fbpx

أنا بعين من أحبّ… صراع أن تحيا حراً مُحباً دون ملل 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إذا كان المحبوب مقيداً كالجماد، فلن يبهر حبيبه أو يظهر منه جديداً يدهشه، وبالتالي فإن استمرار الحب وتجدد لهيبه لن يتم إلا بتحرير الحبيبين، وفي الوقت ذاته سعيهما إلى امتلاك بعضهما.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يُقال إن الحُب قطيعة مع الحاضر، لكن الكارثة التي شهدتها المنطقة وكم المآسي منعانا من إدراك ما يحصل، فالحاضر ليس متماسكاً، والماضي مهدد بالتلاشي، الأرض تميل من تحتنا، حتى إن يوم 14 شباط/ فبراير (عيد الحب) مرّ هكذا من دون أثر، فمن “يُحب” بينما الأرض تتشقّق؟

نكتب عن الحبّ لأن لا ملكية عليه سوى صاحبه، لا بنك، ولا حزب، ولا ميليشيا ولا كارثة قادرة على أن تصادره، ولا حتى الوباء منع القبل، ولا هجرة تمنع شبق الحبيب على الشاشة، أو في المخيلة.

أطلقت المغنية المغربيّة- المصريّة سميرة سعيد عام 2004 أغنيه “قويني بيك”، التي كتبها أمير طعيمة، والتي تعبر عن أنثى ضعيفة، تستمد قوتها من حبيبها، ولذلك تريد أن تمتلكه، فتحبِسه داخل عينيها وتحجبه عن العالم، إذ تغنيّ: “قويني بيك /عايزة جوة عيني أداريك/ عايزة أعيش لك وأموت فيك/ عمري إيه لو مش وياك”

هذا الموقف المنصاع كلياً للحبيب بوصفه مصدر القوّة و”الحياة”، يفترض أن حريّة المرأة ثمن بخس أمام “حبّ الرجل” وما يقدمه من قوة، هذا الموقف يعكس توتر المجتمعات التي تعيش حالة انتقالية بين القديم المحافظ والحديث المُتحرر، فدعاة التحرير الكامل للمرأة دائماً في صراع مع المحافظين الداعين إلى التمسك بالتقاليد، ما يجعل المرأة، بل والرجل، في تشتت بين الخيارين، وهنا، بسبب التوتر بين هذين النموذجين قد تضيع لذة الحب، وتدهس تحت أقدام طلب الحرية، أو العكس.

بصورة أخرى نحن أمام نموذجين متصارعين، الأول يرى في المرأة كياناً مستقلاً كلياً، له حرية التصرف بجسده غير ملزم بما يُسمى “الواجبات الطبيعيّة” أو “المنزليّة”، وآخر محافظ، يرى المرأة تابعاً، شريكاً له استحقاقات خاصة تختلف عن تلك الخاصة بالرجل.

يشير الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إلى الصراع بين “الحبّ” و”الحريّة”، إذ يرى أن الحب يخلق طواعيةً انصياعاً للحبيب، الذي قد تتعارض رغباته مع رغبات حبيبه، معتبراً أن حبيبين يستويان في الإحساس بذاتَيهما وفي تطلُعهما إلى الحرية، يملكان في الوقت نفسه أدوات تدمير حبهما؛ فنزعةُ الامتلاك التي تطبع الحب، لن تسمح بتمدد الحرية التي تمكن الحبيب من تحقيق كامل الإحساس بذاته، إلا في حدود ما يسمح به حبيبه، وإلا أخذ الحب في التآكل، وربما الفناء. 

هنا نسأل، هل من توازن ممكن بين “الحبّ” و”الحريّة”؟، بصورة أخرى، هل يمكن أن نُحِبْ/ نُحَبْ من دون أن نفقد ذواتنا؟

نكتب عن الحبّ لأن لا ملكية عليه سوى صاحبه، لا بنك، ولا حزب، ولا ميليشيا ولا كارثة قادرة على أن تصادره، ولا حتى الوباء منع القبل، ولا هجرة تمنع شبق الحبيب على الشاشة، أو في المخيلة.

القوة والجمال: جاذبيّة الاختلاف

تقول الفرضية العلميّة إن القطبين المتماثلين يتنافران، والمختلفين يتجاذبان، ويسحب البعض هذه الفرضيّة على العلاقات العاطفيّة، فالحبيبان مرآة لبعضهما، يرى كل منهما صورته في الآخر، ويشعر بنفسه من خلاله، وليس معنى ذلك أنهما لا بد أن يكونا نسخة من بعضهما، لأن صورة الشيء التي تظهر في المرآة ليست أصله، وبالتالي لا بدّ من اختلاف.

تولد الألفة بين الرجل والمرأة ضمن المنطق السابق، بناء على الفتنة والدهشة، لا بسبب التشابه، بل الاختلافات أيضاً، إذ يكتشف كل من طرفي الحبّ ما يفتقده في نفسه. يشير المفكر اللبناني علي حرب في كتابه “الحب والفناء: تأملات في المرأة والعشق والوجود” إلى هذه المفارقة، مفترضاً.أن الاختلافات بين الطرفين قد تكون عاملاً من عوامل تجديد شغف الحب وتغذيته.

هذا الاختلاف الواجب لإشعال لهيب الحب، ينتهي إذا ما قُيِّدت حرية أحد طرفي العلاقة، بمعنى آخر، سعيه للاستقلال بذاته وكيانه، وسيصبح الطرف الضعيف مجرد انعكاس للطرف القوي، ما يدلل الملل ويدفع الحبّ بعيداً. وأحياناً إن زادت نقاط الاختلاف، فلا بد من صدام.

يفترض زكريا ابراهيم في كتابه “مشكلة الحب”، أن نعومة المرأة وجمالها، بحاجة إلى أن تكتمل بقوة الرجل، والحياة لا يمكن أن تكون كلها حرباً؛ فالمُغامر الجريء لا بد أن يعود ويشتاق إلى المخلوق الذي يستمتع معه بأيام السلم العذبة، وهكذا ترتد القوة إلى الجمال لتحيا معه تحت سقف واحد.

فرضية الجمال والقوة ليست دائماً مطلقة، كما يرى إبراهيم؛ فللجمال قوته، وللقوة جمالها، وبالتالي فإن الجمال والقوة كامنان في كلا الطرفين، حتى ولو بدا أن أحدهما تَغلَّبت عليه صفة عن الأخرى، لكنها تفترض في الوقت ذاته أدواراً ثابتة، بل ويمكن القول ذكوريّة، أي أن الجمال والفتنة والاستكانة حصة المرأة أنيسة زمن السلم، بينما القوة والمغامرة والبأس حصّة الرجل بوصفه صاحب الحرب، أي أن الحب قائم طالما أن كلّ واحد حرٌّ بالالتزام بدوره، فالاختلاف هنا جندري بالمعنى الحرفي، لا نفسي.

الامتداد والاشتداد:  فرضية “الزوجة 13”

هناك تفسير آخر للعلاقة بين الحب والحريّة نجده في طريق فرضية “الاشتداد” و”الامتداد”، التي تحدث عنها صادق جلال العظم، إذ يرى أن للحب مسارين، أحدهما هو “الامتداد في الزمن” أي دوام الحالة العاطفية واستمرارها عبر فترة معينة من الزمن، والثاني هو “الاشتداد” وهو المعبر عن التهاب العاطفة وعنفها وجموحها الخاطف.

يعتبر العظم الامتداد في الحب أصلاً  بمثابة “الشريعة”، أما “الاشتداد” فهو الشيء الطارئ ووصفه بـ”السنة” أي الفرع؛ معتبراً أن الامتداد يعبر عن الحب الذي يلتزم بتقاليد وواجبات، وفقاً للقانون الذي يؤمن به الطرفان، بوصفه مرجعاً لعلاقتهما، وهذا النوع من الحب يؤمن في الغالب بقوانين الزواج، والتماهي مع عادات المجتمع وتقاليده، ولكنه بعد فترة يصاب بالملل والفتور.

يُمثل “الاشتداد” العواطف الجامحة الملتهبة الخارجة عن المألوف، التي يتحرر فيها الحبيبان من القيود والقوانين اجتماعية، كتلك التي كانت عند “دونجوان” العاشق الذي يتحرر من علاقاته سريعاً، ولكن كل علاقاته كانت ملتهبة جامحة خارجة عن المألوف.

شريعة الامتداد تمثل القوانين والقيود التي يفرضها المجتمع على الطرفين أو على أحدهما، أما سنة الاشتداد فتمثل الحرية، ويرى العظم أن أياً منهما لا يمكن أن يوجد بشكل خالص منفرداً، وإلا مات الحب.

الحفاظ على امتداد الحب وفقاً لقوانين الزواج التي تفرض على الطرفين الوفاء بالتزامات محددة بشكل آلي، تقتل الحب مع الوقت، وتتحول العلاقة إلى شيء جديد غير الحب. كما أن التحرر من هذه القيود والامتثال لفكرة “الاشتداد” يخلقان الصدام السريع، وقد ينهيان الحب أيضاً، إذا تولد شعور لدى المحب “الدونجوان” بأن المغامرة قد انتهت.

الحل المثالي بحسب العظم هو المزج بين “الاشتداد” و”الامتداد”، وهي مسألة تختلف بين شخص وآخر، ولا توجد فلسفة تستطيع تقديم وصفة جاهزة لتحقيق ذلك.

تقدم السينما إلهاماً لهذه العلاقة، في قصة مراد (الفنان رشدي أباظة) في فيلم “الزوجة 13″، إذ أحب وتزوج مراد من 12 سيدة، وأمضى مع بعضهن ليلة واحدة فقط، ولكن زوجته عايدة رقم 13 (الفنانة شادية) هي التي استطاعت أن تخضعه لأنها لم تمكنه من نفسها بسهولة، ولم تنهِ مغامرته بالزواج، بل جعلت الزواج بداية لمغامرة جديدة يعيشانها معاً.

عايدة في القصة التي كتبها علي الزرقاني، استطاعت أن تحقق “الاشتداد” و”الامتداد” معاً في حكايتها مع مراد، بطريقتها الخاصة، التي استطاعت خلالها أن تحافظ على شخصيتها وحريتها، وفي الوقت نفسه كانت تفعل ذلك بدافع الحب، لا العكس.

لا ينفي ذلك أن الأدوار ثابتة، التمنع مجازاً وفعلاً هو ما حافظ على لهيب “الاشتداد”، بصورة آخرى، جعلت عايدة الحبّ ذاته مغامرة نحو الحريّة، لا نهاية مغامرة تُكلل بالزواج. 

الحرية والامتلاك: أحبك/ أكرهك!

يؤكد أستاذ الفلسفة عبد الرحمن بدوي في كتابه “الزمان الوجوديّ”، أن الحب في جوهره هو تملك الحبيب حبيبه، حتى في أرقى درجاته وأرقاها، ولكنها ملكية أرقى من ملكية الجمادات، يرتفع رقيها برقي المحبوب وقيمته الوجودية، كذات تشعر وتفكر وتقر.

هذا الحب الساعي إلى التملك لا يمكن أن يعيش إلا في حركة مستمرة، وقلق دائم، يولده سعي الحبيب للاستحواذ على حبيبه بقيمته، التي كلما زادت زاد هذا السعي.

والإنسان بطبعه ليس شيئاً ساكناً، بل تعتريه التناقضات وتجد عليه التغيرات، وهذه التغيرات والتناقضات هي التي تشعل لهيب الحب، وتجعل المحب يبذل قصارى جهده لاحتواء حبيبه وامتلاكه بتغيراته الجديدة التي تطرأ عليه.

إن استقر المحبوب على وضع ساكن في أحضان حبيبه ذهبت إثارة الحب، وتحول الأمر إلى ملل؛ لذلك أجمل فترات العلاقات وأكثرها التهاباً هي الفترة التي يبذل فيها الحبيب جهدًا ليستحوذ على قلب حبيبه، هي الفترة التي تشعر فيها الحبيبة أنها حرة وليست مقيدة بالحبيب، أو العكس.

ما يذكرنا بحال عمرو دياب في أغنيته “أحبك أكرهك”، التي كتبها أيمن بهجت قمر، وعبرت عن قلق يعتريه تجاه حبيبته، وتناقضات في مشاعره تجاهها، تجعله يشعر بأنه يكرهها أحياناً، ولكنه في الوقت نفسه يحبها ولا يستطيع الابتعاد عنها.

إذا كان المحبوب مقيداً كالجماد، فلن يبهر حبيبه أو يظهر منه جديداً يدهشه، وبالتالي فإن استمرار الحب وتجدد لهيبه لن يتم إلا بتحرير الحبيبين، وفي الوقت ذاته سعيهما إلى امتلاك بعضهما.

يلتقي ذلك أيضاً مع ما ذهب إليه الفيلسوف الوجودي لويس لا فيل، من أن الحب هو اتحاد بين حريتين، تدعم كل منهما الأخرى، فيتحول الطرفان معاً إلى إنتاج شيء أو ثمرة جديدة هي “الحب”، لكن هذا الرأي يحتاج إلى إيمان الطرفين العميق بالحرية وبالحب في الوقت نفسه، وبأن تكون الحرية ضمانة للحب، وأن يكون الحب ضمانة للحرية.

الآراء السابقة وغيرها تشير إلى “قلق” وتوتر العلاقة بين الذات الطامحة للحرّية والحب والآخر الطامح إلى الأمر ذاته، خصوصاً أن هذا القلق نفسه يضمن  استمرار الحب ساخناً خالياً من الملل من دون أن يهدد “الحريّة”، ولا يتم ذلك إلا بشرط أن يجد وعياً لدى الطرفين بذلك، وإلا عدنا إلى الأدوار التقليديّة، المحكومة بالملل، أو عدم الاكتراث، عدوَّي الحبّ اللدودين.

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 11.10.2024

ضغط عسكري على الشمال ومجازر في جنوبه… عدوان “إسرائيل” في غزة لا يتوقّف

يمارس الجيش الإسرائيلي ضغطاً عسكرياً على سكان المخيم بهدف دفعهم إلى النزوح لجنوب القطاع، تنفيذاً لما يُعرف بخطة "الجنرالات" التي وضعها اللواء الإسرائيلي المتقاعد غيورا إيلاند، والهادفة إلى إجلاء المدنيين بعد حصار محكم.
08.03.2023
زمن القراءة: 7 minutes

إذا كان المحبوب مقيداً كالجماد، فلن يبهر حبيبه أو يظهر منه جديداً يدهشه، وبالتالي فإن استمرار الحب وتجدد لهيبه لن يتم إلا بتحرير الحبيبين، وفي الوقت ذاته سعيهما إلى امتلاك بعضهما.

يُقال إن الحُب قطيعة مع الحاضر، لكن الكارثة التي شهدتها المنطقة وكم المآسي منعانا من إدراك ما يحصل، فالحاضر ليس متماسكاً، والماضي مهدد بالتلاشي، الأرض تميل من تحتنا، حتى إن يوم 14 شباط/ فبراير (عيد الحب) مرّ هكذا من دون أثر، فمن “يُحب” بينما الأرض تتشقّق؟

نكتب عن الحبّ لأن لا ملكية عليه سوى صاحبه، لا بنك، ولا حزب، ولا ميليشيا ولا كارثة قادرة على أن تصادره، ولا حتى الوباء منع القبل، ولا هجرة تمنع شبق الحبيب على الشاشة، أو في المخيلة.

أطلقت المغنية المغربيّة- المصريّة سميرة سعيد عام 2004 أغنيه “قويني بيك”، التي كتبها أمير طعيمة، والتي تعبر عن أنثى ضعيفة، تستمد قوتها من حبيبها، ولذلك تريد أن تمتلكه، فتحبِسه داخل عينيها وتحجبه عن العالم، إذ تغنيّ: “قويني بيك /عايزة جوة عيني أداريك/ عايزة أعيش لك وأموت فيك/ عمري إيه لو مش وياك”

هذا الموقف المنصاع كلياً للحبيب بوصفه مصدر القوّة و”الحياة”، يفترض أن حريّة المرأة ثمن بخس أمام “حبّ الرجل” وما يقدمه من قوة، هذا الموقف يعكس توتر المجتمعات التي تعيش حالة انتقالية بين القديم المحافظ والحديث المُتحرر، فدعاة التحرير الكامل للمرأة دائماً في صراع مع المحافظين الداعين إلى التمسك بالتقاليد، ما يجعل المرأة، بل والرجل، في تشتت بين الخيارين، وهنا، بسبب التوتر بين هذين النموذجين قد تضيع لذة الحب، وتدهس تحت أقدام طلب الحرية، أو العكس.

بصورة أخرى نحن أمام نموذجين متصارعين، الأول يرى في المرأة كياناً مستقلاً كلياً، له حرية التصرف بجسده غير ملزم بما يُسمى “الواجبات الطبيعيّة” أو “المنزليّة”، وآخر محافظ، يرى المرأة تابعاً، شريكاً له استحقاقات خاصة تختلف عن تلك الخاصة بالرجل.

يشير الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إلى الصراع بين “الحبّ” و”الحريّة”، إذ يرى أن الحب يخلق طواعيةً انصياعاً للحبيب، الذي قد تتعارض رغباته مع رغبات حبيبه، معتبراً أن حبيبين يستويان في الإحساس بذاتَيهما وفي تطلُعهما إلى الحرية، يملكان في الوقت نفسه أدوات تدمير حبهما؛ فنزعةُ الامتلاك التي تطبع الحب، لن تسمح بتمدد الحرية التي تمكن الحبيب من تحقيق كامل الإحساس بذاته، إلا في حدود ما يسمح به حبيبه، وإلا أخذ الحب في التآكل، وربما الفناء. 

هنا نسأل، هل من توازن ممكن بين “الحبّ” و”الحريّة”؟، بصورة أخرى، هل يمكن أن نُحِبْ/ نُحَبْ من دون أن نفقد ذواتنا؟

نكتب عن الحبّ لأن لا ملكية عليه سوى صاحبه، لا بنك، ولا حزب، ولا ميليشيا ولا كارثة قادرة على أن تصادره، ولا حتى الوباء منع القبل، ولا هجرة تمنع شبق الحبيب على الشاشة، أو في المخيلة.

القوة والجمال: جاذبيّة الاختلاف

تقول الفرضية العلميّة إن القطبين المتماثلين يتنافران، والمختلفين يتجاذبان، ويسحب البعض هذه الفرضيّة على العلاقات العاطفيّة، فالحبيبان مرآة لبعضهما، يرى كل منهما صورته في الآخر، ويشعر بنفسه من خلاله، وليس معنى ذلك أنهما لا بد أن يكونا نسخة من بعضهما، لأن صورة الشيء التي تظهر في المرآة ليست أصله، وبالتالي لا بدّ من اختلاف.

تولد الألفة بين الرجل والمرأة ضمن المنطق السابق، بناء على الفتنة والدهشة، لا بسبب التشابه، بل الاختلافات أيضاً، إذ يكتشف كل من طرفي الحبّ ما يفتقده في نفسه. يشير المفكر اللبناني علي حرب في كتابه “الحب والفناء: تأملات في المرأة والعشق والوجود” إلى هذه المفارقة، مفترضاً.أن الاختلافات بين الطرفين قد تكون عاملاً من عوامل تجديد شغف الحب وتغذيته.

هذا الاختلاف الواجب لإشعال لهيب الحب، ينتهي إذا ما قُيِّدت حرية أحد طرفي العلاقة، بمعنى آخر، سعيه للاستقلال بذاته وكيانه، وسيصبح الطرف الضعيف مجرد انعكاس للطرف القوي، ما يدلل الملل ويدفع الحبّ بعيداً. وأحياناً إن زادت نقاط الاختلاف، فلا بد من صدام.

يفترض زكريا ابراهيم في كتابه “مشكلة الحب”، أن نعومة المرأة وجمالها، بحاجة إلى أن تكتمل بقوة الرجل، والحياة لا يمكن أن تكون كلها حرباً؛ فالمُغامر الجريء لا بد أن يعود ويشتاق إلى المخلوق الذي يستمتع معه بأيام السلم العذبة، وهكذا ترتد القوة إلى الجمال لتحيا معه تحت سقف واحد.

فرضية الجمال والقوة ليست دائماً مطلقة، كما يرى إبراهيم؛ فللجمال قوته، وللقوة جمالها، وبالتالي فإن الجمال والقوة كامنان في كلا الطرفين، حتى ولو بدا أن أحدهما تَغلَّبت عليه صفة عن الأخرى، لكنها تفترض في الوقت ذاته أدواراً ثابتة، بل ويمكن القول ذكوريّة، أي أن الجمال والفتنة والاستكانة حصة المرأة أنيسة زمن السلم، بينما القوة والمغامرة والبأس حصّة الرجل بوصفه صاحب الحرب، أي أن الحب قائم طالما أن كلّ واحد حرٌّ بالالتزام بدوره، فالاختلاف هنا جندري بالمعنى الحرفي، لا نفسي.

الامتداد والاشتداد:  فرضية “الزوجة 13”

هناك تفسير آخر للعلاقة بين الحب والحريّة نجده في طريق فرضية “الاشتداد” و”الامتداد”، التي تحدث عنها صادق جلال العظم، إذ يرى أن للحب مسارين، أحدهما هو “الامتداد في الزمن” أي دوام الحالة العاطفية واستمرارها عبر فترة معينة من الزمن، والثاني هو “الاشتداد” وهو المعبر عن التهاب العاطفة وعنفها وجموحها الخاطف.

يعتبر العظم الامتداد في الحب أصلاً  بمثابة “الشريعة”، أما “الاشتداد” فهو الشيء الطارئ ووصفه بـ”السنة” أي الفرع؛ معتبراً أن الامتداد يعبر عن الحب الذي يلتزم بتقاليد وواجبات، وفقاً للقانون الذي يؤمن به الطرفان، بوصفه مرجعاً لعلاقتهما، وهذا النوع من الحب يؤمن في الغالب بقوانين الزواج، والتماهي مع عادات المجتمع وتقاليده، ولكنه بعد فترة يصاب بالملل والفتور.

يُمثل “الاشتداد” العواطف الجامحة الملتهبة الخارجة عن المألوف، التي يتحرر فيها الحبيبان من القيود والقوانين اجتماعية، كتلك التي كانت عند “دونجوان” العاشق الذي يتحرر من علاقاته سريعاً، ولكن كل علاقاته كانت ملتهبة جامحة خارجة عن المألوف.

شريعة الامتداد تمثل القوانين والقيود التي يفرضها المجتمع على الطرفين أو على أحدهما، أما سنة الاشتداد فتمثل الحرية، ويرى العظم أن أياً منهما لا يمكن أن يوجد بشكل خالص منفرداً، وإلا مات الحب.

الحفاظ على امتداد الحب وفقاً لقوانين الزواج التي تفرض على الطرفين الوفاء بالتزامات محددة بشكل آلي، تقتل الحب مع الوقت، وتتحول العلاقة إلى شيء جديد غير الحب. كما أن التحرر من هذه القيود والامتثال لفكرة “الاشتداد” يخلقان الصدام السريع، وقد ينهيان الحب أيضاً، إذا تولد شعور لدى المحب “الدونجوان” بأن المغامرة قد انتهت.

الحل المثالي بحسب العظم هو المزج بين “الاشتداد” و”الامتداد”، وهي مسألة تختلف بين شخص وآخر، ولا توجد فلسفة تستطيع تقديم وصفة جاهزة لتحقيق ذلك.

تقدم السينما إلهاماً لهذه العلاقة، في قصة مراد (الفنان رشدي أباظة) في فيلم “الزوجة 13″، إذ أحب وتزوج مراد من 12 سيدة، وأمضى مع بعضهن ليلة واحدة فقط، ولكن زوجته عايدة رقم 13 (الفنانة شادية) هي التي استطاعت أن تخضعه لأنها لم تمكنه من نفسها بسهولة، ولم تنهِ مغامرته بالزواج، بل جعلت الزواج بداية لمغامرة جديدة يعيشانها معاً.

عايدة في القصة التي كتبها علي الزرقاني، استطاعت أن تحقق “الاشتداد” و”الامتداد” معاً في حكايتها مع مراد، بطريقتها الخاصة، التي استطاعت خلالها أن تحافظ على شخصيتها وحريتها، وفي الوقت نفسه كانت تفعل ذلك بدافع الحب، لا العكس.

لا ينفي ذلك أن الأدوار ثابتة، التمنع مجازاً وفعلاً هو ما حافظ على لهيب “الاشتداد”، بصورة آخرى، جعلت عايدة الحبّ ذاته مغامرة نحو الحريّة، لا نهاية مغامرة تُكلل بالزواج. 

الحرية والامتلاك: أحبك/ أكرهك!

يؤكد أستاذ الفلسفة عبد الرحمن بدوي في كتابه “الزمان الوجوديّ”، أن الحب في جوهره هو تملك الحبيب حبيبه، حتى في أرقى درجاته وأرقاها، ولكنها ملكية أرقى من ملكية الجمادات، يرتفع رقيها برقي المحبوب وقيمته الوجودية، كذات تشعر وتفكر وتقر.

هذا الحب الساعي إلى التملك لا يمكن أن يعيش إلا في حركة مستمرة، وقلق دائم، يولده سعي الحبيب للاستحواذ على حبيبه بقيمته، التي كلما زادت زاد هذا السعي.

والإنسان بطبعه ليس شيئاً ساكناً، بل تعتريه التناقضات وتجد عليه التغيرات، وهذه التغيرات والتناقضات هي التي تشعل لهيب الحب، وتجعل المحب يبذل قصارى جهده لاحتواء حبيبه وامتلاكه بتغيراته الجديدة التي تطرأ عليه.

إن استقر المحبوب على وضع ساكن في أحضان حبيبه ذهبت إثارة الحب، وتحول الأمر إلى ملل؛ لذلك أجمل فترات العلاقات وأكثرها التهاباً هي الفترة التي يبذل فيها الحبيب جهدًا ليستحوذ على قلب حبيبه، هي الفترة التي تشعر فيها الحبيبة أنها حرة وليست مقيدة بالحبيب، أو العكس.

ما يذكرنا بحال عمرو دياب في أغنيته “أحبك أكرهك”، التي كتبها أيمن بهجت قمر، وعبرت عن قلق يعتريه تجاه حبيبته، وتناقضات في مشاعره تجاهها، تجعله يشعر بأنه يكرهها أحياناً، ولكنه في الوقت نفسه يحبها ولا يستطيع الابتعاد عنها.

إذا كان المحبوب مقيداً كالجماد، فلن يبهر حبيبه أو يظهر منه جديداً يدهشه، وبالتالي فإن استمرار الحب وتجدد لهيبه لن يتم إلا بتحرير الحبيبين، وفي الوقت ذاته سعيهما إلى امتلاك بعضهما.

يلتقي ذلك أيضاً مع ما ذهب إليه الفيلسوف الوجودي لويس لا فيل، من أن الحب هو اتحاد بين حريتين، تدعم كل منهما الأخرى، فيتحول الطرفان معاً إلى إنتاج شيء أو ثمرة جديدة هي “الحب”، لكن هذا الرأي يحتاج إلى إيمان الطرفين العميق بالحرية وبالحب في الوقت نفسه، وبأن تكون الحرية ضمانة للحب، وأن يكون الحب ضمانة للحرية.

الآراء السابقة وغيرها تشير إلى “قلق” وتوتر العلاقة بين الذات الطامحة للحرّية والحب والآخر الطامح إلى الأمر ذاته، خصوصاً أن هذا القلق نفسه يضمن  استمرار الحب ساخناً خالياً من الملل من دون أن يهدد “الحريّة”، ولا يتم ذلك إلا بشرط أن يجد وعياً لدى الطرفين بذلك، وإلا عدنا إلى الأدوار التقليديّة، المحكومة بالملل، أو عدم الاكتراث، عدوَّي الحبّ اللدودين.