“أستعيد نفسي هنا، وأزيح عن صدري الهموم، أتلو الأدعية، ملتمسة شفاعة الأئمة عند الله، وأود أن يمنحني الله استجابته”، فيما تنهمر الدموع على وجنتيها، ترفع أم سجاد يدها إلى السماء وتدعو إلى شفاء ابنها من سرطان الرئة، بعدما ضاقت بها السبل وقدمت كل ما تملك من أموال ومجوهرات.
تؤمن بأن طلب الحاجة من الحسين، حفيد النبي محمد، والإمام الثالث لدى الشيعة الاثني عشرية والذي قتل في موقعة كربلاء، قد يفضي إلى حل.
يعتبر الإمامان الحسين والعباس حفيدا نبي المسلمين محمد، بمثابة “سفينة نجاة يتمسك بها المؤمنون والمؤمنات بالمذهب الشيعي من كل أقطار العالم”. وستجد قرب ضريح الحسين أو العباس، العشرات أو المئات من النساء الملتحفات بالعباءة العراقية السوداء، وهن يتنافسن بشدة للوصول الى شبابيك ضريحيهما، منهمكات بتلاوة الأدعية، كما يبذلن المال الذي يذهب إلى المرجعيات الدينية المشرفة على الأضرحة الدينية في العراق.
توسل الأئمة بغرض علاج مريض أو حل قضية عائلية عالقة أو خطر ما، أمر شائع في العراق، بلد المزارات والأضرحة، ومع صعود المد الديني في العراق وتغلغل الفساد والانقسام السياسي، وجد عراقيون أنفسهم متروكين للتوسل لمعتقداتهم ليحلوا أزمات دنيوية لم يجدوا سبيلاً لحلها.

“يعرفون معنى الشعور بالظلم”
يبدأ الأمر بدخول السيدة إلى الضريح، فتنهمر الدموع كما تنقل أكثر من زائرة أمام المقامات. تتذكر النسوة الزائرات ما تعرّض له آل بيت الرسول محمد في موقعة كربلاء من قتل وسبي في العاشر من محرّم: “عند دخولي هذا المكان المقدس، أسترجع ما حصل لآل البيت من ظلم وأسى، وأشعر بأن جميع مصائبي، ما هي إلا نقطة في بحر ما حصل لهم، لكنني مع هذا، أشكو لهم همّي، لأنهم مظلومون، ويعرفون معنى الشعور بالظلم”، تقول أم حسن، السيدة الستينية، التي تعرضت لظلم قاس من أقاربها، بعدما استولوا على منزلها وطردوها بتزوير وثائق ملكية الدار.
هي تؤمن بأن الحسين يرى مظلومية الآخرين وينقلها إلى الرب، الذي لا تضيع عنده ودائع أحد، “بدأت مشكلتي منذ شهرين، لم أترك باباً إلا وطرقته، جميع من في الدولة فاسدون، بالرشاوي والغنائم، أعطوا الدار لاقاربي، وتركوني أتنقل من بيت إلى آخر، من بيوت أزواج بناتي، أحياناً تشتد الحسرة في روحي، فأرتدي عباءتي وأتوجه إلى سيد شباب أهل الجنة، أبقى هنا لساعات، أبكي وأقرأ الأدعية، يزاح الهم عن روحي”.
أم سجاد تقول إن معظم من يزورون المقامات من العراقيين والعراقيات “هم أناس لا حول لهم ولا قوة، بغير الدعاء والتشبث بإيمانهم المطلق بأن الأئمة سيردون لهم حقوقهم”.
من أبرز طقوس زيارة الأئمة في كربلاء والنجف هو دعاء الزيارة، وصلاتها، بنيّة التبرك من الأئمة، ولا تحتاج هذه الزيارة انتظار مناسبة مقتل الأئمة أو أربعينية مقتل الإمام الحسين مثلاً، بل يمكن التوجه إليهم في كل وقت.

تترك كثيرات داخل الأضرحة صوراً لأحبائهن، أو يتبرعن بالأموال مهما كانت قيمتها، أو بقطع من الثياب. داخل شباك الضريح في المقام، حيث قبر الإمام، صور فوتوغرافية لمئات الوجوه، من أطفال وشباب وطاعنين في السن، وتتعرض خلال فترات متباعدة، للإزالة من قبل مسؤولي التنظيفات في المقام، للإفساح في المجال لصور جديدة. تقول أم أحمد: “لا نضع صور الظالمين في المرقد، بل صور المظلومين المساكين الذي وقفت الحياة في وجههم وأغلقت منافذها، نضع صورهم ليكونوا أمانة عند الأئمة”.
أما الأموال، فكما توضح أم أحمد، وهي زائرة دائمة لمرقدي الإمامين الحسين والعباس، فتكون بمثابة نذور بسيطة تقدمها الزائرات بعد تحقيق أمانيهن.
هذه الأموال تذهب إلى المرجعيات المشرفة على الضريح لكن ليس واضحاً تماماً كيف يتم صرفها.
في ساحات الأضرحة تختلط الأزمات بالمعتقدات الشعبية والقصص التراثية بحيث تتبادل النساء حكاياتهن ومشكلاتهن لجهة العنف الأسري والتمييز في مجتمع يضع النساء في مرتبة التابع قانونياً واجتماعياً.
من الطقوس البارزة ربط قطعة قماش (العلك) داخل الضريح، والتي تكون خضراء أو سوداء، على أنها تمثل رايات الأولياء، وعبر عقدها يتم “عقد الأمنية” وحينما تفتح من تلقاء نفسها، يتم تحقيق الطلب. أو يتم فك هذا الشريط الأخضر من طريق زائرة “حُلت عقدتها ومشكلتها” فتستطيع حل أي شريط أمامها، تقوم بفتحه، فتتحقق أمنية صاحبة العلك.
إحدى الجالسات في باحة مرقد الإمام العباس تقول إنها قدمت إلى العباس “بعدما اتهموني بسرقة ذهب والدة زوجي وطلقوني عنوة منه، رميت شالي على الضريح وقلت للعباس “رجعلي حقي”.
تعتقد هذه السيدة أن ما فعلته كان السبب لاحقاً في تعرض والدة زوجها لسرقة، وأصيب ابنها بطلق ناري في قدمه بعدما حاول الجري خلف العصابة. تقول برضا من شفي غليلها: “العباس يأخذ حوبة المظلوم”.

“سبوتة”
من المعتقدات المرتبطة بالأئمة أيضاً، أن قيام الفتاة بزيارة ضريح الإمام الكاظم سبع مرات كفيل بتحقيق حلمها بالزواج. يسمون هذا الطقس “السبع سبوتة”، وهو شائع في المرقد الذي يقع في العاصمة بغداد، ولا يمكن تحديد أصله التاريخي. وتستمر الزيارات لسبعة أيام سبت متتالية، وعلى الفتاة في الزيارة السابعة والأخيرة أن “تقدم نذراً يناسب إمكاناتها كالصيام أو توزيع الطعام على الفقراء”.
في المقامات زوار كثر من العراق ومن دول أخرى يجدون في تلك المساحات ملاذاً لأزمات ومشكلات كان يمكن أن تجد لها حلولاً عبر أقنية رسمية ملائمة لكنها هنا في العراق متروكة للأضرحة…
إقرأوا أيضاً: