كنت في زيارة ليومين إلى منزل أحد أصدقائي الصحافيين في شارع القصر العيني عام 2014، قبل ذكرى ثورة يناير بأيام، لم يكن صديقي هناك حين اقتحمت مجموعة من الأشخاص في زي مدني الشقة، وفجأة أمسك اثنان بي، أما الآخرون فشرعوا في تفتيش الشقة تفتيشاً دقيقاً، دون أي تفسير.
خرج أحد الضباط من إحدى الحجرات وبيده دفتر قديم، كان يستخدمه صديقي لتغطية التظاهرات في الشوارع في فترة 2011 و2012، ثم سألني بحدة: “أنت تبع أسرة إيه؟”، أجبته بأنني لا أنتمي للإخوان، ويبدو أن عقلية المحقق الفذة بدأت تعمل فسألني بثقة: “طالما انت مش إخواني، عرفت منين بقا أنهم مقسمين إلى أُسر”.
كانت إجابتي مقتضبة: “أي عيل في الخامس ابتدائي عارف إن الإخوان مقسمين إلى أُسر”. وبينما يفتش أحدهم محتويات المطبخ، عثر على زجاجة بيرة في الثلاجة، ثم خرج بها ليخبر الضابط بكل ثقة: “مش إخواني يا باشا، لاقينا في تلاجته بيرة”.
عبوة البيرة أنقذتني وغباء المفتش أيضاً، قلت لنفسي “ماذا لو رأى سيجارة الحشيش أسفل الكرسي؟”. كانوا تافهين وأدركت حينها، أن عمليات الاقتحام والاستجواب تبدو عظيمة ومهيبة في صورتها البعيدة، لكنها تافهة وغبية في تفاصيلها القريبة. تحول ذلك إلى موقف مضحك، أرويه الآن محاولاً معالجة نفسي من الرعب.
أعداء اللحظات الجميلة
كنت أجلس برفقة صديقتي في شرفة منزلي في وسط البلد، كنا في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2017 قبل ذكرى الثورة بأيام، وفجأة تذكرت واقعة الاقتحام، إنما ليس بشكل مضحك هذه المرة، لقد بدا الأمر مخيفاً.
وجدتني أرمي نظرة كل دقيقتين إلى الشارع مدققاً بالمارة بحثاً عما يشير إلى وجود عناصر أمن.
دارت في رأسي كل السيناريوات المحتملة وغير المحتملة، بما قد يتهمونني به هذه المرة، وماذا سيكون مصير صديقتي؟ وكيف سأتعامل مع “غبائهم وتعليقاتهم في اللحظات الأولى”. وماذا لو فتشوا مكتبة رفيقي في السكن، واختار أحد الأغبياء كتاباً يتحدث عن الإلحاد أو آخر عن الإسلاميين أو الشيوعيين.
لاحظت صديقتي ارتيابي المفاجئ فارتبكت هي الأخرى، وهنا أدركت أن الأثر السيئ لاقتحام الأمن شقة صديقي عام 2014 لم يمر مرور الكرام.
تدرك ذلك، حين يطلب منك صاحب السكن “صورة بطاقتك” لتسليمها إلى قسم شرطة قصر النيل، لأن أصحاب الشقق مطالبين بالإبلاغ عن المستأجرين الجدد للشقق المفروشة، وتجلس مترقباً لحظة وصولهم في أي لحظة، وتضع سيناريوات جدية حول الأمر، الأسئلة المحتملة والإجابات، وبمن أتصل أولاً في حال قُبض علي.
ثم تظهر في أحلامك وتأكلك
واقعة الاقتحام التي تعرضت لها كانت بسيطة مقارنة بما تعرض له آخرون، مثل الصحافي الراحل محمد منير، الذي دخل بيته عدد كبير من رجال الأمن مدججين بمختلف أنواع الأسلحة، إلى اقتحام منزل تلك السيدة المسنة والاعتداء عليه…
لكن واقعتي لم تفارقني ولم تفارق أحلامي ومخاوفي، أتخيلهم يدخلون منزلي مجدداً أو يوقفونني في الشارع، مرة بينما أدخن ومرة بينما أشارك في نشاطات سياسية سرية وأحياناً دون سبب واضح، وأحياناً يقتلونني.
في الليلة الأولى، التي سافر فيها شريكي في السكن إلى لبنان، كان هاجسي هو أن تقتحم الشرطة المنزل، في تلك الليلة رأيتهم يقتحمون منزلي، ولم يلقوا القبض علي بل وجه أحدهم سلاحه نحوي وشرع في قتلي قبل أن أستيقظ مرتعباً.
بت أتأكد قبل النوم من إغلاق الأبواب والنوافذ جيداً ومن عدم ظهور كتاب حول موضوع يثير حفيظتهم، وإذا قرع أحدهم الباب ليلاً لا أفتح مطلقاً.
وفوق ذلك أدفع مبلغاً إضافياً للبواب حتى لا يدلهم على شقتي، إذا ما شنت حملة تفتيش، وهو ما كان يفعله حقاً…
أدركت أن جزءاً من راتبي يُستقطع لتفادي سيناريوات الاقتحام المفاجئة. وأسأل نفسي، ماذا حدث للذين تعرضوا لوقائع أبشع؟
إقرأوا أيضاً:
الشخصية المهمة
المرة الوحيدة التي شعرت فيها بالاطمئنان كانت حين سكنت في البناية المجاورة لبناية محافظ القاهرة في أحد أحياء مصر الجديدة. تعرضت لأربع مرات للإيقاف في الشارع في البداية، بواسطة دورية مباحث، كانت تتجول باستمرار في المنطقة، كانت المنطقة آمنة ومحصّنة، لأن لواء في الجيش كان يعيش هناك. لكن يبدو أنهم حفظوا وجهي جيداً ولم يستوقفني أحد منهم لنحو عامين، بل كنا نتبادل أحياناً التحية من بعيد.
تشعر بأن وجودك بجانب “شخصية مهمة”، بمثابة “كارت أمان”، لا حملات مفاجئة من الشرطة ولا إيقافات متكررة. بل رأيت ما هو أبعد من ذلك، رأيت إحداهن توبخ ضابط شرطة في الشارع لأن سيارة الشرطة كانت تسد الطريق أمام خروج سيارتها من أمام أحد المطاعم، أرادت السيدة الخروج بسيارتها فرفض الضابط وأخبرها أن “أمين الشرطة هو اللي بيسوق، وهو دلوقتي بيجيب أكل، فاستني شوية”.
انهالت عليه السيدة بسيل من الشتائم والتوبيخ، وأجبرته على فتح طريقها. قلت في نفسي “الناس هنا شكلها واخدة حقها جامد”، وتذكرت واقعة سيدة المطار.
طوال العامين لم يراودني كابوس الشرطة تقتحم منزلي، كانت تلك استراحة قصيرة.
شبح التوقيف ليس في شقتك الآن، بل في الطريق إلى عملك، لكنك لا تشعر بالخوف لأنك لن تتعرض لأي انتهاكات، طالما أن موقفك سليم ولا تمثل تهديداً حقيقياً، ما سوف تشعر به هو الملل والتعب من تكرار الأمر.
شعرت بالملل لدرجة أنهم في مرة طلبوا مني الوقوف لإبراز الهوية فلم أعرهم أي اهتمام وواصلت طريقي، لأفاجأ بأنهم يلاحقونني، وحين اكتشفوا أنني ذات مرة حررت محضراً سابقاً ضد ضابط شرطة، ازدادوا ريبةً.
بعد استجواب قصير لا يتجاوز الـ10 دقائق رويت فيه قصة المحضر، تركوني في سبيلي.
“كنت تعرضت للاعتداء داخل أحد أقسام الشرطة على يد ضابط واثنين من الأمناء عام 2014 واحتجزوني داخل قسم الشرطة نحو ساعة، لأنني لم أكن أحمل بطاقة هوية أثناء وجودي داخل القسم لإجراء لقاء مع ناصر البرنس صاحب مطعم البرنس بإمبابة، والذي كان محجوزاً حينها بتهمة بيع لحوم فاسدة، وبعد خروجي توجهت إلى وزارة الداخلية وحررت محضراً ثم حررت آخر في مديرية أمن الجيزة”.
مرت على الواقعة أكثر من سبع سنوات، ونسيتها ولم أتابع المحضر حينها ولم أعرف ما حدث مع الضابط أو أمناء الشرطة، لكنهم حين سألوني عنها شعرت بالخوف أكثر.
مع انتقالي مرة أخرى إلى منطقة وسط القاهرة بعد انتهاء عملي في مصر الجديدة، عاد هاجس الاقتحام إلى مخيلتي تلقائياً، فأنا الآن معروف عند الأمن، لذلك أعدت وصفة الأمان القديمة، رشوة البواب، والتأكد من أن لا كتب تثير حفيظة أحد أذكياء الأمن ولا أفتح الباب مطلقاً لأحدهم أثناء الليل.
لكن عادت كوابيسي من جديد، منذ ثلاثة أسابيع راودني كابوس بأنهم يقتحمون المنزل دون سبب، أصبت بالذعر واستيقظت من نومي لأتأكد من أنني بخير. أبداً لا أفتح الباب لأحد لا أعرفه، لدرجة أن محصلي الفواتير شكّوا في أننا نتهرّب منهم، ذلك أنني انتظرت حتى عاد صديقي من السفر لتسوية كل شيء.
إقرأوا أيضاً: