افتتح إيمانويل ماكرون شهر آذار/ مارس بجولة أفريقية قادته إلى الغابون، أنغولا، الكونغو والكونغو الديمقراطية. الإعلام الفرنسي وضع هذه الجولة، التي استمرت 5 أيام، في سياق الجهود الرسمية للحد من تآكل نفوذ فرنسا داخل القارة السمراء. لا بل تم ربطها ربطاً مباشراً بعملية سحب القوات الفرنسية من بوركينا فاسو التي تجسد، حتى اللحظة، آخر فصول مسلسل تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا.
بناء على طلب الحكومة العسكرية في بوركينا فاسو، اضطر الجيش الفرنسي، في 19 شباط/ فبراير، إلى قواته العاملة في إطار قوة بارخان (مالي). هذه الخطوة- الصفعة، أتت بعد نحو 6 أشهر على سحب فرنسا قواتها المتمركزة في مالي استجابة لطلب المجلس العسكري الحاكم في البلاد. من جانب آخر، بادرت باريس في كانون الأول/ ديسمبر 2021 إلى سحب وحداتها العسكرية من أفريقيا الوسطى عقب تعليق تعاونها العسكري مع بانغي (عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى) متهمة السلطات هناك بـ”تغذية شعور معاد لفرنسا”. انسحابات تحاكي تساقط أحجار الدومينو، ما شرع أبواب السؤال عن البلد التالي: السنغال أم ساحل العاج؟
المستجدات العسكرية باتت، في الآونة الأخيرة، المثال الأوضح على تراجع النفوذ الفرنسي في القارة السمراء. لكن مؤشرات فقدان باريس “دورها الريادي” ظهرت قبل ذلك بسنوات وعلى وجه التحديد في تآكل حضورها الاقتصادي: وفقاً لتقرير مؤشر المجلس الفرنسي للمستثمرين في أفريقيا (CIAN) الصادر عام 2021، حلت فرنسا تاسعة في ترتيب الدول الأكثر استفادة من القارة الأفريقية.
برغم تضاعف حجم الصادرات الفرنسية إلى أفريقيا، خلال العقدين الأخيرين، من 13 مليار دولار إلى 28 ملياراً، إلا أن حصة فرنسا في السوق الأفريقية تراجعت من 12 إلى 7 في المئة، نظراً إلى تضاعف مجمل الصادرات إلى القارة الأفريقية أربع مرات خلال الفترة المذكورة لتبلغ 400 مليار دولار. بمعنى آخر نمو الصادرات الفرنسية كان بوتيرة أقل من نمو السوق الأفريقية.
وفقاً للباحث المتخصص في العلاقات الفرنسية – الأفريقية، فريدريك لوجال، باتت أفريقيا تمثل 2.4 في المئة من التجارة الخارجية الفرنسية، فيما كانت تلامس الـ 35 في المئة عشية استقلال بلدان هذه القارة عن فرنسا وسواها من الدول الاستعمارية.
تتعدد الأوجه الدالة على تراجع في النفوذ الفرنسي في أفريقيا، فالأفارقة حالهم حال مختلف البلدان، يحرصون على تنويع شركائهم الاقتصاديين، ما يدفعهم بطبيعة الحال إلى إرساء علاقات مع دول صناعية منتجة لمعدات وسلع بأسعار تنافسية. وعليه، باتت بكين المورد الأول للسلع لنحو 30 دولة أفريقية، فيما يعزو البعض الآخر السبب إلى تراجع الاهتمام الفرنسي بالسوق الأفريقية.
برغم تضاعف حجم الصادرات الفرنسية إلى أفريقيا، خلال العقدين الأخيرين، من 13 مليار دولار إلى 28 ملياراً، إلا أن حصة فرنسا في السوق الأفريقية تراجعت من 12 إلى 7 في المئة
أخطاء فرنسية غير مغفورة
سياسياً، ارتكبت باريس خطأً حين أضحى التدخل العسكري سبيلاً وحيداً للحفاظ على نفوذها في أفريقيا: منذ نهاية الحقبة الاستعمارية، شنت فرنسا نحو 70 عملية عسكرية في أفريقيا بأهداف مختلفة (ضبط الاستقرار، دعم/ إسقاط أنظمة). مسألة أكدها بعض سفراء فرنسا في أفريقيا، معبرين، في تصريحات إعلامية، عن استيائهم من “الإفراط في التركيز على الملفات الأمنية- العسكرية” ما أدى إلى “تسميم هذه العلاقات”. من الطبيعي إذاً أن يتساءل الرأي العام الأفريقي عن جدوى التواجد العسكري الفرنسي، في ظل تدهور الأوضاع الأمنية، ليتحول بذلك الانسحاب العسكري إلى مرادف لتراجع نفوذ باريس عامة.
كما أن فرنسا لم تفلح في محو ماضيها الاستعماري وظلت العلاقات الفرنسية- الأفريقية عالقة في تلك الزاوية. يتمسك عدد من المحللين السياسيين والصحافيين الفرنسيين بفكرة أن العداء لفرنسا مفتعل من جانب السلطات الرسمية الأفريقية للتستر على فشلها السياسي والاقتصادي ولما تشكله هذه النقطة من إجماع شعبي. بالمقابل، يرى الباحث المتخصص في العلاقات الدولية، برتران بادي، أن “الفشل الفرنسي في أفريقيا” مرده “رفض باريس استيعاب المعنى الحقيقي لنهاية الاستعمار”. ظل الفرنسيون يتمتعون بنفوذ واسع في أفريقيا الفرنكوفونية والمثال الأبرز هي منطقة الفرنك الأفريقي: نظام نقدي يعود للحقبة الاستعمارية ترتبط بموجبه 14 دولة أفريقية بالنظام المصرفي الفرنسي، من خلال اعتماد عملة موحدة مرتبطة بالعملة الفرنسية. وتسعى الدول المعنية إلى فك ارتباط عملتها باليورو، لوضع حد لتلك التبعية المفروضة عليها.
نبذ فرنسا ترافق مع نمو فكرة الوحدة الأفريقية: حركة أيديولوجية تسوّق للتاريخ والمصير المشترك بين جميع الدول والشعوب الأفريقية وتدفع باتجاه تعزيز العلاقات والروابط بينها كي تتحكم بمستقبلها، ليزداد بذلك الشقاق مع باريس. خلال زيارته السنغال، عام 2007 قال الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في أحد خطاباته: “مأساة أفريقيا أن الرجل الأفريقي لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية”. وعلى هامش اجتماع مجموعة الدول العشرين عام 2017، اختزل الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون مشكلات أفريقيا بالخصوبة المرتفعة واصفاً إياها “بالتحدي الحضاري”. وهي تصريحات دلت على فوقية “الرجل الأبيض”.
وتضاعف الشعور بالتهميش بعد تحكم الدول الغربية بمصير القارة الأفريقية من دون الرجوع إلى أصحاب الأرض: إسقاط نظام معمر القذافي عام 2011، لم يلق استحسان دول أفريقية، التي تعتبر أنه لم يؤخذ بتحذيراتها. لا بل يشير عدد منهم إلى تلك العملية العسكرية، التي تزعمتها فرنسا، كأحد العوامل المساهمة في تفشي الإرهاب داخل القارة، ما ضاعف الكراهية ضد باريس.
يعتبر فريدريك لوجال أن السياسات الفرنسية عجزت عن استيعاب التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية ما يفسر جانباً من عدائية الأفارقة تجاه فرنسا. فالأجيال الشابة الأفريقية تقارب بسلبية دعم باريس الأنظمة الديكتاتورية، بخاصة في الغابون وتشاد وتوغو التي شهدت توريثاً للسلطة، بمباركة فرنسية.
قوى جديدة تقتحم المشهد الأفريقي
على الضفة المقابلة، الخطابات الرسمية الفرنسية المنادية بالتحول الديمقراطي تثير ريبة الأنظمة الأفريقية ومعارضيها على حد سواء: فالمعارضون يقاربونها من زاوية ازدواجية المعايير، مشككين بصدق النيات الفرنسية التي لا تبحث إلا عن مصالحها. من جانبها، باتت السلطات الحاكمة، لا سيما العسكرية منها، أكثر حذراً في علاقتها مع باريس خشية أن تنقلب عليهم يوماً ما.
هذه الأسباب مجتمعةً سهلت اقتحام قوى أخرى للمشهد الأفريقي، كالصين وروسيا وتركيا. دول تعلن احترامها “خصوصية الآخرين” وتنتهج دبلوماسية قوامها رفض التدخل في الشؤون الداخلية إلى جانب نبذها للنفوذ الغربي.
لعل النفوذ الروسي المستجد في القارة الأفريقية هو الأكثر إثارة للقلق بنظر باريس. ليس لهيمنة الحرب الأوكرانية على المشهد الدولي فحسب إنما لاعتماده على الجانب العسكري: مثلما بات انسحاب القوات الفرنسية عنوانا لانحسار قبضة باريس، من الطبيعي أن يتحول النشاط العسكري الروسي إلى مرادف لتعاظم النفوذ.
مستندة على إرث الاتحاد السوفياتي الداعم لحركات التحرر الوطني، أبرمت موسكو منذ عام 2017 نحو 30 اتفاقية أمنية مع دول أفريقية، كما باتت المورد الأول للسلاح مستحوذة بمفردها على 44 في المئة من السوق الأفريقية، من دون نسيان تمدد مرتزقة فاغنر الذي يأخذ أحياناً شكل “ملء الفراغ”، بعدما حط بهم الرحال في مالي مطلع عام 2022.
لمواكبة هذا التغلغل العسكري وزحزحة فرنسا عن “عرشها الافريقي” لم يوفر الكرملين أذرعه الإعلامية. وزارة الجيوش الفرنسية أشارت، نهاية العام الماضي، إلى انتشار الأخبار المضللة في القارة الأفريقية والتي ترافقت مع ارتفاع ملحوظ في نسبة مشاهدي محطة RT الناطقة بالفرنسية كما متابعي وكالة Sputnik. كباش إعلامي تجلى في نيسان/ أبريل 2022 حين عثر الجيش المالي على مقبرة جماعية قرب قاعدة قام الفرنسيون بإخلائها، ليتهم الجيش الفرنسي مرتزقة فاغنر بالتلاعب بالحقائق، ناشراً صوراً جوية تظهر عناصر روس يدفنون جثثاً قرب القاعدة لاتهام الفرنسيين بترك مقبرة جماعية وراءهم.
مشهدية الدور الروسي المتزايد لا تطغى على التغلغل الاقتصادي الصيني: على قاعدة المعاناة المشتركة في الماضي والتصدي للنيوكونيالية الغربية، انتهجت الصين ما يوصف باستراتيجية “القوة الناعمة”.
لم تكتفِ الصين بالتزود بالطاقة والمواد الأولية الخام، ولا حتى جعل سلعها بمتناول الأفارقة ذوي القدرة الشرائية الضعيفة، بل استثمرت على نطاق واسع في تطوير البنى التحتية الأفريقية من خلال توفير قروض قدرت بـ125 مليار دولار بين عامي 2000 و2016. قروض حولت مباشرة إلى شركات صينية تولت مهمة التنفيذ ليحصل بذلك الأفارقة على الطرق والمستشفيات والموانئ والمطارات والمدارس ومحطات توليد الطاقة، بالتوازي مع ضمان عدم استيلاء الفاسدين على تلك الأموال، ما عزز سمعة بكين الإيجابية في الشارع الأفريقي.
إقرأوا أيضاً:
2017: إيمانويل ماكرون
أدرك ايمانويل ماكرون، منذ انتخابه رئيساً عام 2017، الحاجة إلى مقاربة مغايرة في علاقة بلاده مع القارة الأفريقية، ففيما تنشغل فرنسا بلعب دور “الشرطي”، يتفرغ منافسوها لتعزيز مصالحهم الاقتصادية.
لبلوغ غايته، لا بد من محو صورة فرنسا السلبية وإعطاء الأولوية للشارع الأفريقي وليس للأنظمة. خلال زيارته بوركينا فاسو عام 2017، ألقى ماكرون خطاباً وُصِفَ بالمؤسس أعلن فيه طي صفحة “سياسة فرنسا الأفريقية” أو ما يعرف بـFrancafrique، سياسة تصنف في خانة النيوكولونيالية، بعدما أرست فرنسا علاقات اقتصادية ونقدية ودبلوماسية وعسكرية على نحو يضمن استمرار دوران مستعمراتها السابقة في فلكها. بعدها بأربع سنوات، انعقدت القمة الأفرو – فرنسية، ليقرر الرئيس الفرنسي دعوة ممثلين عن المجتمع المدني الأفريقي ليتحاور معهم عوضاً عن نظرائه.
جولة ماكرون الأخيرة اعتبرت امتداداً لهذه الاستراتيجية: مهد الرئيس الفرنسي لجولته عبر خطاب ألقاه في 27 شباط/ فبراير نادى خلاله بعلاقة جديدة مع أفريقيا قائمة على التوازن والندية والمسؤولية. كما أعلن خفض الحضور العسكري في القارة السمراء والتوقف عن التعامل معها كـ”منطقة نفوذ فرنسي”. ابتعد ماكرون، خلال جولته، من القضايا الخلافية، مركزاً على الملفات التوافقية كالمناخ والتعاون الزراعي إلى جانب المسائل الثقافية والذاكرة التاريخية. المحطة الأبرز في جولته كانت مشاركته في قمة حماية الغابات المدارية انعقدت في الغابون.
من جانب آخر، يدفع الرئيس الفرنسي نحو تصدر الاتحاد الأوروبي مجتمعاً المشهد الأفريقي. خلال تولي بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي مطلع عام 2022، طرح ماكرون اتفاقاً جديداً على الأفارقة إنما برعاية أوروبية هذه المرة، أي بموارد تفوق ما بحوزة فرنسا. اقتراح يشير إلى عجز فرنسا عن الحفاظ بمفردها على نفوذها المتآكل وحاجتها لحلفاء تتقاسم معهم الأعباء: وفقاً لتقديرات فرنسية، تحتاج القارة الأفريقية ما يقارب الـ300 مليار يورو بين عامي 2022 و2025 لتطوير اقتصاداتها.
الاهتمام الذي تبديه هذه الدول بالقارة الأفريقية خير دليل على تضاعف أهميتها، ليس فقط لثرواتها الطبيعية بل أيضاً لثقلها الديمغرافي: يتوقع أن يشكل الأفارقة، عام 2050، ربع سكان الأرض لتتحول هذه القارة أحد أهم الأسواق الاستهلاكية. من زاوية العلاقات الدولية، للقوى العظمى مصلحة في بسط نفوذها داخل أفريقيا، لا سيما حين يتعلق الأمر بالتصويت في المحافل الدولية: بين الرفض والامتناع عن التصويت، أبت دول أفريقية تأييد القرارات الأممية المنددة بالغزو الروسي لأوكرانيا والداعية إلى انسحاب القوات الروسية فوراً.
شركاء جدد
مطلع العام الفائت، أصبحت إيطاليا الشريك التجاري الأول لتونس، متخطية فرنسا للمرة الأولى منذ استقلال هذا البلد. كما باتت الصين المورد الأول للجزائر منذ عام 2020 بحصة تبلغ 17 في المئة، لتتراجع فرنسا إلى المركز الثاني بحصة 11 في المئة. كذلك الأمر في المغرب بعدما أصبحت إسبانيا المورد الأول للرباط بحصة 15.6 في المئة، مقابل 12.2 في المئة لفرنسا، فيما لا تخفي موريتانيا تفضيلها الشراكة التجارية مع إسبانيا على حساب فرنسا.
أسباب هذا التراجع شبيهة بما سبق ذكره آنفاً: سعي الدول إلى تنويع اقتصاداتها وشركائها، كما دخول دول جديدة على خط المنافسة مع باريس، من دون نسيان تاريخ فرنسا الاستعماري في هذه المنطقة، والذي ما زال يؤرق العلاقات الثنائية، لا سيما بين باريس والجزائر.