لم يكن مستغرباً فوز جوردان بارديلا برئاسة “حزب التجمع الوطني”، أبرز أحزاب اليمين المتطرف الفرنسي، خلفاً لمارين لوبان. لا بل يمكن القول إن فوزه امتداد طبيعي لمسيرته السياسية.
هذا الشاب البالغ من العمر 27 سنة، تحول إلى شخصية عامة حين ترأس لائحة التجمع الوطني لانتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019. وبعد حلول لائحته في المركز الأول، بدأ صعوده “الصاروخي”: حضور إعلامي لافت، تعيينه رئيساً موقتاً للحزب عند خوض لوبان الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وصولاً إلى انتخابه رئيساً فعلياً في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر.
منذ تأسيس “حزب الجبهة الوطنية” على يد جان ماري لوبان عام 1972، قبل تغيير اسمه إلى “حزب التجمع الوطني” عام 2018، اعتُبر ملكية خاصة لآل لوبان حتى بات الحزب يستمد حضوره السياسي من العائلة لا العكس. بالتالي كان لافتاً تولي شخص، لا يحمل كنية لوبان، هذا المركز للمرة الأولى منذ 50 عاماً.
في الواقع وبعد الانتخابات النيابية التي أجريت قبل خمسة أشهر، نجح التجمع الوطني في إيصال 89 نائباً إلى الجمعية الوطنية. كتلة غير مسبوقة من الناحية العددية، ما دفع بالحزب للمراهنة على تعزيز نفوذه السياسي من خلال العمل البرلماني تحديداً، وأن قيادته ما انفكت تدعي احترام اللعبة الديموقراطية والمؤسسات الدستورية. وعليه، اعتبرت مارين لوبان أن ثقل التجمع الوطني لم يعد في الأطر الحزبية، لذا قررت التفرغ لرئاسة كتلتها البرلمانية وإدارتها، ما يشير إلى تقاسم للأدوار بينها وبين بارديلا، مع احتفاظها بالمركز الذي يمنحها النفوذ الأبرز.
تقاسم الأدوار هذا ما كان ليتم لو لم يكن بارديلا “ابناً روحياً” للوبان، وبكل تأكيد ما كان بإمكانه التحول إلى شخصية عامة في هذا الزمن القصير لولا دعم ومباركة مارين لوبان. تولي شخص بهذا العمر رئاسة الحزب يشير إلى ضخ دماء جديدة، فالحملة الدعائية التي رافقت انتخابه، ركزت على انضمام هذا الجيل للحزب وهو بقيادة مارين لوبان، في ادعاء لنجاح سياسة “نزع الشيطنة” (استراتيجية إعلامية تخلت لوبان بموجبها عن إطلاق مواقف عنصرية أو تبني خطاب يحض على الكراهية، دون أي تغيير في المضمون) واستقطابها جيلاً شاباً، ما كان جان ماري لوبان ليستميله.
لم يكن مستغرباً فوز جوردان بارديلا برئاسة “حزب التجمع الوطني”، أبرز أحزاب اليمين المتطرف الفرنسي، خلفاً لمارين لوبان. لا بل يمكن القول إن فوزه امتداد طبيعي لمسيرته السياسية.
لا يعني ذلك أن بارديلا سيكون مجرد واجهة، بل قد ينطوي انتخابه على تحولات سياسية: في مجالسه الخاصة، يردد بارديلا أن الحزب ليس بحاجة لأفكار جديدة بل لآليات عمل مختلفة وهو ما اتضح خلال الانتخابات الأوروبية الأخيرة حين ركز على إدارة المعركة دعائياً، عوضاً عن بلورة طروحات جديدة. ويستطرد بارديلا مشدداً على ضرورة توسيع قاعدة الحزب، إذا ما أراد الوصول إلى الحكم. من هذا المنطلق يدور حديث حول إمكانية نسجه تحالفات جديدة، وتحديداً مع إريك زمور.
وزمور صحافي ومفكر يميني متطرف، اشتهر بعنصريته وبذكوريته. لم يعرف له أي نشاط سياسي مباشر قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي حل فيها رابعاً بنسبة 7 في المئة، بخطاب شديد التطرف. لوبان خاصمت زمور بعدما سلبها جزءاً من قاعدتها الشعبية إلى جانب عدد من قيادات حزبها، فكان من الطبيعي أن ترفض التحالف معه تحت عنوان “وحدة اليمين”، الذي نادى به زمور في الانتخابات النيابية التي تلت الرئاسية.
بخلاف لوبان، يميل بارديلا إلى تبني شعار “وحدة اليمين”. من جانب آخر، يدرك الأخير صعوبة تعبئة قاعدته الحزبية بالابتعاد من شعارات “الهوية والهجرة والأمن”، عناوين مترابطة بنظر اليمين المتطرف الفرنسي، الذي يرى في الهجرة تهديداً لهوية فرنسا وسبباً في انعدام الأمن.
لبلوغ التقارب أو التحالف المحتمل مع زمور، قد يلجأ بارديلا إلى إعادة ترتيب أولويات خطابه السياسي عبر الاستثمار في هذا “المثلث”، بخلاف سياسة لوبان التي أعطت الأولوية في دعايتها الانتخابية الأخيرة للملف الاجتماعي كتعزيز القدرة الشرائية ودعم الطبقات الشعبية.
الشعارات الاقتصادية التي رفعها زمور كانت ليبرالية، ما يعني أن نقطة الالتقاء الوحيدة بين الطرفين هو الخطاب المعادي للمهاجرين وبطبيعة الحال، من يتناول معاداة الهجرة في فرنسا يقصد معاداة المسلمين وما يستتبعه ذلك من عناوين إسلاموفوبية.
إقرأوا أيضاً:
وما يعزز تلك الفرضية، انحياز بارديلا لنظرية الاستبدال الكبير حين اعتبر من على صفحات مجلة Marianne، في تموز/ يوليو 2022، وجود مخطط لاستبدال الشعب الفرنسي، نظرية يتبناها زمور وتشكل جوهر خطابه السياسي.
فإذا ما قرر بارديلا مد يده لزمور، فيتوقع أن يتشدد “حزب التجمع الوطني” في خطابه المعادي للهجرة وللمسلمين، وما قد يؤدي إليه من تحريض وتضاعف الكراهية والعنصرية في الشارع الفرنسي، وصولاً إلى أعمال العنف.
في المقابل، قد قد تجهض مارين لوبان هذا التوجه، علماً أنها لا تزال صاحبة النفوذ الأوسع داخل التجمع الوطني. قد ترفض لوبان هذا التوجه على اعتبار أنه يعيد الحزب إلى الوراء، أي إلى زمن والدها بمواقفه العنصرية الحادة. ونفوذ لوبان يتخطى الأطر الحزبية ليصل إلى بارديلا نفسه: عقب مقتل الطفلة لولا، أراد بارديلا المشاركة في التظاهرة التي دعا إليها زمور، قبل العدول عن ذلك انسجاماً مع توجيهات لوبان التي اكتفت بدقيقة صمت داخل الجمعية الوطنية.
وعليه، تطرح أسئلة حول طبيعة العلاقة التي ستجمع لوبان بابنها الروحي: هل سيبقى يدور في فلكها؟ أم سيلجأ للتمرد وما يعنيه ذلك من خطاب سياسي مغاير؟ لا يستطيع بارديلا المضي للأعلى في حياته السياسية وطيف لوبان يحيط به، بل يتوجب عليه بناء كيانه الذاتي. معادلة غير بسيطة، فبعدما بلغ ما بلغه وهو في مقتبل عمره السياسي بفضل مارين لوبان، سيكون تمرده عنواناً لنكران الجميل، كما أن التجارب السابقة أثبتت عجز الحزب عن الحياة، بمعزل عن آل لوبان، وكل من خرج عن طوعهم دخل غياهب النسيان.
إقرأوا أيضاً: