كنت مبتهجةً جداً، أرقص من كل قلبي محاولةً تعويض 16 عاماً من انتظار الفرح الجماعي الكرنفاليّ، رقصنا حدّ الجنون، لكن فجأة، بدا لحن الأغنية التي كنا نرقص على موسيقاها مألوفاً، أدركت أن هذا اللحن ليس غريباً، “يمه يماه يمه، شديت الراية على زنودي”، حتى الكلمات سمعتها سابقاً. لحظة. أليست هذه اقتباساً من أغنية حربية ذات عنوان مُشابه؟.
كانت الأغنية الرياضية التي حفّزت على حب البلاد والانتصار خلال بطولة “خليجي 25″، نسخةً من أغنية أذيعت أثناء الحرب العراقية – الأيرانية، للمطرب فاضل عواد، الأغنية مليئة بالمدافع والتشجيع على الموت من أجل الوطن.
توقّفت عن الرقص، انتابني شعور سيئ، وانقبض قلبي، واسترجعت – من دون رغبة – ذكريات وأحاديث سمعتها من عائلتي وأقاربي عن الحرب العراقية – الإيرانية، لم تكن تلك الأغنيات الحماسية مجرد أهازيج تحث الجنود على حرق أرواحهم من أجل الوطن، بل أدوات حفرت وأسّست لعهد موسيقي دموي جديد في العراق.
الأغنية – الرسالة
ارتدى عمي ثيابه العسكرية وهرع إلى الخارج، سألناه بصوت عال عما يفعله، فالحياة آمنة والحرب الأطول انتهت تواً، نظر إلينا وكأننا أغبياء، ثم أشار الى التلفاز حيث تُبث أغنية “إحنا مشينا للحرب”، وقال:”ألا تنظروا؟ الوطن ينادينا !”. كانت الأغنية بمثابة رسالة موجّهة إليه والى جميع الجنود، فهل ثمة مناسبة لبث أغنية حرب؟ أساساً، هل هناك مناسبة لإشعال حرب؟ ذهب عمي ولم يعد.
تدلل صديقتي انتظارها لعمي بعدّ الأغنيات التي صدرت قبل عام 2003 وبعده، لتشدّ على يد من هم على الجبهات، وتسأل “كم رجل كعمي سيُفقَد بعد كل أغنية؟”.
ما يؤلم هو أن النشيد الوطني العراقيّ لا يُثير الحماسة كما تفعل الأغنيات المغطاة بالدم، تلك التي يُنشدها مُطربون كانوا يُلمّعون سيرهم الذاتية برداء صدام حسين والبعث على حساب الجنود، الذين يتسابقون الى ارتداء “الزيتوني” من دون أن يعلموا المصير الذي ينتظرهم.
توقّفت عن الرقص، انتابني شعور سيئ، وانقبض قلبي، واسترجعت – من دون رغبة – ذكريات وأحاديث سمعتها من عائلتي وأقاربي عن الحرب العراقية – الإيرانية
الدم في الجبهات والغناء
رافقت أغنيات الحرب الجبهات العراقية، ولا أقولها كنوع من الذم، فأنا كما غيري، تعايشنا مع هذا الوضع، أي أن تكون للعنف حصة من حياتنا، فحتى الفن والموسيقى، تصاحبهما أصوات المدافع والدبابات ووجوه الجنود المرهقة، ولعلها – أقصد الأغنيات – تقدم نوعاً من الدعم للجندي حينما يفتقده.
يُخبرني والدي أن أغنية “يا گاع ترابچ كافوري” كانت بمثابة خطاب عن تراب الوطن، إذ نتذكر ثمن الوطن الغالي وندافع بأجسادنا عنه وسط جثث الزملاء، فيما ينام صدام حسين تحت غطاء من الحرير.
يقول إن هذه الأغنيات لا تعني له شيئاً، كان يضحك عليها أحياناً، وكانت تغضبه وتستفزه وتثيره أحياناً أخرى. يخبرني أنه بعد مقتل رفيق له، ضرب بقدمه الراديو الذي كان لا يبث سوى تلك الأغنيات، وكسره.
حزن الجنود مما فعله، إذ كان الراديو تسليتهم الوحيدة، لكن صوت القصف الإيراني كان أقوى من “يا گاع ترابچ كافوري بالساحة يهلهل شاجوري“. يخبرنا والدي هذه الحكاية بينما تعتلي وجهه أمارات القرف حين يذكر تلك الأغنيات.
لم يكن العراقيون وحدهم ضحايا صدام، بل الغناء والفن أيضاً، إذ أسست الحرب العراقية – الإيرانيّة منذ عام 1980، لحقبة فنية جديدة تصح فيها تسمية”أغنية المعركة”.
وضع صدام حسين الفن في خدمة البعث وحده، فتراجعت الأغنيات العاطفية أمام أغنيات المعركة، التي أصبحت ذات شهرة لا يمكن إنكارها، فحتى نحن الذين ولدنا بعد الحرب بسنوات، نحفظ تلك الأغنيات، إذ امتدت إلى الحروب اللاحقة، يُقتل الجنود، وتموت خلفهم أمهاتهم، وتدمّر المدن، بينما تبقى الأغنية لحرب جديدة مقبلة. تقول لي إحدى زميلاتي في العمل، إنها كانت تبكي كلما سمعت أغنية “دايمين، دايم وطننا بيكم”، إذ تشير الى أن كلمات هذه الأغنية خبيثة، صحيح أن الوطن يدوم بدماء الآخرين، لكن حين تكون هذه الدماء لأخيها وخالها وعمها، فالأمر مختلف، والمعاني تصبح أشد قسوةً.
تضيف: “كلما سمعت هذه الأغنية تحديداً، أحمّل المغني مسؤولية مقتل رجال عائلتي”، أخبرها أن ذلك ليس صحيحاً، فقد حصّن نفسه من “فداء الوطن” عبر أغنية ستبقى تدقّ في قلوبنا إلى الأبد، أغنية تذكّرنا بمن فقدناهم من دون رحمة.
الجبهة في كل مكان
كان هذا الشحن العاطفي المراوغ والتحريضي، أكثر سمّية من الجبهة نفسها، فقد تكون في مدينتك التي لا يصلها صوت المدفع وهو ينطلق، ربما لا تعلم حقيقة ما يجري، لكن الأغنية تشعرك بذلك، “تقول” لك إن الجنود قد خُلقوا للموت، وإن الحياة المثالية الوردية بانتظارك، السبب، أن الأغنيات كانت تُبث مع مشاهد حية وحقيقية من المعارك، إذ عمد صدام الى تحويل التلفاز إلى جبهة عاطفية. يقول الفنان حسين نعمة في إحدى حواراته، إن أغنيات السبعينات العراقية كانت في أوجها، لكن بدل أن يستمر بريقها، انطفأت في الثمانينات بسبب انسلاخ الفن عن حقيقته وميله الى الموت.
كان المطربون العراقيون يودعون أغنياتهم في هيئة الإذاعة والتلفزيون، ثم ينسونها، إذ لم تكن تُعرض إلا عند انتهاء إحدى المعارك المهمة على سبيل المثال، أو استتباب الأمن على الجبهات قليلاً، فقد كانت مهمة التلفاز عرض الأغنيات الحربية فقط، التي تحمل رسالة مفادها أن الحرب أمر طبيعيّ وواجب الحدوث.
إقرأوا أيضاً:
أغنية المعركة الحديثة
بعد عام 2003، ظهرت عشرات الأغنيات الوطنية التي تدعو الى نبذ القتل والطائفية، مثل أغنيات”حسام الرسام”، التي تقول كلمات إحداها “لا تزرع قنبلة بالشارع، ازرع وردة”، وكنت أتوق لسماعها كلما دوّى صوت انفجار، وكلما داهمتنا القوات الأميركية واحتدمت الاشتباكات مع العناصر المسيطرة على منطقتنا.
جعلتنا الأغنيات الوطنية الجديدة نذرف الدموع، وأشعرتنا بأننا نحب هذه البلاد بطريقة لا نعرفها، وفيما قامت الأحزاب السياسية الجديدة بشراء بعض الفنانين، حاول فنانون آخرون إعادة الفن العراقي الى الحياة من دون تسييس، وإنتاج أناشيد وطنية “عادلة” وغير منحازة، صحيح هي أغنيات معارك، لكنها تتوسل الآخرين أن يوقفوا الرصاص.
“مو كالوا جديد الوطن راح يصير“، عنوان أغنية تدفعني الى الانهيار حين أسمعها، فكلماتها وألحانها الملحمية تتحدث عن فترة حرجة عشنا فيها الرعب والخوف من المجهول، لكنها كانت بمثابة دواء.
أشعر أن ثمة فنانين يمرّون بما نمر، ويعيشون كما نعيش، فكانوا المواساة التي نبحث عنها، بعيداً من الأخبار التي لا تتحدث سوى عن عدد ضحايا الانفجارات والقتل المذهبي، ولا أبالغ إن قلت إن هذه الأغنيات كانت مؤثرة للجميع، بل وساهمت في تهدئة النيران، وإيقافها ولو لفترات بسيطة.
صوت المدفع في العرس
تنتج كل مجموعة مُسلحة في العراق أغنياتها الخاصة، التي لا تختلف بكلماتها عن أغنيات الموت المحرّضة على الحروب، لكنها ليست مشاعة كلياً ،إذ لها “ناسها” وإن انتشرت وترددت في الأعراس. نعم أقولها بوضوح، الأغنيات الحماسية التي تحوي كلمات مثل “نعلگكم، نصلخكم، نسحلكم” تتردد في مناسباتنا ونرقص عليها من دون أن ننتبه. هذا كله كان جزءاً من استراتيجية التطبيع التي مورست على آبائنا منذ الثمانينات حتى أصبحت كلمات العنف جزءاً من فننا وثقافتنا وهويتنا الفنية. نستمع في حفلات الزفاف الى أغنيات أُنتجت خصيصاً ضد تنظيم “داعش”، هكذا بسهولة، لا نضع كل أغنية في خانتها ووقتها المناسب، اختلط كل شيء علينا، فلم نعد نفرّق بين أغنية رياضية وأغنية معركة!.
حرب “داعش”
أنتجت الحرب مع داعش أغنيات حماسيّة وقتاليّة، حلّت مكان تلك التي مُنعت كونها تُمجّد صدام حسين، لكن تكررت العبارات العسكريّة مرة أخرى. لا مجال للمقارنة هنا، ويمكن القول أن الأغنيات هذه، كانت شكلاً من أشكال الدعاية المضادة لبروباغاندا داعش التي سيطرت آنذاك على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام.
لم تُمجّد أغنيات الحرب مع داعش اسم القائد أو السياسيين، ولم ترفع شعارات البعث، إذ أصدر فنانون عراقيون كثر، بشكل عفويّ وعشوائي، أغنيات لم تتدخل في إنتاجها الحكومة العراقيّة ولم تضخ الأموال لأجلها، هذه الأغنيات التي أنتجت تطوعاً كانت معنيةً بالجيش العراقي وحده. يستثنى منها بعض الأغنيات المدعومة من وزارة الدفاع. لا يعني ذلك أن “حكام” العراق الحاليين لم يروجوا لأنفسهم ولو بأغنية أثناء الانتخابات، لكن جيوش المُعلقين الساخرة لم ترحم سياسياً أو تتركه يهنأ بفرحته الزائفة.
إقرأوا أيضاً: