fbpx

الاشتراكيون الديمقراطيون يقهرون اليسار… ولكن هل يؤمنون بالديمقراطية؟         

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حتى الآن، تمكّن الاشتراكيون بفعالية من تعبئة الاستياء من خلال نقدهم الوضع الراهن. لكن الانتقادات غير المصحوبة بحلول قابلة للتطبيق لا تؤدّي إلا إلى إثارة الغاضبين والمُحبطين

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عندما فازت ألكساندريا أوكاسيو- كورتيز، العضو في حركة الاشتراكيين الديموقراطيين في أميركا، بالانتخابات الأولية في الدائرة رقم 14 بنيويورك، أصبحت على الفور رمزاً للمستقبل المُحتمل للحزب الديموقراطي. بشكل ملائم، أمضت ألكساندريا الشهر الأخير في حملة انتخابية تطوف البلاد من أجل مرشحين تقدّميين مثلها، تثير الأجيال ومفكري اليسار وغيرهم في ما يتعلق بالإحياء المحتمل للاشتراكية الديموقراطية. يقدم المتمسّكون بالاشتراكية الديمقراطية- الذين يميّزون أنفسهم عن الديمقراطيين الاشتراكيين الأكثر اعتدالاً- وهو ما كان سابقاً العرف السائد في اليسار التقدمي- كتابات فكرية تحمل عناوين مثل “الديمقراطية الاجتماعية جيدة. ولكنها ليست جيدة بما يكفي” من جاكوبين Jacobin ، “الاشتراكية الديمقراطية ليست هي الديمقراطية الاشتراكية” جاكوبين Jacobin أيضاً، و”إنها مجرد ليبرالية ذات صفة جديدة” (بحسب ما ذكرت Vox).

في الواقع، هناك تقاليد مميّزة لها أهداف وأولويات، ونقاط قوة وضعف مختلفة. وإذا انتقل الجناح الأيسر من الحزب الديمقراطي من ناحية إلى أخرى، ينبغي أن يكون على دراية بالعوائق التي وضعها الاشتراكيون الديمقراطيون بشكل تاريخي أمام الديمقراطيات. وفي النهاية، يحتاج المصوّتون وواضعو القوانين إلى حلول واقعية للسيطرة على المشكلات، ويمتلك الاشتراكيون الديمقراطيون سجلاً هزيلاً في تقديم هذه الحلول، مع إصرارهم المتكرر على جعل العظيم عدواً للجيد.

نشأت كل من الاشتراكية الديمقراطية والديمقراطية الاشتراكية على شكل انقسام بداخل الحركة الاشتراكية العالمية بشأن كيفية التعامل مع إخفاقات الماركسية. كانت الفكرة المحورية في الماركسية هي الاعتقاد بأن التناقضات الداخلية في الرأسمالية سوف تؤدّي بشكل حتمي إلى زوالها. ومع ذلك، ففي نهايات القرن التاسع عشر، بدلاً من أن تنهار الرأسمالية، فقد أظهرت مرونة فائقة. كنتيجة لذلك، نشأت ثلاثة معسكرات ذات آراء متباينة حول الرأسمالية والديموقراطية.

أكّد المعسكر الأول، الذي لخّصه لينين، أنه في حالة عدم انهيار النظام القديم تلقائياً، يجب أن تقوم طليعة ثورية بالقضاء عليه. كان آخرون غير راغبين في قبول العنف والنخبوية الخاصة بهذا المعسكر. أكّد البعض أنه على رغم أن ماركس كان مخطئاً بشأن قرب انهيار الرأسمالية، فقد كان محقاً بشأن كونها غير مستقرّة وغير عادلة بشكل متأصل بها ولن تستمر إلى ما لا نهاية. ومن ثم، فإن دور اليسار يتمثل في الاستثارة ضد النظام الحاكم وانتظار رحيله بلهفة.

وفقاً لذلك، قامت الإصلاحات بتقييد القيمة نظراً لأنها لا تستطيع بشكل أساسي أن تغير النظام الرأسمالي. أكّدت الناشطة البولندية الألمانية روزا لوكسمبورغ، مثلاً، أن السياسات الخاصة بـ “تخفيض استغلال الرأسمالية” كانت سخيفة، بينما أصر جول غيسد، الاشتراكي الفرنسي البارز، على أنه “عند زيادة الإصلاحات، فإن ما يزيد فقط هو الزيف”. وفي ما يتعلّق بالديمقراطية، فإن هؤلاء اليساريين قد رأوا أن الخلل الأساسي بها هو ارتباطها بـ “الرأسمالية البرجوازية” وأنها تتطلّع إلى شيء ما “أفضل”. وقد رفضت هذه المجموعة التحالفات أو المواءمات مع القوى غير الاشتراكية نظراً إلى كون الاشتراكية هي الأولوية لديها والديمقراطية وسيلة وليست غاية.

“تتمثّل قصة اليسار غير الشيوعي منذ نهاية القرن التاسع عشر في قصة المعركة بين هاتين المجموعتين: الاشتراكيين الديموقراطيين والديمقراطيين الاشتراكيين”

رفض اليساريون الآخرون فكرة ربط الرأسمالية بالانهيار، وأكّدوا بدلاً من ذلك على أنه من الممكن والمرغوب به الاستفادة من النواحي الإيجابية بها مع معالجة سلبياتها. ومن بين أشهر مؤيّدي هذا المعسكر إدوارد بيرنشتاين السياسي الألماني الذي عمل في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين واشتهر بتأكيده أن “ما اصطلح عليه عادةً الهدف النهائي للاشتراكية لا يعني شيئاً بالنسبة إلي، إن الحركة هي كل شيء”. وقد عنى بهذا أن التحدّث حول مستقبل مجرّد له قيمة ضئيلة، يجب على اليسار- بدلاً من ذلك- وضع أولوية للإصلاحات الملموسة التي يمكنها صنع عالم أفضل.

وما زال هذا الأمر يتطلب توجيه الحالة الديموقراطية. ومن ثم فإن بيرنشتاين، كغيره ممن ينتمون لهذه المجموعة، يرى أن الديمقراطية وسيلة وغاية. لقد كانت “أكثر الأدوات فعالية لتنفيذ … الإصلاحات من دون إراقة دماء” وتجسد أهم الأهداف لدى اليسار، إزالة الفروق بين الطبقات الاجتماعية، المساواة، والحكم الذاتي. وقد فضل هذا المعسكر صنع تحالفات وتسويات مع القوى غير الاشتراكية لأن أولويته هي الديموقراطية.

تتمثل قصة اليسار غير الشيوعي منذ نهاية القرن التاسع عشر في قصة المعركة بين هاتين المجموعتين: الاشتراكيين الديموقراطيين والديمقراطيين الاشتراكيين. وتسبّبت النقاشات بينهما في تمزيق الكثير من الأحزاب الاشتراكية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ووصلت إلى نقاط حاسمة أثناء السنوات الواقعة بين الحربين العالميتين، عندما وقعت الديمقراطيات الأوروبية الجديدة المتشكلة في نهاية الحرب العالمية الأولى في أزمة، ما أجبر اليسار على مواجهة آرائه بشأن الرأسمالية والديموقراطية.

على رغم أن الأحزاب الاشتراكية كانت أكبر الأحزاب في معظم الدول الأوروبية بعد عام 1918، فقد ظل الاشتراكيون الديموقراطيون يرفضون الائتلافات مع الأحزاب “البرجوازية”، ما جعل تشكيل حكومة مستقرة أمراً بالغ الصعوبة. وحتى عندما بدأت الديموقراطية تتدهور، لم يعدل الاشتراكيون الديموقراطيون طريقتهم. ففي إيطاليا، على سبيل المثال، رفض الحزب الاشتراكي الإيطالي الانضمام إلى الحكومات على رغم كونه الحزب الأكبر، لقد وقف على مقربة بينما اشترك أكثر اليساريون راديكالية في أنشطة غير برلمانية (حتى لو كانت عنيفة)، وفي حزيران/ يونيو من عام 1922، عندما صوت برلمانيو الحزب لدعم القوى غير الاشتراكية الملتزمة بمكافحة الفاشية، فصلت القيادة “التعاونيين” collaborationists وتولى موسوليني السلطة في تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام.

وفي الوقت ذاته في ألمانيا، قبل الحزب الديمقراطي الاشتراكي المسؤولية الحاكمة، ولكن مع حدوث الكساد الأعظم، أقنعت الآراء الاشتراكية الديموقراطية الكثير من قيادات الحزب ومن بينهم أهم المنظرين الاقتصاديين لديهم وهو رودولف هيلفردينغ، بأنه لا يمكن عمل الكثير لتغيير “منطق” الرأسمالية. ساعد هذا الجمود على صعود النازيين إلى السلطة.

على الجانب الآخر، أكد الديمقراطيون الاشتراكيون أن الوقت قد حان لليساريين لإخضاع الدولة الديموقراطية واستغلالها في ترويض الرأسمالية. وصلت هذه الرؤية إلى أوجها في السويد، حينما بادر الحزب الديمقراطي الاشتراكي بالمحاولة المتفردة الأكثر طموحاً لإعادة تشكيل الرأسمالية من الداخل، مع ربطها باتجاه عبر الطبقات، يعد بتحويل البلاد إلى “وطن للشعب” سوف يستفيد من الغالبية الواسعة من المواطنين. وقد ساعد هذا الحزب الديموقراطي الاشتراكي على تشكيل ائتلاف أغلبية عام 1932 وبدء فترة من السيادة السياسية ربما لا تتوافق في أي مكان في العالم الديموقراطي الحديث.

أثناء السنوات الواقعة بين الحربين العالميتين، خسر الديمقراطيون الاشتراكيون عموماً المعركة على اليسار، ما عدا اسكندنافيا والسويد بشكل خاص، ولكن الأمر تغير بعد الحرب العالمية الثانية عندما التزمت الدول الديمقراطية بإدارة الرأسمالية. عندما بدأت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية إدارة الحكومات، أصبح قادتهم من التكنوقراط والمديرين، بعدما كانوا مفكرين وناشطين. وقد غابت عن الأذهان الكثير من الأفكار الأصلية التي تحدد الديمقراطية الاجتماعية- ومنها أن الإصلاحات كانت وسيلة لصنع مستقبل أفضل، وليست غايات في حد ذاتها، وأن الرأسمالية لها سلبياتها كما أن لها إيجابياتها.

“من المحتمل صنع عالم أفضل على نحو تدريجي”

بدأ نظام ما بعد الحرب الانحلال في سبعينات القرن العشرين، ما سهل ظهور الليبرالية الجديدة، التي يلومها الكثير من اليساريين على المشكلات السياسية والاقتصادية الموجودة اليوم لأنها حررت الأسواق من قيود فُرضت عليها بعد الحرب العالمية الثانية. وقد غضب يساريون كثيرون بسبب رضا الديمقراطيين الاشتراكيين واعتناق بعضهم لليبرالية الجديدة، ومن ثم فقد بدأوا العودة إلى الاشتراكية الديموقراطية سعياً وراء الإلهام.

ومجلة “جاكوبين” هي المجلة الممثلة لهذه المجموعة اليوم، كما تمثل ألكساندريا أوكاسيو- كورتيز تجسيداً لها.

على رغم أن الأعراف ليست وحدة واحدة أو غير قابلة للتغيير، فإن الاشتراكية الديموقراطية والديموقراطية الاشتراكية عملتا على نحو شديد التباين.

تتمثل قوة الديمقراطية الاجتماعية في واقعيتها والتفاؤل الذي قد ينشأ عن الاعتقاد بأنه من المحتمل صنع عالم أفضل على نحو تدريجي. وقد أدّى هذا لأن يكون الديمقراطيون الاجتماعيون في الفترة من نهايات القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين أبطالاً للديمقراطية ولدولة الرفاهية، وللكينزية وغيرها من السياسات التي روضت الرأسمالية ودعمت أكثر الفترات سلاماً وازدهاراً في التاريخ الغربي. ومن بين مناصريها اليوم ساسة مثل نائب الرئيس السابق جو بايدن والممثل كيث إليسون (عن ولاية مينيسوتا المقاطعة الخامسة). أما نقاط ضعفها فتتمثل في أن الديمقراطية الاشتراكية يمكنها أن تفقد رؤيتها على المدى الطويل وتنسى أن للرأسمالية سلبيات اقتصادية واجتماعية وسياسية. تقدم الحركات السياسية الناجحة رؤى ملهمة للمستقبل، وليس مجرد المزيد عن الحالة الراهنة.

تكمن نقاط قوة الاشتراكية الديموقراطية في المثالية والنشاط، الناجمين عن عدم الرضا الشديد عن الوضع الراهن. ويتمثل أنصارها في الوقت الحاضر في أشخاص مثل أوكاسيو كورتيز وجوليا سالازار، مرشحة مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك، التي أخبرت مجلة “جاكوبين” في حوار أجرته أخيراً، “ما من شك في أنه يتعين علينا توسيع شبكة الأمان الاجتماعي وتمويلها بشكل شامل، لكن إذا فعلنا ذلك من دون تغيير الهياكل الأكثر أساسية التي تُضعِف الناس وتبقيهم داخل إطار عبودية الأجر، فلن نشهد أبداً أي تغيير اجتماعي طويل الأمد”. وتكمن نقاط ضعف الاشتراكية الديمقراطية، كما قال برنشتاين منذ أكثر من قرن، في تجريدية رؤيتها وافتقارها إلى البراغماتية. كما لم توضح الحركة قط ما تعنيه الاشتراكية في الواقع أو كيفية تحقيقها. وإضافة إلى ذلك، أدت المثالية في كثير من الأحيان إلى التزمت والنزوع إلى تشويه هؤلاء الذين لا يوافقون، حتى على اليسار. وعلاوة على ذلك، أدى عدم تصديق إمكان تحسين الرأسمالية إلى دفع الاشتراكيين الديمقراطيين إلى الانتقاص من الإصلاحات.

إذا كانت الاشتراكية الديمقراطية ترنو إلى إحياء الحزب الديمقراطي، ينبغي أن تجيب على التساؤلات التي أفسدتها في الماضي. ما الذي يعنيه هدف حركة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين DSA في الواقع؟ وإذا كان إلغاء الرأسمالية هو الهدف، كما يقول معتنقوها، فكيف يمكن تحقيق النمو والكفاءة والابتكار التي تعد شروطاً أساسية لإعادة التوزيع؟ وإذا لم تتمكن الإصلاحات من خلق عالم أفضل، (“لا يرى الاشتراكيون الديمقراطيون في الوقت الحاضر إصلاحات إيجابية على الصعيد السياسي باعتبارها أمراً نقوم بتنسيقه لذلك اليوم، وبهذه الطريقة، ظهرت الاشتراكية”، كما كتب أحد الاشتراكيين الديمقراطيين على موقع فوكس)، إذاً، كيف يمكن تحقيق الاشتراكية؟ وهل تعتبر الديمقراطية، حتى عندما أصبحت معيبة، وسيلة أم غاية؟ وهل سيعطي الاشتراكيون الديمقراطيون الأولوية للديمقراطية إذا لم تتحقق الأصوات المرتبطة بـ “المستقبل الاشتراكي”؟ وهل سيتجنبون التنازلات والتحالفات الضرورية لحماية الديمقراطية؟

إن عدم رغبة جان لوك ميلونشون في دعم الرئيس إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إضافة إلى رفض بعض اليساريين الأميركيين دعم هيلاري كلينتون يتبادران إلى الأذهان، مثلما تتبادر رغبة بعض الاشتراكيين الديمقراطيين في التفكير بعيداً من الحزب الديمقراطي إلى أذهاننا. وهل سيقبل الاشتراكيون الديمقراطيون بالتنازلات وبناء الجسور اللازمة للفوز بالانتخابات؟ أم أن الحل الوسط، كما وصفته سالازار، يُعدّ مناقضاً للقتال الحقيقي “من أجل الطبقة العاملة والمهمشين؟”

حتى الآن، تمكن الاشتراكيون بفعالية من تعبئة الاستياء من خلال نقدهم الوضع الراهن. لكن الانتقادات غير المصحوبة بحلول قابلة للتطبيق لا تؤدي إلا إلى إثارة الغاضبين والمحبطين، إضافة إلى زيادة زعزعة الاستقرار كمحصلة نهائية محتملة. فإذا كانت الاشتراكية الديمقراطية هي القوة المحركة التي يحتاج إليها الحزب الديمقراطي – والديمقراطية الأميركية -، فسيتوجب عليها القيام بعمل أفضل في مواجهة هذه التساؤلات الصعبة.

الموضوع مترجم عن موقع صحيفة washingtonpost.com  ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط  التالي

إقرأ أيضاً:
أين هي السياسة الخارجية اليساريّة؟
ماركس لم يعد ماركسياً في ذكراه ال200
صراع ماركس ولينين في قبو معتم بحلب