مر ذلك اليوم، 17 شباط/ فبراير، وكأنه تاريخ كامل لبلاد يرفض أهلها الاعتراف بنهاية تعريفها. وقائع كثيفة يصعب فرز عناصرها وبناء مواقف منها، وقائع تنتمي إلى زمن تقدم أشواط على وعينا ببلادنا، كأرض واحدة متحدة وشعب متماسك ثار على نظام الاستبداد الوحشي وقدّم تضحيات من دون طرح أسئلة حول معنى سوريا الجديدة المضاد لما تم تأويله دجلاً عبر “غوبلزية” البعث وخداعه. وعي يتناقض عند إدانة مجزرة ما، ويحيل الثقافة إلى فعل مفصول عن السياسة.
فحلب، التي عادت إلى السجن الأسدي، وتسابق المعارضون على لوم أهلها المحتفلين، بدت متأرجحة بين إدانة ومكابرة، الأولى ترميها بالخيانة لقبولها نظام الاستعباد من جديد والاحتفاء به، والثانية تمدها بالأعذار محيلة سلوك المحتفلين إلى نفي تمثيلهم المدينة، وإن مثلوها فعلاً، فذلك لقسوة الأحوال التي وصلت إليها الثورة وليس لموقف سياسي.

وفي الأرجحة، إصرار متعمد على ثورية حلب التي ما انفكت شهادات الناشطين تؤكد دخولها الثورة عنوة عبر كتائب زحفت من الريف، واستقرت في الأحياء الشرقية، طاردة قوات الأسد الفاشية. وما الإصرار سوى رد على سردية موالاة المدينة للنظام، ورفضها الانخراط في الثورة، لتستقر حلب بين ضدين، ينفيان عنها هويتها ومزاجها وخصوصيتها، والأخيرة لا تحيل إلى عادات وتقاليد تنفرد بها عادة معظم البلدات والمدن السورية، وإنما إلى مقومات كيانية تقلص روابط الشهباء ببقية البلد وتنحو بها إلى استقلالية غالباً ما تبدت في تاريخ سوريا قبل الأسد، منافسة مع المركز اقتصاداً وسياسة. وعليه، بين الاحتفال وإنكاره وبين الثورية والأسدية وبين النظام المعارضة وسواها من الثنائيات المتضادة، ثمة حلب ثالثة مقموعة بلغة البعث المستورثة من رموز المعارضة، حلب الباحثة عن نفسها وكيانها في اتصال مقنن مع المركز لا يطمس طموحها للاستقلال.
استبقاء حلب رهن التعريف البعثي للبلاد، رافقه في اليوم نفسه، استبقاء آخر يشترط على إدانة المجزرة وجود جثة محددة بين ضحاياها.
واستبقاء حلب رهن التعريف البعثي للبلاد، رافقه في اليوم نفسه، استبقاء آخر يشترط على إدانة المجزرة وجود جثة محددة بين ضحاياها، فإعلام النظام كشف عن مقبرة جماعية في دوما بريف دمشق والتي كانت خاضعة لجيش الإسلام. المقبرة التي ضمت 70 جثة لم تأخذ اهتمام المعارضين بوصفها مقبرة نتجت عن مجزرة نفذها على الأرجح فصيل إسلامي معارض، هؤلاء ركزوا على شائعة وجود جثة الناشطة المغيبة رزان زيتونة بين ضحايا المقبرة. هكذا، طغت الشائعة على المجزرة، وطغت الجثة على الضحايا، ومع ساعات المساء كانت الشائعة قد دحضت، وبقيت المقبرة والمجزرة من دون إدانة وفعل تعاطف، في دلالة، على أن رفض المجزرة في الوعي المعارض بات مرتبطاً بهوية الضحية وليس بالجريمة بحد ذاتها، خصوصاً أن النظام هذه المرة مكتشف لا فاعل، ما يقلل من الحماسة للإدانة.

ليلاً، غرق الـ”فايسبوك” السوري بالرثاء بعد وقت قليل من رحيل الشاعر بندر عبد الحميد في دمشق. والأخير، على ما كتب محبوه، كان يحتوي كل الآراء، ويستقبل الجميع في منزله، وأجمعت الكتابات حوله بين المعارضين والموالين على الحزن عليه من دون لوم أو عتاب على موقف سياسي من هذا الطرف أو ذاك. والإجماع إن جهر بوحدة بين سوريين متخاصمين، أضمر في الوقت عينه، فهماً لزجاً للثقافة يجردها من وظائفها النقدية، تجاه النظام والمعارضة، ويحيلها جلسات سمر وكتابة شعر ومشاهدة أفلام على ما درجت العادة خلال عهد بشار، إذ كان المثقفون يقولون ما يريدونه لكن في منازلهم وليس في المجال العام، على ما كان يفعل الراحل عبد الحميد وزائرو منزله، وما الرثاء والإجماع عليه، سوى امتداد للعادة تلك، أي نفي الثقافة عبر سلوك أهلها.
هكذا في يوم واحد تدفقت وقائع عن سوريا القديمة التي لا تريد أن تتغير، مدنها حبيسة الفهم البعثي عن الوحدة حتى لو امتلكت هوى آخر، وفعل المجزرة فيها مشروط بهوية الضحايا والمنفذ، فيما الثقافة علاقات وجلسات سهر، بدل أن تكون فعلاً مرتبطاً بالسياسة. والأرجح، أن نتائج هذه الوقائع شديدة التداخل، فسوريا المركزية لا تهتم بالمجازر التي تحدث في جغرافيتها القسرية، وتحتاج إلى ثقافة لزجة تتجنب التعيين، وتشغل نفسها عن الشأن العام بمجالات الإبداع.