fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

يوم أدركنا في لبنان أن السوريين ليسوا “نظام الأسد”!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الشارع الناس يتبادلون التهاني والتباريك، لبنانيين وسوريين، حتى إن سائق التاكسي الذي أوصل إليّ أمانة يوم أمس، قال لي بدل “صباح الخير”، “مبروك”. نعم ألف مبروك، لقد سقط الأسد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كمعظم أبناء زحلة وجوارها، كبرتُ على كره نظام الأسد، ونشأت بين مراكز الجيش السوري المرعبة أيام الوصاية الأسدية على لبنان. 

أعرف عيونهم، وبدلاتهم العسكرية، أعرف الخطر الذي قد يشكّله مجرّد المرور قرب البيوت التي صادروها في بلدتنا، حفظتُ ما كتبوه على الجدران وما حفروه فينا وعلى السكك الحديد التي حطّموها قرب بيتنا. 

لسنوات عدة شاركت في مخيمات صيفية في مدرسة، احتل الجيش السوري بعض مبانيها واستوطنها وأنشأ فيها مركزاً للتعذيب. من حسن حظي أنني لم أكن أعلم وقتها أنني كنتُ ألعب قرب مركز للتعذيب! عرفت لاحقاً، بعدما رحلوا وتركونا بسلام.

لم يكن في تلك الأيام التمييز متاحاً بين النظام السوري والسوريين، فحتى بائع الكعك حينذاك كنا نشكّ في أنه” مُخبر” للمخابرات السورية، وكانت للحيطان عيون وآذان، ولم نكن لنتخيّل أن هناك سورياً واحداً مثلنا يكره هذا النظام ويعاني منه.

 كنا نعتقد أن جميع السوريين هم جنود لدى آل الأسد، وهو اعتقاد لم ينشأ من عبث، بل هو جزء من “باكيدج” الرعب الذي فرضه علينا النظام وقتها، أن نخاف من شعب بأكمله!

حين بدأت الثورة السورية عام 2011، لم أفهم شيئاً في البداية، واحتجت بالفعل إلى وقت حتى أستوعب أن النظام السوري يمكن أن يسقط وأن السوريين ليسوا النظام، وليسوا جميعاً جنوداً لدى “حزب البعث” سيئ الذكر، الذي استفاض في القتل والتعذيب والتنكيل باللبنانيين.

بعد حين طُلب مني العمل على قضايا اللاجئين السوريين في لبنان وأحوالهم، ولم أكن أملك خياراً. كانت المؤسسة التي أعمل فيها بوقتها مهتمة بتغطية وصول المساعدات للعائلات وتوزّع السوريين في المناطق. فعلتُ ذلك بصفتي صحافية في بداية مشوارها، تستمع إلى التعليمات وتنفّذها.

لكنّ الوقت مضى بسرعة وغرقتُ هناك. غرقت في حكايات الناس، في قضايا صعقتني، من السجون إلى خطر الاعتقال في حال العودة إلى سوريا، خبايا قرارات الترحيل، اللجوء، الجوع، التنكيل بالمعارضين، الإخفاء “خلف الشمس”. لم تكن القضايا التي عملتُ عليها مألوفة بالنسبة إلى كثيرين من معارفي الذين لم يتسنَّ لهم أن يدركوا أن السوريين ليسوا النظام، وأن حكاياتهم تستحق أن تُحكى وأنهم أصحاب قضية محقّة وصادقة. 

كانت ذكريات أيام الاحتلال الأسدي تراود كثيرين من أبناء بلدي كلما رأوا مواطناً سورياً أو سمعوا حكايته. أما أنا، فكنت بالفعل غارقة، غرقت هناك، واصلتُ البحث ونبش القضايا بشراسة، صار لي أصدقاء في السجون، وآخرون من أهالي المعتقلين، اتصل بي كثيرون ورووا لي أنهم خائفون من أن يجبروا على العودة إلى سوريا.

 أخبرني أحد الآباء أنه أخفى ابنه في مغارة في أحد الجرود حتى لا يصل النظام إليه، ثمّ انفجر وهو يرجوني ألا أخبر أحداً. أقفلت الخط ودخلت إلى الحمام لأبكي على راحتي يومها، ولا يسألني أحد لماذا تبكين.

أتذكّر الآن هيفاء التي روت لي كل شيء، أخبرتني كيف هربت من النظام في سوريا، وكيف تعرضت للتحرش في لبنان وكيف ربّت أولادها بعد اختفاء زوجها.

أتذكّر أحد السجناء السوريين في لبنان وهو يخبرني عن التعذيب الذي تعرّض له، لم يخرج صوته من رأسي حتى الآن، وهو يؤكد مراراً بأن عليّ ألا أذكر اسمه أمام أحد لأن ذلك قد ينهي حياته.

حكايات كثيرة، أصبح أبطالها أبطالي أيضاً وأحياناً أصدقائي. الآن وقد سقط النظام السوري، جميعهم يرقصون في قلبي، وآمل أنهم تذكّروني في الأيام القليلة الماضية، لعلّهم يشعرون مثلي بأننا ناضلنا من أجل لحظة واحدة، تحققت الآن.

لقد أكد الدفاع المدني السوري انتهاء البحث عن المعتقلين في سجن صيدنايا، وقيل إن من خرج قد خرج أما الباقون فيُعتقد أن النظام قتلهم في فترة الحرب السورية. أعرف بعض حكايات المعتقلين السوريين واللبنانيين، وآمل أن يكونوا جميعاً من الناجين، لكنّ مع ضعف الاحتمال، آمل أن يكونوا قد ارتاحوا الآن حيثما كانوا. مع سقوط الأسد سقطت أيضاً الأقنعة التي لطالما توارى خلفها من مقاومة العدو إلى القضاء على الإرهاب وصون أمن الأمة، وفُتحت أبوب السجون التي تشبه جهنّم، وشاهد العالم أن من عاشوا في زمن الأسد، جميعهم ضحايا ومن بقي منهم حياً، إنما نجا بأعجوبة.

ربما سمح لي عملي بالتعرف إلى ما يعنيه أن تكون سورياً، وقد استطعت أن أفهم كمّ المعاناة والظلم الذي واجهه السوريون طيلة 50 عاماً، نظرت في عيونهم وتحدّثنا. بعضهم أخبروني أنهم لم يكونوا على علم بمظالم النظام في لبنان، وقد فوجئوا حين عرفوا.

 زميل سوري قال لي يوم سقط النظام: “لقد سقط… أعتذر عن كل المعاناة التي سبّبها لكم”. رسالته كانت كبيرة، فكما لم يستطع الكثير من اللبنانيين الوصول إلى لحظة التمييز بين النظام والسوريين، ربّما لم يتسنَ لجميع السوريين قبل الآن أن يعرفوا أن في قلوب اللبنانيين جرحاً يشبه جرحهم حدّ التماهي، وأن لحظة السقوط تلك، كانت قبلة دافئة فوق الجرحين… يستطيع الدفء أحياناً أن يخفف الجراح.

في الشارع الناس يتبادلون التهاني والتباريك، لبنانيين وسوريين، حتى إن سائق التاكسي الذي أوصل إليّ أمانة يوم أمس، قال لي بدل “صباح الخير”، “مبروك”. نعم ألف مبروك، لقد سقط الأسد.

مصطفى إبراهيم - حقوقي فلسطيني | 24.01.2025

فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم

المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي "حرب" جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات…
11.12.2024
زمن القراءة: 4 minutes

في الشارع الناس يتبادلون التهاني والتباريك، لبنانيين وسوريين، حتى إن سائق التاكسي الذي أوصل إليّ أمانة يوم أمس، قال لي بدل “صباح الخير”، “مبروك”. نعم ألف مبروك، لقد سقط الأسد.

كمعظم أبناء زحلة وجوارها، كبرتُ على كره نظام الأسد، ونشأت بين مراكز الجيش السوري المرعبة أيام الوصاية الأسدية على لبنان. 

أعرف عيونهم، وبدلاتهم العسكرية، أعرف الخطر الذي قد يشكّله مجرّد المرور قرب البيوت التي صادروها في بلدتنا، حفظتُ ما كتبوه على الجدران وما حفروه فينا وعلى السكك الحديد التي حطّموها قرب بيتنا. 

لسنوات عدة شاركت في مخيمات صيفية في مدرسة، احتل الجيش السوري بعض مبانيها واستوطنها وأنشأ فيها مركزاً للتعذيب. من حسن حظي أنني لم أكن أعلم وقتها أنني كنتُ ألعب قرب مركز للتعذيب! عرفت لاحقاً، بعدما رحلوا وتركونا بسلام.

لم يكن في تلك الأيام التمييز متاحاً بين النظام السوري والسوريين، فحتى بائع الكعك حينذاك كنا نشكّ في أنه” مُخبر” للمخابرات السورية، وكانت للحيطان عيون وآذان، ولم نكن لنتخيّل أن هناك سورياً واحداً مثلنا يكره هذا النظام ويعاني منه.

 كنا نعتقد أن جميع السوريين هم جنود لدى آل الأسد، وهو اعتقاد لم ينشأ من عبث، بل هو جزء من “باكيدج” الرعب الذي فرضه علينا النظام وقتها، أن نخاف من شعب بأكمله!

حين بدأت الثورة السورية عام 2011، لم أفهم شيئاً في البداية، واحتجت بالفعل إلى وقت حتى أستوعب أن النظام السوري يمكن أن يسقط وأن السوريين ليسوا النظام، وليسوا جميعاً جنوداً لدى “حزب البعث” سيئ الذكر، الذي استفاض في القتل والتعذيب والتنكيل باللبنانيين.

بعد حين طُلب مني العمل على قضايا اللاجئين السوريين في لبنان وأحوالهم، ولم أكن أملك خياراً. كانت المؤسسة التي أعمل فيها بوقتها مهتمة بتغطية وصول المساعدات للعائلات وتوزّع السوريين في المناطق. فعلتُ ذلك بصفتي صحافية في بداية مشوارها، تستمع إلى التعليمات وتنفّذها.

لكنّ الوقت مضى بسرعة وغرقتُ هناك. غرقت في حكايات الناس، في قضايا صعقتني، من السجون إلى خطر الاعتقال في حال العودة إلى سوريا، خبايا قرارات الترحيل، اللجوء، الجوع، التنكيل بالمعارضين، الإخفاء “خلف الشمس”. لم تكن القضايا التي عملتُ عليها مألوفة بالنسبة إلى كثيرين من معارفي الذين لم يتسنَّ لهم أن يدركوا أن السوريين ليسوا النظام، وأن حكاياتهم تستحق أن تُحكى وأنهم أصحاب قضية محقّة وصادقة. 

كانت ذكريات أيام الاحتلال الأسدي تراود كثيرين من أبناء بلدي كلما رأوا مواطناً سورياً أو سمعوا حكايته. أما أنا، فكنت بالفعل غارقة، غرقت هناك، واصلتُ البحث ونبش القضايا بشراسة، صار لي أصدقاء في السجون، وآخرون من أهالي المعتقلين، اتصل بي كثيرون ورووا لي أنهم خائفون من أن يجبروا على العودة إلى سوريا.

 أخبرني أحد الآباء أنه أخفى ابنه في مغارة في أحد الجرود حتى لا يصل النظام إليه، ثمّ انفجر وهو يرجوني ألا أخبر أحداً. أقفلت الخط ودخلت إلى الحمام لأبكي على راحتي يومها، ولا يسألني أحد لماذا تبكين.

أتذكّر الآن هيفاء التي روت لي كل شيء، أخبرتني كيف هربت من النظام في سوريا، وكيف تعرضت للتحرش في لبنان وكيف ربّت أولادها بعد اختفاء زوجها.

أتذكّر أحد السجناء السوريين في لبنان وهو يخبرني عن التعذيب الذي تعرّض له، لم يخرج صوته من رأسي حتى الآن، وهو يؤكد مراراً بأن عليّ ألا أذكر اسمه أمام أحد لأن ذلك قد ينهي حياته.

حكايات كثيرة، أصبح أبطالها أبطالي أيضاً وأحياناً أصدقائي. الآن وقد سقط النظام السوري، جميعهم يرقصون في قلبي، وآمل أنهم تذكّروني في الأيام القليلة الماضية، لعلّهم يشعرون مثلي بأننا ناضلنا من أجل لحظة واحدة، تحققت الآن.

لقد أكد الدفاع المدني السوري انتهاء البحث عن المعتقلين في سجن صيدنايا، وقيل إن من خرج قد خرج أما الباقون فيُعتقد أن النظام قتلهم في فترة الحرب السورية. أعرف بعض حكايات المعتقلين السوريين واللبنانيين، وآمل أن يكونوا جميعاً من الناجين، لكنّ مع ضعف الاحتمال، آمل أن يكونوا قد ارتاحوا الآن حيثما كانوا. مع سقوط الأسد سقطت أيضاً الأقنعة التي لطالما توارى خلفها من مقاومة العدو إلى القضاء على الإرهاب وصون أمن الأمة، وفُتحت أبوب السجون التي تشبه جهنّم، وشاهد العالم أن من عاشوا في زمن الأسد، جميعهم ضحايا ومن بقي منهم حياً، إنما نجا بأعجوبة.

ربما سمح لي عملي بالتعرف إلى ما يعنيه أن تكون سورياً، وقد استطعت أن أفهم كمّ المعاناة والظلم الذي واجهه السوريون طيلة 50 عاماً، نظرت في عيونهم وتحدّثنا. بعضهم أخبروني أنهم لم يكونوا على علم بمظالم النظام في لبنان، وقد فوجئوا حين عرفوا.

 زميل سوري قال لي يوم سقط النظام: “لقد سقط… أعتذر عن كل المعاناة التي سبّبها لكم”. رسالته كانت كبيرة، فكما لم يستطع الكثير من اللبنانيين الوصول إلى لحظة التمييز بين النظام والسوريين، ربّما لم يتسنَ لجميع السوريين قبل الآن أن يعرفوا أن في قلوب اللبنانيين جرحاً يشبه جرحهم حدّ التماهي، وأن لحظة السقوط تلك، كانت قبلة دافئة فوق الجرحين… يستطيع الدفء أحياناً أن يخفف الجراح.

في الشارع الناس يتبادلون التهاني والتباريك، لبنانيين وسوريين، حتى إن سائق التاكسي الذي أوصل إليّ أمانة يوم أمس، قال لي بدل “صباح الخير”، “مبروك”. نعم ألف مبروك، لقد سقط الأسد.