fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

التهمة “بوست على فايسبوك”… أحمد ورفاقه من قاعات الدرس إلى السجون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اﻷجهزة اﻷمنية في مصر لديها شك عميق تجاه العمل البحثي ونواياه وأغراضه الحقيقية. ربما يكون السبب أن هذه اﻷجهزة يغلب عليها الطابع الاستخباراتي أكثر من أي جانب آخر للعمل اﻷمني.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ربما يستشعر جسده الوهن، وهو يرقد اﻵن في مستشفى السجن، ولكن أحمد سمير سنطاوي لا يزال يمتلك تلك اﻹرادة القوية التي مكنته من الاستمرار في اﻹضراب التام عن الطعام والشراب- عدا المياه- قبل أن تتدهور صحته إلى حد اضطرت معه إدارة السجن إلى نقله إلى المستشفى.

بدأ سنطاوي إضرابه في أعقاب صدور حكم ضده بالحبس أربع سنوات وغرامة قدرها 500 جنيه. الحكم أصدرته محكمة جنح أمن الدولة العليا- طوارئ في القاهرة الجديدة، وهي محكمة استثنائية، تعمل في ظل حالة الطوارئ المفروضة في مصر منذ سنوات، ويستمر تجديدها من خلال تلاعب مفضوح بمقاصد مواد الدستور التي تنظمها. 

أحكام محاكم أمن الدولة العليا طوارئ لا سبيل لاستئنافها أو نقضها من خلال أي محكمة أخرى، ومن ثم فالسبيل الوحيد كي لا ينفذ سمير الحكم الصادر ضده هو أن يصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي عفواً رئاسياً عن تنفيذ العقوبة لصالحه.

أحمد سمير سنطاوي، كان يدرس لنيل درجة الماجستير بالجامعة المركزية اﻷوروبية في العاصمة النمساوية فيينا. عاد سمير إلى مصر في إجازة لزيارة عائلته. داهمت قوة أمنية منزل أسرته في القاهرة، ولأنه لم يكن بالمنزل حينها أبلغوا أسرته باستدعائه لمكتب اﻷمن الوطني في قسم التجمع الخامس. وعلى رغم أن هذا الاستدعاء غير قانوني من اﻷساس، إذ إن قطاع اﻷمن الوطني ليس جهة تحقيق، إلا أن تلك ممارسة معتادة، ولا يملك من يتم استدعاؤه بهذه الطريقة إلا الاستجابة لتجنب القبض عليه أو خطفه. ومن ثم فقد توجه سمير إلى قسم التجمع الخامس في اﻷول من شباط/ فبراير 2020.

 لم يعد أحمد سمير إلى منزله وانقطعت أخباره عن عائلته ومحاميه طوال أيام أمضاها رهن الاختفاء القسري، قبل أن يظهر أمام نيابة أمن الدولة، على ذمة القضية رقم 65 لسنة 2021، ووجهت النيابة إليه قائمة الاتهامات المعتادة؛ نشر أخبار وبيانات كاذبة من شأنها الإضرار باﻷمن القومي، والانضمام إلى جماعة إرهابية مع العلم بأغراضها، قبل أن تأمر بحبسه 15 يوماً. وكالعادة أيضاً استمر تجديد حبس سمير احتياطياً على ذمة التحقيق في القضية المذكورة حتى اليوم.

القضية رقم 877

المختلف في حالة سمير هو أنه إضافة إلى القضية اﻷولى تم اتهامه في قضية جديدة برقم 877 لسنة 2021. أحيلت هذه القضية إلى محكمة جنح أمن الدولة العليا طوارئ، التي أدانت سمير بتهمة نشر أخبار كاذبة في الخارج والداخل. الاتهام اعتمد على صورة ضوئية لمنشور على حساب في أحد مواقع التواصل، أنكر سمير صلته به، ولم يتمكن الادعاء من الوصول إلى الحساب الإلكتروني نفسه لإثبات نسبته إلى سنطاوي. 

المحكمة مع ذلك أدانت سمير بالاتهام الذي يبدو أنه قد اختير خصيصاً لتغليظ العقوبة، في حين أن عقوبة نشر أخبار كاذبة بالداخل هي الحبس لمدة لا تزيد عن سنة ونصف السنة، أمضى سمير بالفعل معظمها، فعقوبة نشر أخبار كاذبة في الخارج تصل إلى خمس سنوات.

يشير تتابع الأحداث منذ القبض على سنطاوي وحتى صدور الحكم ضده إلى أن القضية الثانية قد اختلقت من عدم بغرض التعجيل بحبسه تنفيذاً لحكم نهائي. 

وقياساً إلى عدد المحبوسين احتياطيا على ذمة عشرات بل مئات القضايا ولفترات قد طالت ﻷعوام، فهذه حالة تعتبر نادرة. لكن الدلالة الأهم في هذه القضية هو إضافة إلى ثقل الحكم ووطأة الظلم البين الذي تعرض له سمير، هو احتمال كونها مؤشراً لتغيير في سياسات الأجهزة اﻷمنية يتجه إلى إحالة عدد من المعتقلين السياسيين المحبوسين احتياطياً إلى محاكمات شبيهة باستصدار أحكام بالحبس والسجن ضدهم، كبديل عن عمليات التجديد الدوري للحبس الاحتياطي المستخدمة حالياً. وربما يكون الغرض من هذه السياسة الجديدة هو فرز عدد من المعتقلين الذين لا ترغب اﻷجهزة اﻷمنية في إتاحة فرصة إطلاق سراحهم في إطار أي إجراءات تنوي القيادة السياسية اتخاذها في المدى القريب لتحسين صورة ملفها الحقوقي.

ليس سمير بالطبع الوحيد أو اﻷول على قائمة الباحثين اﻷكاديميين الذين قطع اعتقالهم طريق استكمالهم دراستهم في الخارج، المثال اﻷقرب هو باتريك جورج زكي، الباحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والذي كان يدرس لنيل درجة الماجستير بجامعة بولونيا اﻹيطالية. مثل سمير كان باتريك في طريق عودته إلى مصر ليمضي إجازته مع عائلته، فتم توقيفه في مطار القاهرة، قبل أن يختفي أياماً، ثم يظهر أمام نيابة أمن الدولة متهماً بالقائمة المعتادة من الاتهامات، ويدخل في الدوامة اللانهائية من تجديدات حبسه احتياطياً. ومثل سمير أيضاً لم تفلح المطالبات المتوالية الداخلية والخارجية بإطلاق سراح باتريك.

إقرأوا أيضاً:

الباحثان، حصلت قضاياهما على قدر لافت من الاهتمام الخارجي، ما ينبغي أن يشكل نوعاً من الضغط على السلطات المصرية، مقابل حرص اﻷخيرة على استبقائهما محبوسين على رغم هذا الضغط، وهو حرص يصعب تفسيره. فقبل أي شيء لا يمكن القول إن اﻷجهزة اﻷمنية على قناعة بصحة الاتهامات الموجهة إليهما أو بخطورتها. وليس ﻷيهما نشاط معاد للنظام، حتى مع اعتبار أن عمل باتريك في منظمة حقوقية يضعه في فئة يعتبرها النظام مزعجة، وهي بالفعل مستهدفة بالملاحقة القانونية، وثمة أفراد منها محبوسون بالفعل. ولكن وفق شواهد مختلفة يمكن استبعاد أن يكون باتريك قد استهدف بسبب نشاطه الحقوقي، على اﻷقل ﻷن هذا النشاط قد توقف طوال فترة انشغاله بالدراسة.

تصنيف سمير وباتريك كمعارضين  لا يكفي في حد ذاته لتفسير اعتقالهما أو الحرص على تمديد حبسهما. بعبارة أخرى لا بد أن ثمة سبباً إضافياً لاعتبار سمير وباتريك يمثلان خطراً يستحق في نظر اﻷجهزة اﻷمنية العمل على إبعادهما خلف القضبان ﻷطول فترة ممكنة، ويبدو أن هذا السبب لا يمكن إلا أن يكون أنهما باحثان يدرسان في الخارج. 

اعتقال سمير وباتريك يذكر بقضية الباحث اﻹيطالي جوليو ريجيني، الذي لقي حتفه تحت وطأة التعذيب بعدما خطفته اﻷجهزة اﻷمنية في مصر، كمؤشر على استهداف تلك اﻷجهزة الباحثين اﻷكاديميين عموماً. وإذا وضعنا هذه الوقائع المختلفة إلى جانب غيرها، وبصفة خاصة التدخل الأمني في العمل اﻷكاديمي في مصر، وتضييق الخناق على البحث الميداني خصوصاً، فيمكننا أن نتبين صورة أشمل لتخوف أمني منهجي من البحث اﻷكاديمي.

التفسير اﻷقرب دائماً إلى تصور الهاجس اﻷمني تجاه البحث اﻷكاديمي هو حرص الدولة  على تحجيم المتاح من المعلومات. الدولة دائماً لديها ما تخفيه ولا ترغب في إذاعته ونشره. 

اﻷجهزة اﻷمنية في مصر لديها  شك عميق تجاه العمل البحثي ونواياه وأغراضه الحقيقية. ربما يكون السبب أن هذه اﻷجهزة يغلب عليها الطابع الاستخباراتي أكثر من أي جانب آخر للعمل اﻷمني. ومن ثم يكاد العمل في مجال جمع المعلومات بأي صورة من الصور يندرج بالنسبة إليها حصراً تحت تصنيف الاستخبارات، بشكل مباشر أو غير مباشر.

 بالنسبة إلى الأنف اﻷمني ثمة دائماً رائحة مريبة تفوح من أي عمل بحثي يتعقب المعلومات في أي مجال. صحيح بالطبع أن ذلك في أحيان كثيرة يكون بسبب أن بعض المعلومات قد يسبب كشفه حرجاً للنظام، إما لتعلقه بمظاهر فشله أو بخفايا فساده. ولكن تشكك اﻷجهزة اﻷمنية في العمل البحثي يتخطى ما لا ترغب في كشفه إلى الاعتقاد بأن ثمة دائماً أغراضاً خفية وراء أكثر مجالات البحث براءة في ظاهرها. 

هواجس

أن يكونا ضحيتين لهاجس أمني لا يستند إلى أدلة ملموسة لا يجعل من سمير أو باتريك استثناء. الحقيقة أن السجون المصرية تكتظ بآلاف المعتقلين بسبب هواجس أمنية، بعضها لا يرقى إلى الشك في ارتكاب المعتقل ﻷي جريمة وإنما يتعلق باحتمال أن يشكل نشاطه المستقبلي في حال كان حراً، خطراً على النظام، حتى وإن كان هذا النشاط الافتراضي في حقيقته لا يمثل أي جريمة وفق القانون. 

في كل مكان من عالمنا تعمل أجهزة أمنية لها الهواجس ذاتها، في ظل اﻷنظمة القمعية وحدها، التي لا تقيم وزناً للقانون أو لحقوق مواطنيها، تمتلك هذه المساحة من حرية تحويل هواجسها إلى مبرر كاف لتجريد الناس من حريتهم، وتعريضهم للتعذيب وإساءة المعاملة والعيش في ظروف منافية للكرامة واﻹنسانية وتعرض حياتهم وسلامتهم للخطر. 

ما يختلف في حالة سمير وباتريك وغيرهما من الباحثين الذين تعصف بحياتهم ومستقبلهم هواجس آلة القمع، أنه إضافة إلى ما يتعرضون له كأشخاص من انتهاكات، فإن جانباً مهماً من ضرورات الحياة ﻷي مجتمع في عصرنا هذا، يتم سحقه وتدميره. لا يمكن بأي حال إغفال أن أحد العوامل الرئيسية لتدهور الحياة اﻷكاديمية في مصر هو التدخل الأمني الغشيم فيها الذي بدأ منذ عقود، وتزايد بصفة مستمرة وهو اليوم قد بلغ حداً غير مسبوق. وبامتداد هذا التضييق إلى الباحثين الذين يسعون إلى استكمال دراساتهم العليا في الخارج، فإن متنفساً مهماً للحياة اﻷكاديمية كان يبقي على حد أدنى من استمرارية تقدمها، أصبح اليوم مهدداً بالقضاء عليه.

قضية أحمد سمير سنطاوي هي بالتأكيد في ذاتها نموذج صارخ لقمع أعمى يسحق حياة إنسان من دون أن يرتكب ذنباً يستحق معه أن تتحطم أحلامه البسيطة أو تتعرض حياته للخطر، ولكنها أيضاً ومن دون أي تقليل من أهمية المأساة الشخصية وفداحتها، تمثل نافذة صغيرة نطلع من خلالها على الكيفية التي يدمر بها القمع مستقبل المجتمع بأكمله. إذا كان القمع يُسوَق لقبوله يومياً بحجة الحفاظ على اﻷمن القومي، واستمرارية الدولة، وحماية الوطن، فالحقيقة أنه يمثل في ذاته الخطر اﻷكثر تهديداً للأمن والدولة والوطن.

إقرأوا أيضاً:

12.07.2021
زمن القراءة: 6 minutes

اﻷجهزة اﻷمنية في مصر لديها شك عميق تجاه العمل البحثي ونواياه وأغراضه الحقيقية. ربما يكون السبب أن هذه اﻷجهزة يغلب عليها الطابع الاستخباراتي أكثر من أي جانب آخر للعمل اﻷمني.

ربما يستشعر جسده الوهن، وهو يرقد اﻵن في مستشفى السجن، ولكن أحمد سمير سنطاوي لا يزال يمتلك تلك اﻹرادة القوية التي مكنته من الاستمرار في اﻹضراب التام عن الطعام والشراب- عدا المياه- قبل أن تتدهور صحته إلى حد اضطرت معه إدارة السجن إلى نقله إلى المستشفى.

بدأ سنطاوي إضرابه في أعقاب صدور حكم ضده بالحبس أربع سنوات وغرامة قدرها 500 جنيه. الحكم أصدرته محكمة جنح أمن الدولة العليا- طوارئ في القاهرة الجديدة، وهي محكمة استثنائية، تعمل في ظل حالة الطوارئ المفروضة في مصر منذ سنوات، ويستمر تجديدها من خلال تلاعب مفضوح بمقاصد مواد الدستور التي تنظمها. 

أحكام محاكم أمن الدولة العليا طوارئ لا سبيل لاستئنافها أو نقضها من خلال أي محكمة أخرى، ومن ثم فالسبيل الوحيد كي لا ينفذ سمير الحكم الصادر ضده هو أن يصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي عفواً رئاسياً عن تنفيذ العقوبة لصالحه.

أحمد سمير سنطاوي، كان يدرس لنيل درجة الماجستير بالجامعة المركزية اﻷوروبية في العاصمة النمساوية فيينا. عاد سمير إلى مصر في إجازة لزيارة عائلته. داهمت قوة أمنية منزل أسرته في القاهرة، ولأنه لم يكن بالمنزل حينها أبلغوا أسرته باستدعائه لمكتب اﻷمن الوطني في قسم التجمع الخامس. وعلى رغم أن هذا الاستدعاء غير قانوني من اﻷساس، إذ إن قطاع اﻷمن الوطني ليس جهة تحقيق، إلا أن تلك ممارسة معتادة، ولا يملك من يتم استدعاؤه بهذه الطريقة إلا الاستجابة لتجنب القبض عليه أو خطفه. ومن ثم فقد توجه سمير إلى قسم التجمع الخامس في اﻷول من شباط/ فبراير 2020.

 لم يعد أحمد سمير إلى منزله وانقطعت أخباره عن عائلته ومحاميه طوال أيام أمضاها رهن الاختفاء القسري، قبل أن يظهر أمام نيابة أمن الدولة، على ذمة القضية رقم 65 لسنة 2021، ووجهت النيابة إليه قائمة الاتهامات المعتادة؛ نشر أخبار وبيانات كاذبة من شأنها الإضرار باﻷمن القومي، والانضمام إلى جماعة إرهابية مع العلم بأغراضها، قبل أن تأمر بحبسه 15 يوماً. وكالعادة أيضاً استمر تجديد حبس سمير احتياطياً على ذمة التحقيق في القضية المذكورة حتى اليوم.

القضية رقم 877

المختلف في حالة سمير هو أنه إضافة إلى القضية اﻷولى تم اتهامه في قضية جديدة برقم 877 لسنة 2021. أحيلت هذه القضية إلى محكمة جنح أمن الدولة العليا طوارئ، التي أدانت سمير بتهمة نشر أخبار كاذبة في الخارج والداخل. الاتهام اعتمد على صورة ضوئية لمنشور على حساب في أحد مواقع التواصل، أنكر سمير صلته به، ولم يتمكن الادعاء من الوصول إلى الحساب الإلكتروني نفسه لإثبات نسبته إلى سنطاوي. 

المحكمة مع ذلك أدانت سمير بالاتهام الذي يبدو أنه قد اختير خصيصاً لتغليظ العقوبة، في حين أن عقوبة نشر أخبار كاذبة بالداخل هي الحبس لمدة لا تزيد عن سنة ونصف السنة، أمضى سمير بالفعل معظمها، فعقوبة نشر أخبار كاذبة في الخارج تصل إلى خمس سنوات.

يشير تتابع الأحداث منذ القبض على سنطاوي وحتى صدور الحكم ضده إلى أن القضية الثانية قد اختلقت من عدم بغرض التعجيل بحبسه تنفيذاً لحكم نهائي. 

وقياساً إلى عدد المحبوسين احتياطيا على ذمة عشرات بل مئات القضايا ولفترات قد طالت ﻷعوام، فهذه حالة تعتبر نادرة. لكن الدلالة الأهم في هذه القضية هو إضافة إلى ثقل الحكم ووطأة الظلم البين الذي تعرض له سمير، هو احتمال كونها مؤشراً لتغيير في سياسات الأجهزة اﻷمنية يتجه إلى إحالة عدد من المعتقلين السياسيين المحبوسين احتياطياً إلى محاكمات شبيهة باستصدار أحكام بالحبس والسجن ضدهم، كبديل عن عمليات التجديد الدوري للحبس الاحتياطي المستخدمة حالياً. وربما يكون الغرض من هذه السياسة الجديدة هو فرز عدد من المعتقلين الذين لا ترغب اﻷجهزة اﻷمنية في إتاحة فرصة إطلاق سراحهم في إطار أي إجراءات تنوي القيادة السياسية اتخاذها في المدى القريب لتحسين صورة ملفها الحقوقي.

ليس سمير بالطبع الوحيد أو اﻷول على قائمة الباحثين اﻷكاديميين الذين قطع اعتقالهم طريق استكمالهم دراستهم في الخارج، المثال اﻷقرب هو باتريك جورج زكي، الباحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والذي كان يدرس لنيل درجة الماجستير بجامعة بولونيا اﻹيطالية. مثل سمير كان باتريك في طريق عودته إلى مصر ليمضي إجازته مع عائلته، فتم توقيفه في مطار القاهرة، قبل أن يختفي أياماً، ثم يظهر أمام نيابة أمن الدولة متهماً بالقائمة المعتادة من الاتهامات، ويدخل في الدوامة اللانهائية من تجديدات حبسه احتياطياً. ومثل سمير أيضاً لم تفلح المطالبات المتوالية الداخلية والخارجية بإطلاق سراح باتريك.

إقرأوا أيضاً:

الباحثان، حصلت قضاياهما على قدر لافت من الاهتمام الخارجي، ما ينبغي أن يشكل نوعاً من الضغط على السلطات المصرية، مقابل حرص اﻷخيرة على استبقائهما محبوسين على رغم هذا الضغط، وهو حرص يصعب تفسيره. فقبل أي شيء لا يمكن القول إن اﻷجهزة اﻷمنية على قناعة بصحة الاتهامات الموجهة إليهما أو بخطورتها. وليس ﻷيهما نشاط معاد للنظام، حتى مع اعتبار أن عمل باتريك في منظمة حقوقية يضعه في فئة يعتبرها النظام مزعجة، وهي بالفعل مستهدفة بالملاحقة القانونية، وثمة أفراد منها محبوسون بالفعل. ولكن وفق شواهد مختلفة يمكن استبعاد أن يكون باتريك قد استهدف بسبب نشاطه الحقوقي، على اﻷقل ﻷن هذا النشاط قد توقف طوال فترة انشغاله بالدراسة.

تصنيف سمير وباتريك كمعارضين  لا يكفي في حد ذاته لتفسير اعتقالهما أو الحرص على تمديد حبسهما. بعبارة أخرى لا بد أن ثمة سبباً إضافياً لاعتبار سمير وباتريك يمثلان خطراً يستحق في نظر اﻷجهزة اﻷمنية العمل على إبعادهما خلف القضبان ﻷطول فترة ممكنة، ويبدو أن هذا السبب لا يمكن إلا أن يكون أنهما باحثان يدرسان في الخارج. 

اعتقال سمير وباتريك يذكر بقضية الباحث اﻹيطالي جوليو ريجيني، الذي لقي حتفه تحت وطأة التعذيب بعدما خطفته اﻷجهزة اﻷمنية في مصر، كمؤشر على استهداف تلك اﻷجهزة الباحثين اﻷكاديميين عموماً. وإذا وضعنا هذه الوقائع المختلفة إلى جانب غيرها، وبصفة خاصة التدخل الأمني في العمل اﻷكاديمي في مصر، وتضييق الخناق على البحث الميداني خصوصاً، فيمكننا أن نتبين صورة أشمل لتخوف أمني منهجي من البحث اﻷكاديمي.

التفسير اﻷقرب دائماً إلى تصور الهاجس اﻷمني تجاه البحث اﻷكاديمي هو حرص الدولة  على تحجيم المتاح من المعلومات. الدولة دائماً لديها ما تخفيه ولا ترغب في إذاعته ونشره. 

اﻷجهزة اﻷمنية في مصر لديها  شك عميق تجاه العمل البحثي ونواياه وأغراضه الحقيقية. ربما يكون السبب أن هذه اﻷجهزة يغلب عليها الطابع الاستخباراتي أكثر من أي جانب آخر للعمل اﻷمني. ومن ثم يكاد العمل في مجال جمع المعلومات بأي صورة من الصور يندرج بالنسبة إليها حصراً تحت تصنيف الاستخبارات، بشكل مباشر أو غير مباشر.

 بالنسبة إلى الأنف اﻷمني ثمة دائماً رائحة مريبة تفوح من أي عمل بحثي يتعقب المعلومات في أي مجال. صحيح بالطبع أن ذلك في أحيان كثيرة يكون بسبب أن بعض المعلومات قد يسبب كشفه حرجاً للنظام، إما لتعلقه بمظاهر فشله أو بخفايا فساده. ولكن تشكك اﻷجهزة اﻷمنية في العمل البحثي يتخطى ما لا ترغب في كشفه إلى الاعتقاد بأن ثمة دائماً أغراضاً خفية وراء أكثر مجالات البحث براءة في ظاهرها. 

هواجس

أن يكونا ضحيتين لهاجس أمني لا يستند إلى أدلة ملموسة لا يجعل من سمير أو باتريك استثناء. الحقيقة أن السجون المصرية تكتظ بآلاف المعتقلين بسبب هواجس أمنية، بعضها لا يرقى إلى الشك في ارتكاب المعتقل ﻷي جريمة وإنما يتعلق باحتمال أن يشكل نشاطه المستقبلي في حال كان حراً، خطراً على النظام، حتى وإن كان هذا النشاط الافتراضي في حقيقته لا يمثل أي جريمة وفق القانون. 

في كل مكان من عالمنا تعمل أجهزة أمنية لها الهواجس ذاتها، في ظل اﻷنظمة القمعية وحدها، التي لا تقيم وزناً للقانون أو لحقوق مواطنيها، تمتلك هذه المساحة من حرية تحويل هواجسها إلى مبرر كاف لتجريد الناس من حريتهم، وتعريضهم للتعذيب وإساءة المعاملة والعيش في ظروف منافية للكرامة واﻹنسانية وتعرض حياتهم وسلامتهم للخطر. 

ما يختلف في حالة سمير وباتريك وغيرهما من الباحثين الذين تعصف بحياتهم ومستقبلهم هواجس آلة القمع، أنه إضافة إلى ما يتعرضون له كأشخاص من انتهاكات، فإن جانباً مهماً من ضرورات الحياة ﻷي مجتمع في عصرنا هذا، يتم سحقه وتدميره. لا يمكن بأي حال إغفال أن أحد العوامل الرئيسية لتدهور الحياة اﻷكاديمية في مصر هو التدخل الأمني الغشيم فيها الذي بدأ منذ عقود، وتزايد بصفة مستمرة وهو اليوم قد بلغ حداً غير مسبوق. وبامتداد هذا التضييق إلى الباحثين الذين يسعون إلى استكمال دراساتهم العليا في الخارج، فإن متنفساً مهماً للحياة اﻷكاديمية كان يبقي على حد أدنى من استمرارية تقدمها، أصبح اليوم مهدداً بالقضاء عليه.

قضية أحمد سمير سنطاوي هي بالتأكيد في ذاتها نموذج صارخ لقمع أعمى يسحق حياة إنسان من دون أن يرتكب ذنباً يستحق معه أن تتحطم أحلامه البسيطة أو تتعرض حياته للخطر، ولكنها أيضاً ومن دون أي تقليل من أهمية المأساة الشخصية وفداحتها، تمثل نافذة صغيرة نطلع من خلالها على الكيفية التي يدمر بها القمع مستقبل المجتمع بأكمله. إذا كان القمع يُسوَق لقبوله يومياً بحجة الحفاظ على اﻷمن القومي، واستمرارية الدولة، وحماية الوطن، فالحقيقة أنه يمثل في ذاته الخطر اﻷكثر تهديداً للأمن والدولة والوطن.

إقرأوا أيضاً: