١٢ عاماً هرباً من البطش، في تقديم موجز قبل بداية العرض، إن مسرح القباني أُغلق في وجهيهما وشكرا إدارة مسرح الخيام على الأخذ بالمبادرة، وأضافا أن “الأخوين بشار وماهر الأسد هاربان، بينما الأخوان ملص قد عادا إلى سوريا”، فاشتعل المدرج بالتصفيق. وقال مدير المسرح إنه بإمكان المتفرجين، وبشكل استثنائي، التصوير وحتى فتح البث المباشر عبر تطبيقات النيو ميديا.
تنوعت بالطبع ردود الفعل على المسرحية التي تتمحور حول قصة لاجئين سوريين في فرنسا، يعانيان من الاغتراب وصعوبة الاندماج في مجتمع جديد وشوقهما إلى حياتهما السابقة، لكن كان ثمة إجماع على جو جديد من التفاؤل والقدرة على المبادرة والعمل من دون رقابة، وسط تساؤلات ما إذا كان هذا الجو سيعمّر طويلاً.
في مقهى الروضة الشهير والقريب في شارع العابد، كانت غالبية الزبائن من العائدين حديثاً من دول المنفى واللجوء، أو المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد سابقاً في إدلب وريف حلب، بعضهم ممن شاركوا في مؤتمر إطلاق “مدنية”. تحدثت إحدى العاملات في وحدة دعم وتمكين المرأة عن “اغتراب” السوريين عن بعضهم بعضاً، هي، العائدة إلى الغوطة بعد إقامة لسنوات عدة في إدلب، شعرت باختلاف هواجسها وهمومها وخبراتها الحياتية عن هواجس السوريين الموجودين في دمشق ومحيطها، بينما لم تتشارك العديد من الأفكار مع السوريين القادمين من دول غربية.
جسر هذه الهوّات الفكرية والنفسية والاقتصادية بين السوريين، سيكون من المهمات العسيرة أمام أي حكم جديد للبلاد.
إقرأوا أيضاً: