عادة يخشى السوريون الحديث في السياسة مع سائقي سيارات الأجرة، ثمة قناعة سائدة أن كتلة وازنة من هؤلاء هم عملاء أمن متخفون. اليوم، تغير هذا الوضع، ربما على العكس تماماً، باتوا البارومتر الأنسب لقياس نبض الشارع. جميع من تحدثت معهم رحبوا بالتغيير الحاصل وسقوط نظام الأسد، لكنهم أيضاً لم يترددوا في بث شكاوى متعددة، كلها انصبّت حول مسائل معيشية: توفير المحروقات لسياراتهم، تحسين الأوضاع الخدمية وبخاصة الكهرباء، تأمين إسطوانات الغاز، إعادة الشرطة الى شوارع دمشق وضبط الوضع الأمني، العمل على تخفيض أسعار المواد الغذائية، وتحسين جودة الخبز وغيرها.
بعض من تحدثت معهم في شوارع العاصمة عبّروا عن وجهات نظر مشابهة. “لا شيء قادم سيكون أسوأ من السابق”، “كنّا بأسفل سافلين ولا يمكن أن يتردى الوضع أكثر”، “أيّاً من سيحكمنا أفضل من بشار”، عبارات كهذه مألوفة جداً، والتركيز دائماً منصب على أمور حياتية. خليط واضح من الفرح بالخلاص من جهة، والإنهاك من سنوات القمع والإفقار الطويلة من جهة مقابلة.
قد يكون هذا باعثاً على القلق بالنسبة الى ساسة وناشطين وفاعلين في الشأن العام ممن يلحّون، بشكل مفهوم، على مسائل الانتقال السياسي وكتابة الدستور والحريات العامة والخاصة،، مع ذلك تشهد سوريا عموماً ودمشق خصوصاً حراكاً هائلاً لجهات أهلية ومدنية. اجتماعات ومبادرات في كل مكان. في ساحة الأمويين شارك المئات في تظاهرة تطالب بدولة مدنية وضمان الحريات وحقوق النساء.
تعلق سوسن أبو زين الدين، المديرة التنفيذية لـ”مدنية”، وهي عبارة عن مبادرة تضم أكثر من 200 منظمة مجتمع مدني سورية داخل البلاد وخارجها، على هذا الانقسام بين الأمور المعيشية والشؤون المدنية والسياسية، بأن “هذه نقطة يجب الحوار بشأنها والعمل عليها”، مضيفة أن “موضوع الحريات يتقاطع مع الأوضاع المعيشية وتفاصيل الحياة اليومية الأخرى”. وتردف أن على المجتمع المدني أن يشتغل على ذلك، وأن يركز بشكل متزامن على الجانبين الخدمي والسياسي.
مبادرة مدنية نفسها، يقودها ويمولها سوريون، تستعد لإطلاق مقرها الجديد في دمشق، وشارك أعضاؤها، إلى جانب ناشطين آخرين، في لقاءات مع الوفود الدبلوماسية التي ما زالت تتوافد على العاصمة السورية.
في السياق ذاته، جاء خبر إقالة رئيس منظمة الهلال الأحمر السورية خالد حبوباتي، الصديق الشخصي لبشار الأسد، ومن ثم تعيين طبيب ومدير في المنظمة ذي خبرة وسمعة طيبتين، ليبثّا بعض الارتياح عموماً بعد سلسلة تعيينات لمناصب أخرى أثارت لغطاً وجدلاً.
حبوباتي هو واحد من فئة رجال الأعمال التي تشابكت مصالحها مع النظام السابق. تقول سيدة مجتمع دمشقية ومديرة لمنظمة خيرية، إن بعض هؤلاء، بما يشمل اقتصاديين ساعدوا النظام على الالتفاف على العقوبات الدولية، يحاولون التبرؤ من علاقاتهم السابقة بالنظام واستئناف أعمالهم من دون أي مراجعة أو تحمّل للمسؤولية أو اعتذار أو كشف الملفات السوداء للفترة السابقة.
بعض الناشطين يتهمون رجال أعمال من هؤلاء بتمويل ميليشيات كذلك، ولعب دور في الإخفاء القسري الذي طاول عشرات الآلاف من السوريين.
في معتقل وفرع فلسطين الأمني الشهير جنوب دمشق، لا تزال العائلات تتوافد للبحث عن أبنائها وبناتها المفقودين. دخلنا، أنا والزملاء من “درج”، إلى الفرع بعد أن تأكد الحارس الملثم، الذي خاطبه العناصر الآخرون بـ”الشيخ”، من وجود تصاريح إعلامية معنا.
غرفة البوابة تضم المئات من جوازات السفر والهويات الشخصية، من غير الواضح إن كانت جميعها لأشخاص كانوا معتقلين في هذا المكان، بعض الجوازات تعود الى أطفال لم يتجاوزوا الخمس سنوات من العمر، والقليل منها لجنسيات أخرى. صادفنا رجلاً من عصبة الأنصار الفلسطينية الناشطة في مخيم عين الحلوة اللبناني، قال إنه أتى لزيارة الزنزانة التي أمضى فيها خمس سنوات بين 2006 و2011.
في الباحات الخارجية، آثار معركة ليست عنيفة لا تزال بادية للعيان، بقايا رصاص وعلب ذخيرة وحافلات مهشّمة الزجاج. دخلنا إلى المباني المتعددة للفرع، بعض المكاتب والغرف محروقة جزئياً أو كلياً. في الداخل لا يمكن إلا أن تشعر بالانقباض لدى استطلاع الزنزانات المعتمة ببواباتها الحديدية السوداء، بعضها لا يزال يحتوي على ملابس نسائية وحذاء لطفل قد لا يبلغ عمره أكثر من ثلاث سنوات.
الكثير من الملفات والوثائق ما زالت مبعثرة أو موجودة في المكاتب، كلها تحتاج لحفظ، وتبويب وتصنيف عاجلين، مجلدات وسجلات وأقراص مدمجة وأوراق تحقيق وقوائم الدوام اليومي ولوائح اعتقال وبرقيات ومراسلات مع جهات خارجية ومفكرات يومية لبعض كبار الضباط وتقارير تقييم وكتب ومتعلقات شخصية.
في ساحة الفرع المفتوحة على السماء خارجاً، عثرناً على ملف حساس متعلق بحزب الله اللبناني، فكّرنا لو أن الجو كان ممطراً في أي من الأيام السابقة لكان الملف تعرض للتلف بشكل كامل.
لدى مغادرة الفرع، كان المزيد من العائلات تصل باحثة عن أي معلومة قد تساهم في كشف مصير أحبائها المفقودين، أم وابنتها قدمتا من رأس العين على الحدود التركية للبحث عن ابن الأولى وشقيق الثانية المعتقل منذ 2012، عائلة أتت من ريف البوكمال عند الحدود العراقية تبحث هي الأخرى عن ابنها. شاب من ريف درعا يحاول العثور على أخيه، لم ييأس من تفقّد كل جوازات السفر على مرأى عدسة كاميرا التلفزيون الهولندي التي كانت توثق المشهد. بدأت سيدة بالنواح واللطم والدعاء على بشار الأسد مع تسرب اليأس إلى نفسها إثر تقليب عشرات البطاقات الشخصية بلا طائل.
اختتمت يومي الطويل بجولة سريعة في دمشق القديمة. دخلت إلى إحدى الحانات في زقاق داخلي، كانت الحانة خالية تماماً من الزبائن. سألت النادل إن كان ذلك اعتيادياً فأجاب بأن ذلك متوقع في قلب الأسبوع، لكن صاحبة البار تدخلت في الحوار القصير لتقول إن “الناس خايفين بسبب الوضع الأمني والعتمة” في الشوارع، مضيفة أنه لا داعي للإنكار أن البعض قلق “من الوضع الجديد”. والوضع الجديد هذا سيبقى جديداً لأشهر عدة على الأقل، وقد لا تعود الحياة إلى كامل طبيعتها قبل ذلك.