fbpx

التاريخ  المُهمّش للتغيّر المناخي: الاستعمار أولاً ثم الثورة الصناعيّة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

غيّبت الرواية العلمية الرأسمالية كل تلك الإبادات البيئية التي تعرضت لها نظم بيئية كاملة جراء الأنظمة الاستعمارية وهي تكلف البشرية أثماناً باهظة لليوم، بالتالي نحن أمام رواية ناقصة لتاريخ تغير المناخ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لو تكّلمت السلاحف النهرية العملاقة في حوض نهر الأمازون عن سرقة بيوضها، لو نطقت النباتات في جزر الكاريبي وعبرت عن تعرضها للإبادة البيئية، ولو غنّى طيرا البطريق الكبير في الشمال الأطلسي والدودو في جزر المحيط الهندي وتحدثا عن حكايات انقراضهما على يد الأوروبيين، لحصلنا على رواية مختلفة عما نقرأه اليوم عن الغزو الأوروبي للعالم نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر. رواية عنوانها “الاستعمار”، تكشف تاريخاً عما يتداول عن بداية التغيّر المناخيّ وتدمير البيئة.

وجد الملاحون الأوروبيون أوائل القرن السابع عشر في نهر الأمازون مئات السلاحف النهرية العملاقة، أو الطفاشة، في قرى السكان الأصليين في أميركا الجنوبية. كانت أعداد السلاحف المتجمعة بالقرب من الشواطئ وفيرة بما يكفي لإعاقة حركة الملاحة في نهر ماديرا. وجود تلك الطفاشات كان كفيلاً بفتح شهية المُستعمرين، الذين تاجروا بلحوم السلاحف، وسرقوا بيوضها لتوليد الطاقة والغذاء.

يُعد استخراج الزيت من بيض السلاحف بغية الإضاءة والطهي اكتشافاً يوازي بأهميته اكتشاف القارة الأمريكية بعينها. فإنتاج ما يقارب مائتي رطل من الزيت عام 1719 في أعالي الأمازون فقط؛ كان علامة على انتصار عظيم للمستعمرين، لكنه قضى على حياة 24 مليون سلحفاة لم تخرج من البيض بعد. ووصف علماء الأحياء تلك الممارسة الجائرة بالقتل الافتراضي، كون السلحفاة لم تغادر البيضة بعد. 

استمر المستعمِرون في القضاء على هذا النوع من مجتمع السلاحف الأمازوني قبل الولادة، إلى أن أصبح  بيض هذه السلاحف صناعة مربحة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ كان يتم حصاد ما لا يقل عن 48 مليون بيضة سنوياً لتزويد صناعة الزيوت والأنوار في البيوت الأوروبية.

 تم القضاء على أعداد هائلة من السلاحف الطفاشة، ما ترك آثاراً مدمرة على التنوع الحيوي والنظام البيئي لمنطقة حوض الأمازون، التي تعاني إلى اليوم من التركة الاستعمارية الثقيلة، إذ يواجه هذا النوع من السلاحف اليوم خطر الانقراض في حوض الأمازون، والسبب، إضاءة أوروبا خلال الفترة الاستعماريّة.

 تم القضاء على أعداد هائلة من السلاحف الطفاشة، ما ترك آثاراً مدمرة على التنوع الحيوي والنظام البيئي لمنطقة حوض الأمازون.

تاريخ بلا تاريخ

أصبح من المألوف الإشارة الى الثورة الصناعية كلما تم التطرق إلى أسباب الاحترار العالمي، وكأن الطبيعة قبل اختراع المحرك البخاري في بريطانيا عام 1712، والذي نجم عنه العصر الصناعي في أوروبا والعالم، كانت بِكراً ولم تكن قد وصلت إليها يد الإنسان بعد! لكن هل يمكن تصديق هذه الرواية؟ وماذا بشأن تدمير نظم بيئية بأكملها قبل الاحترار العالمي؟

تتداخل ظاهرتا  “تغير المناخ” و”الاحترار العالمي” ضمن الرواية الرأسمالية، علماً أنهما مختلفتان في الحقيقة، إذ غيّر العلماء التسمية من “الاحترار العالمي” إلى “تغير المناخ”، ربما للتخفيف أو تشتيت الانتباه عن “الصناعة” ودورها في تدمير المناخ، وجعل المظلة اللغويّة تتسع لتشمل معظم الممارسات البشريّة، لا الصناعات الثقيلة التي تتهم الدول الاستعماريّة والدول المصدرة للنفط بالتسبب بها.

ما أصبح حقيقة لا جدل فيها، هو أن الإنسان لعب دوراً ملحوظاً في التغيرات الحاصلة على الأرض عبر إحراق المزيد من الوقود الأحفوري المتسبب بارتفاع درجة حرارة الأرض، لكن المفارقة تكمن بأن الرواية  الرأسماليّة تخلو من حديث عن تدهور بيئي قبل الثورة الصناعية، بما في ذلك القضاء على طفاشات الأمازون.

يشير كل من مصطلحي الاحترار العالمي وتغير المناخ إلى مشكلات معينة، مختلفة الأصل، إذ  يحيل مفهوم الاحترار العالمي إلى ارتفاع الحرارة في العالم على مدى البعيد، وتمت ملاحظته بداية في أواسط القرن التاسع عشر. يرتبط هذا المصطلح على وجه التحديد بالثورة الصناعية، التي أدت إلى الإفراط في استخدام الوقود الأحفوري، ما أدى إلى زيادة معدلات الكربون في الغلاف الجوي للأرض وارتفاع درجات الحرارة. 

في المقابل، يشير مصطلح تغير المناخ إلى تغيرات في مسارات الطقس، لا في معدلات الحرارة فقط. هذه التغيرات أصبحت ظاهرة للعيان على مستويات محلية وعالمية، لكنها في الوقت ذاته، تحتاج الى وقت طويل كي نشعر بآثارها والتدهور الناجم عنها في النظم البيئية المائية والبرّية.

 تبرز هنا مفارقة أخرى وهي حصول تدهور بيئي ناجم عن ممارسات استعمارية جائرة في الكثير من المناطق في العالم، قبل ظهور آثار تغير المناخ بقرنين؛ أي أن التدهور في النظم البيئية سبق الاحترار العالمي لا العكس كما تريد الأدبيات العلمية تسويقه.

يبدأ تاريخ الاحترار العالمي وفق الرواية الرسمية من القرن التاسع عشر، بعدما أدت الثورة الصناعية إلى انتشار المصانع حول العالم، ما أدى إلى ارتفاع تدريجي في حرارة الأرض. وتوصلت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) عام 2018 إلى نتيجة مفادها أن “الأنشطة البشرية تسببت في ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.0 درجة مئوية تقريباً فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي”. 

إخضاع الطبيعة جنوباً وشمالاً

يخبرنا المؤرخ البريطاني كريستوفر آلن بيلي عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي لعبت دوراً مهماً في تاريخ تطور العالم، على الأقل حتى عام 1830 تقريباً. وأهمها “تدجين الطبيعة”، الذي يتضح في الاستغلال المكثّف للأراضي الزراعية إلى حد القضاء على أنواع كثيرة من النباتات والحيوانات عبر تجارة الخشب، والفراء، واللحوم والقهوة. 

أدى هذا الاستغلال  إلى إنهاء الأشكال الزراعة التقليدية التي كانت تعيش وفقها الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية بقسميها الشمالي والجنوبي، وآسيا وأفريقيا. 

ما زالت مناطق كثيرة في العالم تدفع ضريبة مرحلة “إخضاع الطبيعة”، وما نتج عنها من التغيرات في الثقافة والأنماط الغذائية. ويمكن التطرق في هذا السياق إلى تجربة هاييتي في جزر بحر الكاريبي، إذ  كلّفها الاستقلال عام 1804 طبيعتها وأشجارها  ومزارع القهوة. ففي أعقاب الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، فُرض على البلاد دفع تعويضات قيمتها 150 مليون فرنك ذهبي لفرنسا (15 مليار يورو بسعر اليوم)، ولم تجد الدولة الوليدة طريقة لسداد هذا الدين الباهظ سوى قطع أشجار الغابات وتصدير الخشب إلى فرنسا.

قبل أن يكتشف كريستوفر كولومبس القارة الأميركية من قبل ، كانت الغابات الطبيعية تغطي 80 في المئة من مساحة هاييتي الإجمالية، مثل أشجار جوز الهند، الماهوجني، أشجار المانغو وأشجار التمر الهندي، فيما اليوم لا يتجاوز الغطاء النباتي 2 في المئة، أي أن هاييتي خسرت 98 في المئة من غاباتها خلال أقل من ثلاثة قرون. كان نزع هاييتي من موارده الطبيعية صورة واضحة عما حصل من تدمير النظم البيئية جراء الاستعمار.

شهد القسم الشمالي من القارة الأميركية إبادة بيئيّة مماثلة، إذ قُضي بالكامل على طائر البطريق الكبير، وأُزيل اسمه من قائمة الأنواع. عُرف ذلك الطائر العاجز عن الطيران بأجنحته القصيرة، وجسمه الممتلئ وجناحيه القصيرين، كان سباحاً ماهراً يمضي معظم حياته في البحار ويستطيع السباحة تحت المياه بعمق 200 متر، وتمشي أعداده الهائلة على الشواطئ أثناء التزاوج ووضع البيض نهاية الربيع وبداية الصيف في كل عام. قدرت أعداد هذا الطائر بالملايين على سواحل شمال المحيط الأطلسي، لكنه انقرض جراء صيد مفرط مارسه الصيادون الأوروبيون، تحديداً بعد اكتشاف القارة الأميركية. 

لم يكن البطريق الكبير مصدراً للحم الطازج واللذيذ للبحارة المستعمرين فقط، بل أصبح ريشه الناعم مصدراً لصناعة الوسائد العصرية في أوروبا، ناهيك بأن جسده مغطى بطبقة سميكة من الدهون الصالحة لجميع أنواع الوقود، ما كان يدفع بالصيادين إلى إحراقه أحياناً من أجل التدفئة في الشمال البارد. كتب المستعمر والملّاح البريطاني السير ريتشارد ويتبورن (1561 – 1635) عام 1622 عن هذا الطائر قائلاً: “كما لو أن الله قد جعل براءة هذا المخلوق الفقير أداة رائعة لإعالة الإنسان”. 

وثق الرحالة والمستكشف الفرنسي جاك كارتييه (1491-1557) في يوميات رحلاته إلى كندا، كيفية قتل ذاك الحيوان، إذ وصف كيف كانوا يأكلون قسماً منه ويضعون القسم الآخر في الزوارق بعد رشه بالملح، و”في أقل من نصف ساعة ملأنا زورقين به”.

كانت جزيرة فنك الصخرية الواقعة على الممر البحري بين أوروبا وأميركا، تستقطب أعداداً هائلة من البطريق الكبير، ما سهل إبادته. قتل آخر زوج من طيرنا المنقرض على يد صيادين آيسلنديين عام 1844 في إحدى جزر آيسلندا. 

وفي قلب المحيط الهندي، جنوب شرق مدغشقر في القارة السمراء، حدث الشيء ذاته مع طائر الدودو (الاسم العلمي: Raphus cucullatus) الذي انقرض بعد وصول الهولنديين والبرتغاليين إلى جزيرة موريشيوس. كان الدودو العاجز عن الطيران أيضاً، يعتمد في نظامه الغذائي على شجرة التمبالاكوك، والتي تسمى في المعجم المحلي بشجرة الدودو. ويعتقد علماء الأحياء انه كان يتغذى أيضاً على المكسرات، الفواكه، جذور النباتات والحشرات. 

وبحسب بعض علماء الأحياء، يعود فقدان القدرة على الطيران لدى طيور الدودو الى غياب حيوانات مفترسة طبيعية في موائلها الطبيعية، ما كان يسمح لها بوضع بيوضها في أي مكان. أدى التكيف مع الحياة بدون الطيران إلى سلسلة من التغييرات التكوينية في أجسامها مثل أجنحة صغيرة وذيل قصير. لم يختلف مصير طائر الدودو السمين الذي خانته القدرة على الطيران (10 إلى 22 كغم) عن مصير البطريق الكبير في الشمال الأطلسي، فهو أصبح فريسة سهلة للأوروبيين الأوائل الذي وصلوا إلى الجزيرة؛ ولم يبق منه سوى رأس ومنقار في المتاحف الأوروبية. 

تشير نصوص تاريخية إلى أن مستكشفين عرب وصلوا جزيرة موريشيوس قبل الأوروبيين في القرن السادس عشر، لكنهم لم يدونوا شيئاً بخصوص ذلك الطائر. تعود أول رواية موثقة عنه الى بحارة شركة الهند الشرقية الهولندية في عام 1601، وظهر الرسم الأول له بعد بضع سنوات. اختصاراً، كان وصول المستعمرين وشهيتهم المفتوحة للحوم، ناهيك بحيواناتهم الأليفة والأنواع الدخيلة التي دخلت معهم إلى الجزيرة، عوامل كفيلة بانقراض الطائر المغلوب على أمره وإزالة اسمه من سجلات التنوع الأحيائي في عام 1662. 

عود ثقاب

هذا غيض من فيض تدمير شامل للنظم البيئية والتنوع الأحيائي في جميع بقاع العالم، الشأن الذي لا يذكره إلا مؤرخون قلائل، بينما تشغل الأدبيات العلمية الأوساط الأكاديمية والإعلامية بإمكانية استعادة طائر الدودو مادام جيناته محفوظة في المختبرات والمتاحف. 

اختصاراً، كان غزو العالم على امتداد القرن السابع عشر، الثامن عشر والتاسع عشر، عتبة للعصر الصناعي وعود ثقاب يشعل الأرض على نار هادئة. فقبل التاريخ الرسمي للاحترار (1850)، كانت القوى الاستعمارية اللاهثة وراء المزيد من الثروات، تنقل الغذاء والخشب والجلود والزيت المستخرج من بيوض السلاحف إلى عواصمها وتُفقد نظم بيئية القدرة على تجديد دورتها الطبيعية كما في حالة هاييتي. 

قصارى القول، غيّبت الرواية العلمية الرأسمالية كل تلك الإبادات البيئية التي تعرضت لها نظم بيئية كاملة جراء الأنظمة الاستعمارية وهي تكلف البشرية أثماناً باهظة لليوم، بالتالي نحن أمام رواية ناقصة لتاريخ تغير المناخ. 

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 11.10.2024

ضغط عسكري على الشمال ومجازر في جنوبه… عدوان “إسرائيل” في غزة لا يتوقّف

يمارس الجيش الإسرائيلي ضغطاً عسكرياً على سكان المخيم بهدف دفعهم إلى النزوح لجنوب القطاع، تنفيذاً لما يُعرف بخطة "الجنرالات" التي وضعها اللواء الإسرائيلي المتقاعد غيورا إيلاند، والهادفة إلى إجلاء المدنيين بعد حصار محكم.

غيّبت الرواية العلمية الرأسمالية كل تلك الإبادات البيئية التي تعرضت لها نظم بيئية كاملة جراء الأنظمة الاستعمارية وهي تكلف البشرية أثماناً باهظة لليوم، بالتالي نحن أمام رواية ناقصة لتاريخ تغير المناخ.

لو تكّلمت السلاحف النهرية العملاقة في حوض نهر الأمازون عن سرقة بيوضها، لو نطقت النباتات في جزر الكاريبي وعبرت عن تعرضها للإبادة البيئية، ولو غنّى طيرا البطريق الكبير في الشمال الأطلسي والدودو في جزر المحيط الهندي وتحدثا عن حكايات انقراضهما على يد الأوروبيين، لحصلنا على رواية مختلفة عما نقرأه اليوم عن الغزو الأوروبي للعالم نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر. رواية عنوانها “الاستعمار”، تكشف تاريخاً عما يتداول عن بداية التغيّر المناخيّ وتدمير البيئة.

وجد الملاحون الأوروبيون أوائل القرن السابع عشر في نهر الأمازون مئات السلاحف النهرية العملاقة، أو الطفاشة، في قرى السكان الأصليين في أميركا الجنوبية. كانت أعداد السلاحف المتجمعة بالقرب من الشواطئ وفيرة بما يكفي لإعاقة حركة الملاحة في نهر ماديرا. وجود تلك الطفاشات كان كفيلاً بفتح شهية المُستعمرين، الذين تاجروا بلحوم السلاحف، وسرقوا بيوضها لتوليد الطاقة والغذاء.

يُعد استخراج الزيت من بيض السلاحف بغية الإضاءة والطهي اكتشافاً يوازي بأهميته اكتشاف القارة الأمريكية بعينها. فإنتاج ما يقارب مائتي رطل من الزيت عام 1719 في أعالي الأمازون فقط؛ كان علامة على انتصار عظيم للمستعمرين، لكنه قضى على حياة 24 مليون سلحفاة لم تخرج من البيض بعد. ووصف علماء الأحياء تلك الممارسة الجائرة بالقتل الافتراضي، كون السلحفاة لم تغادر البيضة بعد. 

استمر المستعمِرون في القضاء على هذا النوع من مجتمع السلاحف الأمازوني قبل الولادة، إلى أن أصبح  بيض هذه السلاحف صناعة مربحة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ كان يتم حصاد ما لا يقل عن 48 مليون بيضة سنوياً لتزويد صناعة الزيوت والأنوار في البيوت الأوروبية.

 تم القضاء على أعداد هائلة من السلاحف الطفاشة، ما ترك آثاراً مدمرة على التنوع الحيوي والنظام البيئي لمنطقة حوض الأمازون، التي تعاني إلى اليوم من التركة الاستعمارية الثقيلة، إذ يواجه هذا النوع من السلاحف اليوم خطر الانقراض في حوض الأمازون، والسبب، إضاءة أوروبا خلال الفترة الاستعماريّة.

 تم القضاء على أعداد هائلة من السلاحف الطفاشة، ما ترك آثاراً مدمرة على التنوع الحيوي والنظام البيئي لمنطقة حوض الأمازون.

تاريخ بلا تاريخ

أصبح من المألوف الإشارة الى الثورة الصناعية كلما تم التطرق إلى أسباب الاحترار العالمي، وكأن الطبيعة قبل اختراع المحرك البخاري في بريطانيا عام 1712، والذي نجم عنه العصر الصناعي في أوروبا والعالم، كانت بِكراً ولم تكن قد وصلت إليها يد الإنسان بعد! لكن هل يمكن تصديق هذه الرواية؟ وماذا بشأن تدمير نظم بيئية بأكملها قبل الاحترار العالمي؟

تتداخل ظاهرتا  “تغير المناخ” و”الاحترار العالمي” ضمن الرواية الرأسمالية، علماً أنهما مختلفتان في الحقيقة، إذ غيّر العلماء التسمية من “الاحترار العالمي” إلى “تغير المناخ”، ربما للتخفيف أو تشتيت الانتباه عن “الصناعة” ودورها في تدمير المناخ، وجعل المظلة اللغويّة تتسع لتشمل معظم الممارسات البشريّة، لا الصناعات الثقيلة التي تتهم الدول الاستعماريّة والدول المصدرة للنفط بالتسبب بها.

ما أصبح حقيقة لا جدل فيها، هو أن الإنسان لعب دوراً ملحوظاً في التغيرات الحاصلة على الأرض عبر إحراق المزيد من الوقود الأحفوري المتسبب بارتفاع درجة حرارة الأرض، لكن المفارقة تكمن بأن الرواية  الرأسماليّة تخلو من حديث عن تدهور بيئي قبل الثورة الصناعية، بما في ذلك القضاء على طفاشات الأمازون.

يشير كل من مصطلحي الاحترار العالمي وتغير المناخ إلى مشكلات معينة، مختلفة الأصل، إذ  يحيل مفهوم الاحترار العالمي إلى ارتفاع الحرارة في العالم على مدى البعيد، وتمت ملاحظته بداية في أواسط القرن التاسع عشر. يرتبط هذا المصطلح على وجه التحديد بالثورة الصناعية، التي أدت إلى الإفراط في استخدام الوقود الأحفوري، ما أدى إلى زيادة معدلات الكربون في الغلاف الجوي للأرض وارتفاع درجات الحرارة. 

في المقابل، يشير مصطلح تغير المناخ إلى تغيرات في مسارات الطقس، لا في معدلات الحرارة فقط. هذه التغيرات أصبحت ظاهرة للعيان على مستويات محلية وعالمية، لكنها في الوقت ذاته، تحتاج الى وقت طويل كي نشعر بآثارها والتدهور الناجم عنها في النظم البيئية المائية والبرّية.

 تبرز هنا مفارقة أخرى وهي حصول تدهور بيئي ناجم عن ممارسات استعمارية جائرة في الكثير من المناطق في العالم، قبل ظهور آثار تغير المناخ بقرنين؛ أي أن التدهور في النظم البيئية سبق الاحترار العالمي لا العكس كما تريد الأدبيات العلمية تسويقه.

يبدأ تاريخ الاحترار العالمي وفق الرواية الرسمية من القرن التاسع عشر، بعدما أدت الثورة الصناعية إلى انتشار المصانع حول العالم، ما أدى إلى ارتفاع تدريجي في حرارة الأرض. وتوصلت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) عام 2018 إلى نتيجة مفادها أن “الأنشطة البشرية تسببت في ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.0 درجة مئوية تقريباً فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي”. 

إخضاع الطبيعة جنوباً وشمالاً

يخبرنا المؤرخ البريطاني كريستوفر آلن بيلي عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي لعبت دوراً مهماً في تاريخ تطور العالم، على الأقل حتى عام 1830 تقريباً. وأهمها “تدجين الطبيعة”، الذي يتضح في الاستغلال المكثّف للأراضي الزراعية إلى حد القضاء على أنواع كثيرة من النباتات والحيوانات عبر تجارة الخشب، والفراء، واللحوم والقهوة. 

أدى هذا الاستغلال  إلى إنهاء الأشكال الزراعة التقليدية التي كانت تعيش وفقها الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية بقسميها الشمالي والجنوبي، وآسيا وأفريقيا. 

ما زالت مناطق كثيرة في العالم تدفع ضريبة مرحلة “إخضاع الطبيعة”، وما نتج عنها من التغيرات في الثقافة والأنماط الغذائية. ويمكن التطرق في هذا السياق إلى تجربة هاييتي في جزر بحر الكاريبي، إذ  كلّفها الاستقلال عام 1804 طبيعتها وأشجارها  ومزارع القهوة. ففي أعقاب الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، فُرض على البلاد دفع تعويضات قيمتها 150 مليون فرنك ذهبي لفرنسا (15 مليار يورو بسعر اليوم)، ولم تجد الدولة الوليدة طريقة لسداد هذا الدين الباهظ سوى قطع أشجار الغابات وتصدير الخشب إلى فرنسا.

قبل أن يكتشف كريستوفر كولومبس القارة الأميركية من قبل ، كانت الغابات الطبيعية تغطي 80 في المئة من مساحة هاييتي الإجمالية، مثل أشجار جوز الهند، الماهوجني، أشجار المانغو وأشجار التمر الهندي، فيما اليوم لا يتجاوز الغطاء النباتي 2 في المئة، أي أن هاييتي خسرت 98 في المئة من غاباتها خلال أقل من ثلاثة قرون. كان نزع هاييتي من موارده الطبيعية صورة واضحة عما حصل من تدمير النظم البيئية جراء الاستعمار.

شهد القسم الشمالي من القارة الأميركية إبادة بيئيّة مماثلة، إذ قُضي بالكامل على طائر البطريق الكبير، وأُزيل اسمه من قائمة الأنواع. عُرف ذلك الطائر العاجز عن الطيران بأجنحته القصيرة، وجسمه الممتلئ وجناحيه القصيرين، كان سباحاً ماهراً يمضي معظم حياته في البحار ويستطيع السباحة تحت المياه بعمق 200 متر، وتمشي أعداده الهائلة على الشواطئ أثناء التزاوج ووضع البيض نهاية الربيع وبداية الصيف في كل عام. قدرت أعداد هذا الطائر بالملايين على سواحل شمال المحيط الأطلسي، لكنه انقرض جراء صيد مفرط مارسه الصيادون الأوروبيون، تحديداً بعد اكتشاف القارة الأميركية. 

لم يكن البطريق الكبير مصدراً للحم الطازج واللذيذ للبحارة المستعمرين فقط، بل أصبح ريشه الناعم مصدراً لصناعة الوسائد العصرية في أوروبا، ناهيك بأن جسده مغطى بطبقة سميكة من الدهون الصالحة لجميع أنواع الوقود، ما كان يدفع بالصيادين إلى إحراقه أحياناً من أجل التدفئة في الشمال البارد. كتب المستعمر والملّاح البريطاني السير ريتشارد ويتبورن (1561 – 1635) عام 1622 عن هذا الطائر قائلاً: “كما لو أن الله قد جعل براءة هذا المخلوق الفقير أداة رائعة لإعالة الإنسان”. 

وثق الرحالة والمستكشف الفرنسي جاك كارتييه (1491-1557) في يوميات رحلاته إلى كندا، كيفية قتل ذاك الحيوان، إذ وصف كيف كانوا يأكلون قسماً منه ويضعون القسم الآخر في الزوارق بعد رشه بالملح، و”في أقل من نصف ساعة ملأنا زورقين به”.

كانت جزيرة فنك الصخرية الواقعة على الممر البحري بين أوروبا وأميركا، تستقطب أعداداً هائلة من البطريق الكبير، ما سهل إبادته. قتل آخر زوج من طيرنا المنقرض على يد صيادين آيسلنديين عام 1844 في إحدى جزر آيسلندا. 

وفي قلب المحيط الهندي، جنوب شرق مدغشقر في القارة السمراء، حدث الشيء ذاته مع طائر الدودو (الاسم العلمي: Raphus cucullatus) الذي انقرض بعد وصول الهولنديين والبرتغاليين إلى جزيرة موريشيوس. كان الدودو العاجز عن الطيران أيضاً، يعتمد في نظامه الغذائي على شجرة التمبالاكوك، والتي تسمى في المعجم المحلي بشجرة الدودو. ويعتقد علماء الأحياء انه كان يتغذى أيضاً على المكسرات، الفواكه، جذور النباتات والحشرات. 

وبحسب بعض علماء الأحياء، يعود فقدان القدرة على الطيران لدى طيور الدودو الى غياب حيوانات مفترسة طبيعية في موائلها الطبيعية، ما كان يسمح لها بوضع بيوضها في أي مكان. أدى التكيف مع الحياة بدون الطيران إلى سلسلة من التغييرات التكوينية في أجسامها مثل أجنحة صغيرة وذيل قصير. لم يختلف مصير طائر الدودو السمين الذي خانته القدرة على الطيران (10 إلى 22 كغم) عن مصير البطريق الكبير في الشمال الأطلسي، فهو أصبح فريسة سهلة للأوروبيين الأوائل الذي وصلوا إلى الجزيرة؛ ولم يبق منه سوى رأس ومنقار في المتاحف الأوروبية. 

تشير نصوص تاريخية إلى أن مستكشفين عرب وصلوا جزيرة موريشيوس قبل الأوروبيين في القرن السادس عشر، لكنهم لم يدونوا شيئاً بخصوص ذلك الطائر. تعود أول رواية موثقة عنه الى بحارة شركة الهند الشرقية الهولندية في عام 1601، وظهر الرسم الأول له بعد بضع سنوات. اختصاراً، كان وصول المستعمرين وشهيتهم المفتوحة للحوم، ناهيك بحيواناتهم الأليفة والأنواع الدخيلة التي دخلت معهم إلى الجزيرة، عوامل كفيلة بانقراض الطائر المغلوب على أمره وإزالة اسمه من سجلات التنوع الأحيائي في عام 1662. 

عود ثقاب

هذا غيض من فيض تدمير شامل للنظم البيئية والتنوع الأحيائي في جميع بقاع العالم، الشأن الذي لا يذكره إلا مؤرخون قلائل، بينما تشغل الأدبيات العلمية الأوساط الأكاديمية والإعلامية بإمكانية استعادة طائر الدودو مادام جيناته محفوظة في المختبرات والمتاحف. 

اختصاراً، كان غزو العالم على امتداد القرن السابع عشر، الثامن عشر والتاسع عشر، عتبة للعصر الصناعي وعود ثقاب يشعل الأرض على نار هادئة. فقبل التاريخ الرسمي للاحترار (1850)، كانت القوى الاستعمارية اللاهثة وراء المزيد من الثروات، تنقل الغذاء والخشب والجلود والزيت المستخرج من بيوض السلاحف إلى عواصمها وتُفقد نظم بيئية القدرة على تجديد دورتها الطبيعية كما في حالة هاييتي. 

قصارى القول، غيّبت الرواية العلمية الرأسمالية كل تلك الإبادات البيئية التي تعرضت لها نظم بيئية كاملة جراء الأنظمة الاستعمارية وهي تكلف البشرية أثماناً باهظة لليوم، بالتالي نحن أمام رواية ناقصة لتاريخ تغير المناخ.