يُقال إن الحُب قطيعة مع الحاضر، لكن الكارثة التي شهدتها المنطقة وكم المآسي منعانا من إدراك ما يحصل، فالحاضر ليس متماسكاً، والماضي مهدد بالتلاشي، الأرض تميل من تحتنا، حتى إن يوم 14 شباط/ فبراير (عيد الحب) مرّ هكذا من دون أثر، فمن “يُحب” بينما الأرض تتشقّق؟
نكتب عن الحبّ لأن لا ملكية عليه سوى صاحبه، لا بنك، ولا حزب، ولا ميليشيا ولا كارثة قادرة على أن تصادره، ولا حتى الوباء منع القبل، ولا هجرة تمنع شبق الحبيب على الشاشة، أو في المخيلة.
أميل الى الاعتقاد، وإنْ بدا مُبالَغاً فيه، أنّه لوْ لم تكن هناك عاطفة نسميها حُباً، لَما كان فن الأغنية قد وُجِد في تاريخ البشرية. فإذا أحصيْنا عدد الأغاني بجميع أنماطها وأشكالها من ناحية طبيعة الموضوع التي تتطرّق إليها، نجد أنّ موضوع الحب يحظى بأكبر نسبة من مجموع هذه الأغاني.
أكادُ أجزم أنّ الكلام نثراً أم شِعراً في موضوع أغنيات الحب والهوى، يُشكّل موضوعاً ثابتاً لكل زمان ومكان، بحيث لا يُستثنى منه أي مجتمع أو شعب أو حتى مرحلة تاريخية في الفن الغنائي.
كلام الحُبِّ في الأغاني عادة ما يتطرق إلى أوصاف الحبيب/ة وخصاله، أو يُشير الى حالات شعورية ترافقه مثل الشوق، الحنين، الغيرة، الهجر، الفراق، الخيانة والحب من طرف واحد، أو تُوَّصِف حالات الولع والعشق والهُيام. وقد يتطرق الكلام إلى موضوع انتهاء الحُب ومشكلاته في الفوارق الطبقية والاجتماعية والهوية العرقية والجندرية في العلاقات، أو إلى إشكاليات تتعلق بالعلاقة بين السلطة من جهة وبين الحُب والجسد من جهة أخرى.
يُعزى هذا الثبات في الموضوع إلى أنّ الحُب مفهوم مُطلق ومسألة إنسانية عالمية تعود بجذورها الى أصل الإسان بفطرته الأولى. إلا أنّ هذا لا يعني إطلاقاً أنّ مضمون الكلام ومفرداته المستعملة في الغناء تُكرر نفسها من دون تغيير يُذكر. فلا شك أنّه في حالٍ من التحوّل والتغيّر تبعاً للتحولات الطارئة المُستجدّة في المجتمع ببناءيْهِ الفوقي والتحتيّ.
فكلام أغاني الحُب في الثقافة الغربية والأوروبيّة بدءاً من القرن العشرين، تبدّلت أحواله ومفرداته وقضاياه بفعل حدوث تحولات سياسية – اقتصادية واجتماعية – ثقافية كثيرة، من بينها تشكّل الشخصية الفردية ونشوء وعي جديد لعلاقة الفرد بجسده. وقد يكون الحدث الأهم في هذا المجال هو الثورة الجنسية التي انطلقت من القارة الأميركية في ستينات القرن الماضي، وانتشر تأثيرها في معظم دول العالم.
لا يبحث هذا المقال في تاريخ الحب وتعريفاته، إنما يُراد به كشّافاً لأخبار الحُب وأحواله في كلام الأغنية اللبنانية حصراً ومن دون التطرق الى اللحن. ومع هذا تجدر الإشارة إلى أمرين:
الأمر الأول هو إذ يقومُ الحُبُّ على التجربة الحيّة الوجدانية للفرد في توقه العاطفي والجسدي إلى الاتحاد والاندماج بالآخر (الفرد)، إلّا أنَّهُ وفي الوقت ذاته توْق إلى الحرية والاستقلال عن الجماعة. في هذا التضاد بين التوْقيْن، ينطوي تاريخ الحُب على جزء مهم من التاريخ الطويل والمعقّد لحرية الفرد واستقلاليته.
وفي طيّات هذا التاريخ، يُعثر على سجلٍّ حافلٍ في كبت الجسد ورغباته الفطرية وقمع حرية الفرد في اختيار هويته الجنسية. قمعٌ وكبتٌ مورِسا على وجه الخصوص، ضد جسد المرأة، من سلطة أبويّة ذكورية وعبْر مؤسسات الدولة السياسية والحقوقية والدينية والثقافية.
الأمر الثاني مفاده أن الحُب في عالمنا المعاصر يرتبط بمفهوم الجنسانية المُشتمِل لا فقط على الحياة الجنسية للفرد بل أيضاً على العواطف العميقة مثل الصداقة والثقة والرعاية وحرية اختيار الشريك وتحديد شكل العلاقة به. الجنسانية إذًا تُحدد هوية الجسد وهوية الفرد الثقافية، منتقلة بهذا من الحيّز الخاص إلى العام عبْر التأثيرات المتبادلة بين الفرد والجماعة في السياسة والقانون والعادات الاجتماعية والدين والثقافة.
في أُغنية الحُب اللبنانية
ألهمت عاطفة الحُب الفنانين أينما وُجِدوا على تنوع ممارساتهم، ومن ضمنهم المُغنّون والمُلحِّنون وناظمو كلام الأغاني. وتُعتبر الأغنية العاطفية شكلاً فنياً مهماً في التعبير عن كلام الحب. وفي العادة، يأتي هذا الكلام بياناً جلياً أو مستتراً في أخباره وأحواله، ومؤشراً في ديناميكيات تقدم المجتمع أو تخلّفه في موضوع حرية التعبير عن الجنسانية، ورصد مستويات الكبت والقمع المُمارس فيه.
تشكّلت ملامح الأغنية اللبنانية في أربعينات القرن المنصرم مع الشروع بالاستقلال عن اتجاهين في التلحين والغناء؛ أحدهما شاميّ والآخر مصري. أتى هذا الاتجاه الاستقلالي كنتيجة طبيعية لإعلان دولة لبنان الكبير في العقد الثاني من القرن العشرين ونيْلِه الاستقلال التام عام 1943.
آنذاك، سمح تعدد الهويات الثقافية والدينية للمجموعات البشرية المنضوية في الدولة اللبنانية الناشئة، بتسهيل تبنّي بعض من قيم الحداثة الغربية. فظهر هذا التبنّي جلياً في محاولات جادة لبناء مؤسسات الدولة الفتيّة، كما على صعيديّ التعليم والثقافة، إلا أن قيم الحداثة لم تتجلَّ إطلاقاً على صعيد البُنى الاجتماعية، وعلاقة الدولة بالمواطن الفرد من خلال قانون مدني للأحوال الشخصية. استمر المجتمع اللبناني هشاً محافظاً على العادات والأعراف والتقاليد التي كوّنتها لقرون خلت زعامات عائلية وعشائرية ذكورية الطابع ترتبط عضوياً بالمؤسسة الدينية ومؤسساتها.
بقي المجتمع اللبناني بتركيبته الهشة إلى اليوم غير مُتسامح مع أفراده أو مجموعاته، بالذهاب بعيداً في تبنٍّ حقيقي وكامل لكل قيَم الحرية الفردية والليبرالية الثقافية، وحتى في أمور مثل حرية الجسد والحب والتعبير عنهما فصاحة. لذلك، أتت أخبار الحُب وأحوال الهوى في الأغاني اللبنانية مُنضبطة تحت سقف هذه السلطة الذكورية المُحافِظة، مُظهِّرةً نفسها في صوَرٍ كلامية نمطية، والشائع منها صورتان.
صورة الحُب الذي يُنمِّط شخصية الرجل الحبيب، القوي جسدياً، والمسيطر المانح لصدقية الإخلاص والعِفة في الحب حتى لوْ كان هو من خان او انقطع في الحُب. مقابل شخصية المرأة الحبيبة الفاتنة بجمالها، المحتاجة الى الحماية وتقديم التضحية والبرهان دوماً على عِفّتها وإخلاصها في الحب.
أمّا الثانية، فهي صورة رومنطيقية تنهل من مصادر ريفيّة، تدعو إلى التمثّل بعادات الريف ورموزه، أو تنحو إلى صوفية تجعل من الحب ديناً والحبيب معبوداً، لتصْهر الحبيبين في روح واحدة، وجسد واحد لا تأنيث فيه ولا تذكير.
تبرز في هذه الصُوَر الكلامية إشكالية لُغوِيّة قد لا يوجد مثيل لها في لغات أُخرى. إشكالية تُحْدِث لغطاً أو حيرةً في مفهوم الهوية الجندرية، وتكمن في نظم كلام الأغنية لجهة عدم مراعاة قول فعل الحُب بالاتجاه المقصود مُذَكَّراً أم مؤَنّثاً. اللغط والحيرة يَحدُثان عندما تقول المُغنّية في غنائها “بحبِّك”، أو يقول المُغنّي “بحبَّك…”!
قد لا يعني هذا شيئاً في مجتمع يتقبّل المُثلية الجنسية ويعتبرها أمراً طبيعياً وشأناً يخصّ الفرد. أمّا في المجتمع اللبناني، الذي يعتبر عدم المُغايرة في الجنس شذوذاً يجب أنْ يُعاقب عليه القانون ويُقمع بقسوة، عندها لا يُعتبر اللغط الناشئ من نوافل الأمور. فعندما نسمع كلاماً بصوت فيروز تقول فيه:
” يا حْنَيِّنَة يا حْنَيِّنَة يا حْنَيِّنَة / أهل الهوى بليل الغزل شِهدوا لنا”، نطرح الأسئلة التالية: هل فيروز الأُنثى تخاطب حبيبتها الأنثى؟ أم أنّ كاتب كلمات الأغنية يُوجّه رسالة غرامية الى حبيبته عبر صوت فيروز؟ وماذا عنّا نحن الذين نردد الأغنية، ذكوراً وإناثاً، من نخاطب؟
مثال آخر في أغنية رامي عيّاش: “غمُرْني ت عيش حياتي معاكْ، سكِّني فيكْ/ معَك برتاح ومعَك ما بخاف/ بحبَّك متل مجنون…”. الكلام يترافق مع شريط “فيديو كليب” وفيه يُشاهَد رجل يغمر امرأة، فيُحْدث تشويشاً فظيعاً، لا ندري معه إذا كان المقصود من هذا كله هو إخفاء الهوية الجنسية الحقيقية للمُغنّي أو الكاتب من وراءه؟ أم هو محاولة لنزع الجنسانية من جسد المرأة عبْرَ تذكيرها أو إلغاء وجودها كأنثى.
تفسيراً لهذا اللغط، أميل الى ما توصل إليه الكاتب حازم صاغية بكتابه “الهوى دون أهله” في تحليل “الكلام الكُلثومي” (بما معناه وليس نقلاً حرفياً)، بأن نزع الجنس عن كلام الحُب منطوقاً عبْر المُغنِّية يودي بالكلام الى مرتبة المُقدَّس الذي لا احتمال فيه لتأنيث أو تذكير، ومن خلاله تصير الناطقة به أيقونةً أو ملاكاً لا جنس لها.
صُوَرٌ مغايرة للسائد
يتشارك في صناعة الأغنية ثلاثُ أفرادٍ لثلاثِ مهمّات: المُلحن، ناظم الكلمات، والمُغنّي/ة، ولكن ليس بالضرورة أنْ يكونوا ثلاثة أفراد. فغالباً ما يكون المُلحن هو نفسه ناظم الكلام. ومن الممكن أنْ يختزل شخص واحد المهمات الثلاث.
اللافت في أغاني الحُب والهوى اللبنانية، أنّه نادراً ما نعثر على كاتبة أو ناظمة لكلام في هذا النوع من الأغاني. فكما يبدو أن الرجل هو الأكثر اشتغالاً في هذا المضمار. وهو ما قد يُعطي تفسيراً إضافياً للنزعة المحافِظة في نظم كلمات هذه الأغاني بصُورها المتأرجحة بين ذكورية رجعية من جهة، ورومانسية ريفية – صوفية من جهة أُخرى.
هذا لا يعني أنه لم يكن هناك من كلام مُغاير للسائد ظهر في تاريخ هذه الأغنية. قد يكون قد أحدث بعض الاهتزازات الخفيفة جداً في صدوع وفوالق التركيبة اللبنانية، ولكن المؤكد أنه لم يتسبب بتغيير يُذكر في الاتجاهات السائدة لكلام الحُب في الأغاني.
أوَدُّ في عُجالة أنْ أستعرض ما جاء في بعض هذه الأغاني التي ألِفْنا سماعها بأصوات ثلاث نساء مُغنّيات، في حين كان ناظموها رجالاً.
زكيّة حمدان
مُغنية لبنانية وعازفة محترفة على آلة العود اشتهرت في أربعينات القرن الماضي. عملت في الإذاعة اللبنانية كمُغنّية أساسية في فِرقتها الموسيقية، حين كان الملحن الموسيقي خالد أبو النصر مديراً للإذاعة. تميّزت زكية حمدان بموهبتها الفنية وبشخصية قوية وحرة، بحيث أنها لم تكن تخفي ميولها المثلية، وإن لم تُعلنها جِهاراً على الملأ. لها الكثير من الأغاني في الحب والغرام. تميّزت أغنيتان منها باتجاه معاكس لكلام الحُب في الأغنية اللبنانية.
لحَّن لها الأُغنيتين الموسيقي خالد أبو النصر، الأولى نظم كلماتها الشاعر السوري ناظم الياس وعنوانها “سلمى”، وفيها تقول حمدان:
“أرى سلمى بلا ذنبٍ جفتْني/ وكانت أمسٍ من بعضي ومني/
كأني ما لثمْتُ لها شِفاهاً / كأني ما وصلت ولم تصلني”.
خِتام الأغنية يأتي على صورة مفاجئة وغير مألوفة في أخبار أغاني الحب اللبنانية:
“غداً لمّا أموتُ وانتِ بعدي / تطوفينَ القبورَ على تأَني /
قفي بجوار قبري / ثُمّ قولي، أيا من كنتُ منكِ وكنتي مني / خدعتك في الحياة ولم أبالي / وخُنتك في الغرام ولم تخُنّي /
كذا طبْعُ المِلاحِ فلا ذِمام / فُطِرْنَ على الخداع فلا تلمني…”.
لافتٌ هذا التواطؤ الإيجابي بين الشاعر والمُغنيّة، الذي جاءت نتيجته انسجاماً تاماً بين كلام الأغنية الصريح وبين ما كانت تعيشه المُغنيّة من مشاعر عاطفية حقيقية. ومُدهش جرأتها في البوح غِناءً عن هواجسها في الحُب ونوازع جسدها، بمواجهة مجتمع ذكوري يكبت الجسد ويقمع حريته.
أمْا في أغنيتها الثانية “خُلِقتِ جميلة” من نظم مدحت عكاش، فتقول:
“خُلِقتِ جميلةً لتُعذبينا / ولسْنا في غرامك مُجرمينا
إذا كان الهوى والحُب عيباً / فكُل معايب العشاق فينا…
جمالك ذاهبٌ والحُب أيضاً / سنندم إنْ صددتِ وتندمين
ولذة الحياة لها حدود / ولسنا في الحياة مُخلّدينا…”
تُحيل كلمات أغنية “خُلِقتِ جميلة” الحُب والهوى إلى أصلٍ أرضي، وحالة إنسانية لا مقدس فيها ولا خلود، بل لذات ومُتع وعيوب. فالحب والجمال يصبحان خيراً بقدر ما يكونا مُتعة ولذة يعيشها المُحِب والمَحبوب بحرية وبشكل محسوس.
يُشير هذا الكلام المعاكس للسائد في كلام الحُب الى مستويات متقدمة من الحرية والليبرالية الثقافية، كان المجتمع اللبناني يسمح بإخراجها في بدايات نشوء دولته وتكوّن الشخصية اللبنانية في الفن الغنائي.
نهاد حداد أو فيروز
تتربع فيروز في الوجدان العاطفي لمعظم مكونات الشعب اللبنانية. وموضوع الحب الذي طاول معظم أرشيفها الغنائي، تأرجح مُعظم كلامه الشعري بين الصورتين الشائعتين للأغنية اللبنانية.
تُغني فيروز من نظم (الأخوين الرحباني) رجُليْن لا رجُل واحد، أحدهما كان بمثابة زوجها. في كلامٍ رومنطيقي ريفي ينتمي إلى ما قبل تشكّل المدينة، تقول فيروز :
“يا ريت أنت وأنا بالبيت / شي بيت أبعد بيت / ممحي ورا حدود العتم و الريح / و التلج نازل بالدني تجريح…/ وتْضل حدي تْضل ما تعود تفل / ويزهر و يدبل ألف موسم فِل/ وتْضل وما يْضل بالقنديل نقطة زيت”.
وفي أغنية أُخرى تقول فيروز كلاماً في الهوى، على حالٍ فاقعة من الذكورية المُنمّطة:
“قمرة يا قمرة / لا تُطلعي ع الشجرة / والشجرة عالية وانتِ بعدك زغيّرة… / حبيبك وصّاكِ ت تضلّي بالبيت/ ومين ما حاكاكِ ما تتركي البيت / ما بدّو تشوفي حدا / ولا تردّي عَ حدا / وكلّ البواب مسكّرة / هيك الهوى يا قمرة…”
تُفاجئنا فيروز بعد موت زوجها عاصي الرحباني واعتكافها عن التعاون مع أخيه منصور، بانتقالها الى غناءِ كلامٍ من نوع مُختلف في أحواله، ومغاير عما اجتهدت في تقديمه الى جمهورها العريض لزمن طويل. كلام جريء صادم ومعاكس للسائد والمُنمَّط، لحّنه ونظَمه ابنها زياد الرحباني. كما في أغنية “مش قصة هاي” تقول فيروز:
“بتمرُق علَيْ إمرق / ما بتمرُق ما تمرُق / مش فارقة معايْ / بتعشق عليْ إعشق / ما بتعشق ما تعشق / مش فارقة معاي /
حُبّك اناني بالتأكيد / ومفكْر إنك انتَ وحيد / على شو مسنود /
على شي مش موجود / عم تُغلط وتزوّد عليْ…”
ليس بالشيء القليل أنْ تقدم مُغنية بحجم فيروز وهالتها مثل هذا الكلام الواضح والحازم في الوقت ذاته. وضوحٌ يقطع بشكل تام مع تاريخ غنائها في الحب الرومنطيقي، وحزمٌ ينتقد بحدة وازدراء حبيبها الذكوري وسلطته المستمدة من النظام البطريركي – الأبوي.
يُنبئ الكلام المُستجد في أغاني الحُب “الفيروزية” إلى التفسخات والصدوع التي حدثت، أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، للتركيبة الاجتماعية – النفسية لمكونات المجتمع اللبناني. وقد فجّرت هذه المُكونات تعابير سياسية هشة مثل صيغة “العيش المشترك” للطوائف اللبنانية، ومقولة “لبنان رسالة تعايش ومحبة”، فتشظّى “الوطن الرحبانيّ” وأمست صوَره الرومانسية الحالمة في الحب والوطنية تعاني بهتاناً وتهافتاً شديدين.
أتخيَّلُ المُغنية المشهورة، وبعد غنائها كلام ابنها عن الحُب، قد رمت بلقبها الفني الأسطوري “فيروز” في سلة المهملات، واستعادت اسمها الأصلي نهاد الذي يُعرِّف عنها جسداً وهويّة. بعدها نظرت الى المرآة فحطمت صورة أيقونتها، وخرجت مُسرعة إلى البيت الذي حُبِست فيه “قمرة”، لتفكَّ أسْرَها ثم تحضنها قائلة لها: “هيا يا “حنيِّنة” أخرجي من هذا السجن وحرري عقلك وجسدك بعيداً منه”!
ريما خشيش
مُغنيّة لبنانية مخضرمة بدأت بالغناء في عقدها الأول حين برزت كمُغنيّة منفردة في كورس فرقة الموسيقى العربية التي أسسها الموسيقي سليم سحاب في أواخر السبعينات. بعدها درَست أصول الغناء العربي التقليدي في المعهد العالي للموسيقى. انصبّ اهتمامها في إعادة أداء لأغانٍ تقليدية وكلاسيكية من التراث العربي واللبناني. وبمساعدة موسيقيين أوروبيين وصلت في تجربتها إلى إخراج تجديدي في الأداء و البناء اللحني لتلك الأغاني مازجة به بعضاً من عناصر موسيقى الجاز والارتجال على الطريقة الأوروبية.
لحّن ونظـم لها الموسيقي والمسرحي ربيع مُروَّة مجموعة من الأغاني الخاصة بها. مُعظم كلامها تحدّث عن الحب في مضمون اجتماعي نقدي يعاكس الاتجاه السائد والمُنمّط. في إحداها تغنّي بصيغة السؤال:
“حُب..! / أيّا حُب؟ ويْنْ الحُب؟ ما في حُب / حُب يا حُب ياحُب كيفك يا حُب؟”. كأنَّ المُغنية خشيش، وبعد غنائها الطويل لأغاني الحُب من الخزانة التقليدية، قد توصلت إلى خلاصة تُفيد بأنّ الحب قد انتهى على الأقل بصُوَره الكلامية الماضوية والشائعة فيه.
وواقع الحال كما يصلنا من كلام في أغانٍ أخرى نظمها مُروَّة لتُؤديها خشيش، يُخبرنا وبسخرية مُرّة بعدم قدرة الحُب على أن يكون حُراً ومُزدهراً في ظل مجتمع ممزق، يعيش على مفردات حروب طوائفه الدينية، ويقمع حرية الفرد في خياراته على كل المستويات. يُخبرنا الكلام في أغنية “وشْوِشْني:
” كلِّمني، وشْوِشْني، خلّلي هالخط يرن / غنِّجني، لَعِّبني، خلِّي يْبَيِّن هالسِّن…/ أُخطفني، هجِّرني، فجِّرني ليش خايف / وافيني، إعْفيني، نْفيني من الطَّوايِف / عْبُطني، غْمُرني، حْمِلني، شْقِلني، وخِدْني زرعني بْعيد عن ارض لبنان…”
كنت أود لوْ أنّ حجم المقال يسمح باستعراض يطول أكثر عن أخبار الحُب وأحوال الهوى في الأغنية اللبنانية، فالموضوع بحد ذاته يحتمل الكثير. في أيّ حال، حسبي أنّ أغاني الحُب والهوى اللبنانية ستظل على ما هي من مراوحة مُنضبطة في صوَرِها الكلامية المُنمّطة، من دون أي تغيير يُذكر حتى ولو عكّر صفو هذه الصُوَر كلاماً جاء به أفراد، هم بالحقيقة ناجون من طوائفهم وأحزابهم ومِلَلِهم، امتلكوا زمام حُرِّيتهم، فأتوا بكلامٍ صادقٍ وغناءٍ جميل.