على الرغم من تميّزه بطابعٍ تجديديّ على أكثر من صعيد، لا يخلو الحراك الشعبي الجزائري الدائر منذ أواخر فبراير الماضي من استحضار شعارات وعناوين واصطفافات تعود إلى مرحلة حرب الاستقلال وإلى ما قبلها أحياناً. وفي سياق تحليل التشنّجات الداخليّة لهذا الحراك السلمي، ثمّة من يقدّم قراءة إيديولوجية تتّخذ من الصراع بين ما يسمّى بتحالف الـ”باديسية” والـ”نوفمبرية” وما يسمّى بتحالف الـ”باريسية” والـ”صومامية” مفتاحاً لفهم تلك الشروخ
يشير التحالف اﻷوّل إلى تلاقي من يعتنق فكر عبدالحميد إبن باديس، سواءٌ أكان عضواً في “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” التي أسّسها الشيخ الراحل في ثلاثينيّات القرن المنصرم أم لم يكن، ومن يُجهر انتماءه إلى بيان الفاتح من نوفمبر 1954 الذي أطلق الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، سواءٌ أكان عضواً في حزب “جبهة التحرير الوطني” أم لم يكن. أمّا
بالنسبة إلى التحالف الثاني، فإنّه يشير هنا تحديداً إلى تلاقي من يعتمد نمط العيش السائد في فرنسا، بخاصة فيما يتعلّق بالهامش الواسع للحريّات الفردية على المستوى اﻷخلاقي، ومن يتمسّك بمقرّرات مؤتمر الصومام – سُمِّيَ على إسم وادٍ مجاور يقع في منطقة القبائل اﻷمازيغية – والتي نصّت، من بين جملة أمور أخرى، على أولوية رأي سياسيي الثورة على رأي عسكرييها وعلى أولوية طرح ناشطي الداخل على طرح ناشطي الخارج. وتجدر الاشارة إلى أنّه لم تمض سنة واحدة على انعقاد هذا المؤتمر عام 1956 حتى تمّ الانقلاب عليه فسيطر العسكريون على السياسيين وشرع ناشطو الخارج يهمّشون ناشطي الداخل.
لا شكّ في أنّ قراءة كهذه بعيدةٌ كلّ البعد عن أن تكون محطّ إجماع. فمصطلح “الباريسية” مثلاً، لا يتبنّاه المعنيّون به إذ يتمّ إسقاطه عليهم من قِبَل مخالفيهم، بغية نزع المشروعية عن مطالبهم. وبدوره، ليس تحالف “الباديسية” مع “النوفمبرية” بالأمر البديهي، إذ لطالما عاب وطنيّو “جبهة التحرير” على إصلاحيي “جمعية العلماء” تأخرهم في الانخراط بالعمل المسلح إبّان الثورة، ناهيك بتأخرّهم في تبني مبدأ الاستقلال السياسي نفسه، مُفَضّلين التركيز على النضال التربوي، في حين كان التيّار الذي انبثقت عنه “جبهة التحرير” قد حسم موقفه لصالح الاستقلال منذ عشرينيّات القرن الماضي بقيادة مصالي الحاج.
ولكن، نظراً لخلاف اﻷخير مع “أبنائه” المنشقّين عن “أبيهم الضال”، وهو خلافٌ وصل إلى حدّ الاقتتال اﻷهلي ضمن إطار الحرب مع فرنسا، قام هؤلاء “اﻷبناء” المنتصرون بصوغ رواية للحركة الوطنيّة جرى فيها تغييب التيّار المصالي، من “نجم شمال إفريقيا” إلى “الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية” مروراً بـ”حزب الشعب الجزائري “. وفي أجواء الدعم المصري الناصري لدولة الاستقلال الوليدة، وظّفت هذه اﻷخيرة كوادرَ عروبيين كثراً من “جمعية العلماء المسلمين” – المُنحَلّة بطبيعة حال نظام الحزب الواحد – في قطاعَي التربية واﻷوقاف. فخلافاً لما كان عليه الحال في المشرق آنذاك، كان كلٌّ من تيّار الإصلاح الديني والتيّار العروبي منسجمَين في المغرب (باستثناء تونس ربّما). ولملء الفراغ الناجم عن تغييب التيّار الاستقلالي اﻷصلي في الكتب المدرسية، غالى هؤلاء الكوادر من مواقعم في القطاعَين المذكورَين في “تعريب” تأريخ (همزة على اﻷلف) الحركة الوطنية الجزائرية وفي”أسلمته”. وضمن إطار تحليله هذه الحيثيّة، بلغ الحدّ بالمؤرّخ حسن رمعون إلى اعتبار عمليّة نزع استعمار تأريخ البلاد نزعاً لـ”جزأرته”.
بخصوص الوضع الحالي، ليس من الصعب كشف دوافع التلاعب بالمعطيات التاريخية من قِبَل بعض أبرز الفاعلين وعلى رأسهم الجنرال أحمد قائد صالح. ففي سعيه لشقّ صفوف الحراك، الحالي، يلعب رئيس أركان الجيش الجزائري ونائب وزير الدفاع في آن على الفرز اﻹثني والمناطقي، إذ بات حَمْلُ العلم اﻷمازيغي يُعتبَر انتهاكً للوحدة الوطنيّة فيُستَدعى صاحبه ويتمّ توقيفه. وهو أمرٌ مُستَغْرَبٌ بعض الشيء إذ إنّ أحد تعديلات الدستور عام 2016 لم يؤكّد على طابع اللغة اﻷمازيغية الوطني الذي أُقِرَّ في بدايات اﻷلفية الثالثة فحسب، بل نصّ على اعتبار هذه اللغة لغةً رسمية، وإن لم تَحْظَ بصفة “اللغة الرسمية للدولة”، كما هو الحال مع اللغة العربية. ومن أجل إضفاء المشروعية على محاولة إدخال الفرز الشاقولي في حراك تكمن إحدى أبرز ميزاته بأفقيّته، يلجأ الوسط الداعم لأحمد قائد صالح إلى تعويم مرجعية إبن باديس الذي اشتُهِر، على الرغم من أصله اﻷمازيغي، بتمسّكه بعروبة البلاد. وهي عروبةٌ احتلّت موقع القلب في شعار “جمعية العلماء” الشهير: الإسلام ديننا؛ العربية لغتنا؛ الجزائر وطننا.
وأبعد من مناقشة سداد تلك المصطلحات والتحالفات على المستوى التاريخي، لا بدّ من اﻹشارة إلى أنّ شرائح واسعة من المواظبين على المشاركة اﻷسبوعية في مسيرات العاصمة وغيرها من المدن الجزائرية على امتداد اﻷشهر السبعة الماضية، لا تجد أنفسها البتّة في تلك القوالب والخانات القديمة، بل هي تسعى إلى ابتكار صِيَغ جديدة للعمل السياسي الجماعي.
ليس من الصعب كشف دوافع التلاعب بالمعطيات التاريخية من قِبَل بعض أبرز الفاعلين وعلى رأسهم الجنرال أحمد قائد صالح.
مع ذلك، فإنّ استحضار الماضي وصراعاته في النقاش السياسي والاعلامي بالجزائر، وبتعبيرٍ أدقّ، إنّ العمل على حَبْكِ خيطٍ رفيعٍ عابرٍ للعقود، إذ يصل اصطفافات حقبة الثورة وما قبلها باصطفافات حقباتٍ لاحقة، أمرٌ لطالما أثار اهتمامي خلال إقامتي في البلاد طيلة عشرة أشهر قبل حوالي اﻷربعة أعوام.
فعندما تُوفّي حسين آيت أحمد أواخر العام 2015 عن عمرٍ ناهز التسعين، قيل الكثير عن مزايا أحد أبرز قادة حرب التحرير الذي لم يفصل بين إطلاق سراحه من طرف السلطات الفرنسية قُبَيل استقلال البلاد واعتقاله من قِبَل رفاقه السابقين أكثر من سنتين أو ثلاث.
كذلك، قيل الكثير عن تجربته في قيادة “جبهة القوى الاشتراكية” وهي أوّل حزب جزائري معارض ومدافع عن حقوق اﻷمازيغ في إطار مطلب ديموقراطي عام، أي من دون الوقوع في فخّ التقوقع اﻹثني. كما لم يفت المراقبين التذكير بتعليقه الشهير على انقلاب وزير الدفاع هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلّة، إذ وصف اﻷمر بالانتقال من الديكتاتورية السياسية إلى الديكتاتورية العسكرية. إلاّ أنّ أكثر ما استرعى انتباهي هو تسليط الضوء على موقف الرجل من تعليق المسار الانتخابي من طرف الجيش الجزائري إثر التقدّم الملحوظ للـ”جبهة الاسلامية للانقاذ” في الدور اﻷوّل من انتخابات ديسمبر 1991 – يناير 1992 التشريعية
فحسين آيت أحمد الذي عرف السجن ثمّ المنفى، والمشهود له بتمسّكه بالديموقراطية آليّةً وقيمةً – إلاّ في حزبه ربّما حيث بقي على رأسه لعقود – رفع في فترة الانتخابات اﻵنفة الذكر شعار “لا للدولة البوليسية ولا للدولة اﻷصولية”، ما يعني عمليّاً أنّه كان ضدّ تعليق المسار الانتخابي. وفي النقاش العام حول هذه النقطة، داخلَ عددٌ من أقطاب المرحلة ومن بينهم الجنرال المتقاعد خالد نزّار، وزير الدفاع آنذاك، حيث كشف عن عرضه على آيت أحمد المشاركة في الحلّ “العسكري”، إلاّ أنّ هذا الاقتراح جوبِهَ بالرفض من قِبَل اﻷخير. وكان لمداخلة الجنرال نزّار وقعٌ مهمٌّ، إذ استدعت ردوداً من قِبَل ضبّاط آخرين، من بينهم الجنرال محمد بتشين الذي شكّل، في أواسط التسعينيّات، مع الرئيس اﻷمين زروال، حلفاً مناوئاً لنزّار وصحبه.
تدريجاً، انتقل الموضوع من موقف آيت أحمد من تعليق المسار الانتخابي إلى سجال أركان الطغمة العسكرية الحاكمة وقتذاك حول تحديد الجناح المسؤول عن إطالة أمد الصراع الداخلي المسلّح الذي دام عقداً اصْطُلِح على تسميته بـ”العشرية
السوداء”. هكذا، ساهمت وفاة آيت أحمد في تحرير الكلام في مسألة محظورٌ مبدئيًّا تداولها إعلامياً.
ولعلّ ما أتى على ذكره موقع “المنشار” الساخر – حتى وإن كان ذلك من باب “اﻷخبار الكاذبة” التي تشكّل مجال اختصاص هذا الموقع الإلكتروني – شديد التعبير عن سعة الهامش الذي بات متاحاً في تناول هذا الموضوع. بالفعل، ففي صباح الرابع عشر من أبريل 2016، أي بعد أقلّ من أربعة أشهر على رحيل آيت أحمد، نقع على مقال بالفرنسية للمدعو “دينوزور” (ديناصور؟) يُستحسَن إحالة القارئ إليه عوضاً عن ذكر عنوانه نظراً لطابعه الحسّاس… وإن كان كاذباً.
وفي سياق الردود على الجنرال نزّار، تمّ التذكير بماضيه في الجيش الفرنسي وبتأخّره في الانضمام إلى صفوف الثورة.
وهنا دار نقاشٌ حول نفوذ الضبّاط “الفارين من الجيش الفرنسي” داخل الجيش الجزائري، وهو نفوذٌ كان قد خضع لسجال في مستهّل الاستقلال، بين هوّاري بومدين حين كان وزيراً للدفاع والعقيد محمّد شعباني الذي كان يتمتّع ببعض التأثير في جنوب البلاد وشرقها. ففيما فضّل اﻷوّل الاستفادة من خبرات “الفارّين” التقنية عِوَض الاتيان بمستشارين أجانب، آثر الثاني إعطاء الأولوية للضبّاط “الثوريين” على الضبّاط “التقنيين”. ولمّا كان نصيب شعباني الإعدام بينما كان بومدين يوطّد موقعه في السلطة قبل أن يستحوذ عليها كليًّا بعد فترة وجيزة، بات “الفارّون من الجيش الفرنسي” في وضعٍ مريح، حتى ولو كان “التعريب” عنوان تلك المرحلة على الصعيدين التربوي والثقافي.
انزلاق النقاش هذا من العشرية السوداء إلى حقبة بدايات الاستقلال، نعثر عليه أيضاً في سجال بين خالد نزّار (هو ذاته!) مع عمّار بن عودة، أحد أعضاء مجموعة ال22 التي مهّدت عند التئامها سرًّا في يونيو 1954 لاندلاع ثورة نوفمبر. فردًّا على اتّهام الثاني اﻷوّل بأنّه أجبر الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة قُبَيل الموعد المفترض للدور الثاني من الانتخابات التشريعية في يناير 1992، عاب اﻷوّل على الثاني حؤوله دون استعادة وزارة الدفاع الجزائرية في أواسط الستينيّات أسلحة تابعة لجيش التحرير ومودَعة في مصر حيث كان بن عودة ملحقاً عسكريًّا بسفارة الجزائر. غير أنّ ثمّة مستوىً ثالت لذلك النقاش لا ينبغي إغفاله بتاتاً، وهو اصطفاف الرجلين، أثناء سجالهما عام 2015، خلف جناحَين في السلطة الجزائرية كانا يومها متصارعَين. ففي حين كان بن عودة داعماً تحالف المحيط الرئاسي بإدارة شقيق عبدالعزيز بوتفليقة مع قيادة أركان الجيش وعلى رأسها أحمد قائد صالح – أصبح طرفا هذا التحالف عدوَّين منذ أبريل الماضي، كان نزّار متضامناً مع “دائرة الاستعلام واﻷمن” ومُديناً التمادي في تفكيكها وهي التي كان مديرها الشهير، الجنرال محمد مدين المعروف باسم “توفيق”، قد أُحيل لتوّه على التقاعد القسري.
ولمّا كانت هذه الدائرة تحظى بدعم عددٍ مُعتبَرٍ من الضبّاط “الفارّين من الجيش الفرنسي” الذين أكثروا من إطلالاتهم اﻹعلامية، سمح كلٌّ من تحالف المحيط الرئاسي وقيادة أركان الجيش لعبدالحميد الابراهيمي، رئيس الحكومة في الثمانينيّات، بالعودة مطلع العام 2016 من منفاه المزمن، وهو الـ”عروبي” المعروف بكتابه الذي يُدين فيه نفوذ “حزب فرنسا” في أروقة السلطة الجزائرية.
و”حزب فرنسا” أصبح في الوقت الحالي مصطلحاً مطاّطيًّا إذ وصل اﻷمر ببعض أنصار أحمد قائد صالح إلى إلصاق هذا النعت بكلّ من يخالفهم في الطرح السياسي. هكذا، ومن وجهة نظرهم، أضحى كلّ من يرفض إجراء انتخابات رئاسية وفق الدستور الحالي ويسعى جاهداً إلى تنظيم عمليّة انتقال نحو نظام سياسي ديموقراطي مبني على أسس دستورية جديدة تقترحها جمعية تأسيسية وتحظى بمصادقة الشعب الجزائري… من أتباع (أو أقلّه من مُحالفي)”حزب فرنسا”!
في هذا المقال، ومن خلال بعض اﻷمثلة، حاولتُ ربط النهج الايديولوجي لأنصار أحمد قائد صالح بتقليدٍ مديدٍ من الاستخدام السياسي للتاريخ في الجزائر. إنّ القول بعدم اقتصار هذه الظاهرة على هذا البلد – وهو قولٌ لا شكّ في صحّته، لا يُغني أبداً، في المقابل، عن إعطاء الحالة المُتناوَلة الاهتمام الذي تستحقّه، وذلك خلافاً لما يذهب إليه بعض المنظرّين المُفْرطين في اعتماد المنهج النسبي. ولكن، نظراً لأهميّتها ولتعقيدها، تتطلّب النقطة اﻷخيرة مبحثاً منفصلاً.