fbpx

أساتذتنا السوريّون…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في المناخ التحريضيّ ضدّ السوريّين، المنتشر راهناً في لبنان، يعمل التذكّر الصناعيّ بالتعاون مع النسيان الصناعيّ بغية إنجاز الهدف نفسه. والنسيان المصنوع يشمل أعداداً لا تُحصى من سوريّين عمّروا بأيديهم لبنان وقطفوا غلال مواسمه الزراعيّة وأنعشوا قطاعه السياحيّ والخدميّ والثقافي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في المناخ التحريضيّ ضدّ السوريّين، المنتشر راهناً في لبنان، يعمل التذكّر الصناعيّ بالتعاون مع النسيان الصناعيّ بغية إنجاز الهدف نفسه.

أمّا التذكّر المقصود فهو الذي نسمعه من بعض مَن التحقوا بسلطة الوصاية الأسديّة قبل 2005 على شكل استرجاع مكروه لعهد الوصاية ذاك. هؤلاء يستعيدون الماضي، الذي لم يعيشوه، على شكل تأوّهٍ ومعاناة مفتعلَين يردّون أسبابهما لـ “السوريّين” من غير تمييز (وهم لا يكتمون إعجابهم بالعبقريّة الاستراتيجيّة لحافظ الأسد).

وأمّا النسيان المصنوع فهو الذي يشمل أعداداً لا تُحصى من سوريّين عمّروا بأيديهم لبنان وقطفوا غلال مواسمه الزراعيّة كما أنعشوا قطاعه السياحيّ والخدميّ. هؤلاء كان معظمهم هنا قبل وقت طويل على النزوح الكثيف الذي تسبّب به بشّار الأسد وبعض حلفائه اللبنانيّين. وإلى هؤلاء تنضمّ المساهمات التي قدّمتها شرائح متعدّدة ومتفاوتة من السوريّين، تمتدّ من أصحاب الرساميل المودعين في المصارف اللبنانيّة، إلى المدرّسين الذين عجّت بهم، منذ الستّينات، المدارس الخاصّة في طول لبنان وعرضه.

“عاش في لبنان، مُدداً متفاوتة، أربعة من الأساتذة الكبار الذين كانت لهم بصمات واضحة على أجيال من مثقّفي لبنان. إنّهم ياسين الحافظ وصادق جلال العظم والياس مرقص وجورج طرابيشي”.

لكنّ النسيان المصنوع يشمل أيضاً بعض المثقّفين البارزين الذين تتلمذ عليهم لبنانيّون كثيرون بعضهم صار في عداد النخبة الثقافيّة أو السياسيّة.

ففي بيروت عاش واحد من شعراء العربيّة الكلاسيكيّين هو عمر أبو ريشة، والشاعر الذي ارتبط باسمه الغزل الشعريّ العربيّ، نزار قبّاني. وبغضّ النظر عن كلّ رأي بآراء أدونيس السياسيّة، يستحيل رصد تاريخ الشعر في لبنان بمعزل عن انتقاله إليه في أواخر الخمسينات. وكان لسوريّين آخرين، كسامي وإنعام وعاصم الجنديّ ومطاع صفدي وخالدة سعيد ومحمّد الماغوط وغادة السمّان وياسين رفاعيّة وأمل جرّاح وسعد الله ونّوس وحليم بركات وسليم بركات وسواهم، أن تركوا تأثيرات ملحوظة كلٌّ في مجاله. ولا يحول نقد هذا أو ذاك منهم دون الإقرار بأنّ هؤلاء لعبوا دوراً بارزاً جدّاً في تحويل بيروت الثقافيّة إلى ما صارته بين الخمسينات والسبعينات، النجمة الأكبر على خريطة الثقافة العربيّة.

لقد عاش في لبنان، مُدداً متفاوتة، أربعة من الأساتذة الكبار الذين كانت لهم بصمات واضحة على أجيال من مثقّفي لبنان، لا سيّما منهم المعنيّين بالسياسة والفكر السياسيّ. ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنّ هؤلاء الأربعة كسروا الضيق والأبرشيّة اللبنانيّين اللذين اتّسم بهما الفكر السياسيّ المُنتَج في هذا البلد وربطوه باهتمامات عربيّة ونظريّة أوسع. ومع حفظ كلّ الفوارق بين الأفراد كما بين البلدان، نجدنا هنا، من حيث طبيعة الدور، حيال نفس الوظيفة التي أدّاها المثّقفون الألمان الذين فرّوا من النازيّة إلى الولايات المتّحدة، فوسّعوا نطاق الإنتاج الأميركيّ ووصلوه بامتدادات قارّيّة أوروبيّة.

إنّهم ياسين الحافظ وصادق جلال العظم والياس مرقص وجورج طرابيشي. أوّلهم، المؤكِّد دوماً على الديمقراطيّة وحقوق الأقلّيّات، كتب عن بيروت بعض أفضل وألمع ما كُتب عنها وعن دورها. وثانيهم، المدافع الصلب عن العقلانيّة، خاض في بيروت إحدى أشرس المعارك التي عرفتها، وعرفتها معها الثقافة العربيّة الحديثة، ضدّ الفكر الدينيّ والغيبيّ بتنويعاته. وثالثهم كان أكثر من تصدّى لأفكار متخشّبة وتأويلات ضيّقة الأفق ما لبثت أن تسلّحت ودكّت بيروت. أمّا رابعهم فرأس تحرير مجلّة “دراسات عربيّة” التي يصعب تأريخ الفكر السياسيّ العربيّ في الستينات والسبعينات من دون العودة إليها. ومع طرابيشي خصوصاً، ولكن أيضاً مع مرقص والحافظ، قرأتْ أعدادٌ من اللبنانيّين الكتب التي ترجمت لهم بعض أبرز نتاجات الفكر الغربيّ في الفلسفة وعلم النفس والماركسيّة والوجوديّة والنسويّة وسواها.

وهذه ديون من العيب أن تُنسى، ومن العيب أكثر أن يتمّ “تذكّرها” بالمقلوب.