“رهنت سيارتي لأستلم جثة ابني ورجعت فيها عالبيت بسيارة تاكسي”.
يروي حسين البعريني (39 عاماً) بألم بالغ مأساته. وحسين ناطور مدرسة من بلدة فنيدق من عكار شمالا وهي واحدة من أفقر مناطق لبنان.
في منتصف شهر تشرين أول/ أكتوبر الماضي عانت زوجته من مضاعفات ولادة متعسّرة، فلجأ إلى مستشفى الحبتور في المنطقة.
حالة الرضيع استدعت بقاءه في المستشفى لمدة 24 يوماً إلى أن توفي فيها. لم تكف مأساة الوفاة ليجد حسين نفسه أمام مطالبات بتسديد مبلغ 2400 دولار أميركي مقابل جثمان رضيعه.
لم يكن يملك سوى 400 دولار فقط، ما اضطره إلى رهن سيارته في المستشفى، وغادر المستشفى سيراً يحمل جثة رضيعه ليعود حاملا الجثة بسيارة أجرة.
يتحدث حسين لـ”درج” قائلاً: “لم اكن املك سوى 400 دولار فأحضرت المسؤولة طبيباً من المستشفى وطلبت منه ان يثمّن سيارتي وهي في الحقيقة لابن اختي وقد أعارني اياها لاحضار الجثة فقال لها الطبيب أنها تساوي بين ال1500 وال2000 فأخذوا مني مفاتيحها وال 400 دولار وأعطوني إذن الخروج وسلموني الجثة، وحين سألتها عن كيفية نقل الجثة من المستشفى الى فنيدق قالت لي “دبّر راسك”، فحملت جثمان طفلي وسرت به مشيا على الأقدام حتى الطريق العام وأوقفت سيارة أجرة أقلتني نحو القرية، نحن أشخاص بسطاء نعيش كل يوم بيومه “.
المأساة التي عاشها حسين البعريني ليست فردية، فمع انهيار القطاع الاستشفائي باتت الطبابة ترفاً لمن يتمكن من الدفع.
سألنا مدير المستشفى الدكتور ربيع الصمد عن الحادثة، فأجاب ان مسؤولة الصندوق “تصرفت من رأسها ولم تراجع الإدارة قبل اتخاذ هذا القرار ولم أعلم بالقصة إلا عبر وسائل التواصل الإجتماعي، اتصلت بالسيد حسين وعزيته وقلت له أن يأتي ليستلم مفاتيح سيارته و ساعدته في الوصول إلى متبرعين لكي يسددوا ثمن المستشفى فنحن مستشفى خاص في منطقة نائية وأجور العاملين هنا تصرف من فواتير المرضى، نحاول أن نخفف قليلا من عبء الأزمة على المرضى فقضاء 24 يوماً في أي مستشفى أخرى يكلف أضعاف ما طلبناه من السيد البعريني”.
يتّخذ انهيار القطاع الصحي أوجهاً مختلفة من فقدان الأدوية الأساسية الى ارتفاع الفاتورة الاستشفائية وصولاً إلى وضع المؤسسات الصحية وسوء تلك الخدمات في القطاع العام.
لا شك في أن تأزم وضع الاقتصاد العالمي وما نجم عنه من تضخم فاقم من الأزمة الكارثية في لبنان وضاعف من اضطرابات الوضع الصحي، الذي يعاني من هجرة جماعية هائلة للعاملين فيه مع قيود مفروضة على استيراد الادوية والمعدات الطبية.
والأرقام تتحدث عن رزوح نحو 80% من سكان لبنان تحت خط الفقر ما يعني مزيداً من التعثر في الوصول إلى المرافق الصحية.
في لبنان هناك الآلاف من أشباه حسين البعريني يقفون يوميا أمام أمراضهم وآلامهم عاجزين عن معالجتها، فالأزمة أيضاً طالت من يغطيهم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وشركات التأمين وباتت المستشفيات حكومية كانت أو خاصة لمن يملكون العملة الصعبة فقط.
يبدو أن زمن شعار”الصحة حق للجميع” قد ولّى وبات على الفقراء في هذه البلاد أن يموتوا بصمت دون التفكير في العلاج الذي أصبحت تكلفته تفوق رواتب اللبنانيين بحيث بات خبر وفاة أحدهم على باب المستشفى أمرا عاديا في بلد صارت قصص الموت فيه تمر مرور الكرام.
وانهيار القطاع الصحي اللبناني يترافق مع أزمة بيئية حادة من انتشار للنفايات ومزروعات تروى بمياه ملوثة وتسرب مياه آسنة الى مياه الشرب فضلاً عن تراجع نسب تلقي القاحات… كل هذا أدى الى عودة أوبئة كانت اختفت من الخريطة الصحية في لبنان.
المتضرر الأول هو المريض في لبنان الذي عليه دفع فاتورة الاستشفاء الباهظة في ظل غياب المؤسسات الضامنة. بحسب منظمة الصحة العالمية فإن نحو 75% من اللبنانيين غير قادرين على دفع فاتورة الاستشفاء، وهي الفاتورة نفسها التي عجز عن دفعها حسين البعريني، ليتمكن من دفن جثة ابنه.
إقرأوا أيضاً: