“نحن في حال صدمة ولا نفهم حقاً ماذا يحصل”.
بصوت مضطرب تروي مها (اسم مستعار) كيف تلقت هي وعدد من أصدقائها السعوديين الذين باتوا خارج البلاد، أنباء إعدام السعودية لـ81 شخصاً بقطع الرأس بتهم “الإرهاب” في يوم واحد.
بنفس الدرجة من عدم التصديق تصف الصحافية السعودية صفاء الأحمد الأنباء بأنها “فاجعة ومجزرة… لا أذكر أن هناك إعدامات في نفس اليوم لمثل هذا العدد من قبل”.
ليستا وحدهما من فجعتا بهذه الأنباء، إذ بحسب ما يقول متابعون لأنباء حزمة الإعدامات هذه أن أهالي المعدومين أنفسهم لم يكن بمعظمهم يعلم، فبحسب ما قال طه الحاجي وهو محامي وحقوقي سعودي مقيم في ألمانيا ومتابع لقضايا المعتقلين لـ”درج” إن أياً من الحقوق المتعارف عليها للمعدومين في العالم لجهة التواصل مع الأهل والعائلة لم تكن متاحة : “بعض الأهالي لم يعلموا إلا عن طريق الواتساب او تويتر. بل إن البعض عرف بعد مرور ساعات على إعلان تنفيذ الإعدام عبر وسائل الإعلام. لم يسمحوا لهم (المعدومين) بلقاء وداع أو وصية أو أي حق ولو بسيط…هذا الإعدام لعدد كبير هو للترهيب ورسالة عنيفة دموية وقاسية إذ لم تكلف الحكومة نفسها عناء تبليغ الأهالي بطريقة انسانية بمصير ابنائهم”.
ماذا حصل؟
من دون مقدمات بدأت تظهر عبر حسابات وزارة الداخلية السعودية ومواقع رسمية تغريدات وانباء عن سلسلة إعدامات تم تنفيذها بحق 81 شخصاً من بينهم 7 يمنيين وسوري. البيان الرسمي وصف من تم إعدامهم بأنهم فئة:
“اعتنقت الفكر الضال والمناهج والمعتقدات المنحرفة الأخرى، ذات الولاءات الخارجية التي باعت نفسها ووطنها خدمة لأجندات الأطراف المعادية…”.
أسهب البيان بذكر أسماء المعدومين وجنسياتهم وتهمهم التي تراوحت بين قتل رجال أمن وتعذيب وإرهاب، وقلة كانوا متهمين بقضايا جنائية. لم يرد في الإعلان أي تفاصيل ولم تحدد تواريخ أو اعترافات أو أي وقائع يفترض أن تشتمل عليها الأحكام.
اللافت أن عدد المعدومين من مناطق الإحساء والقطيف بلغ 41 شخصاً من أصل 81 ممن شملهم الإعدام. وهذه المناطق هي مناطق ذات غالبية شيعية في السعودية والتي تشهد من حين لآخر احتجاجات وصدامات أمنية، ومن المعروف أن الأقلية الشيعية في السعودية تعاني من تمييز قانوني واجتماعي مزمن، وحتى الإصلاحات التي كانت أعلنت مع وصول ولي العهد محمد بن سلمان كانت قاصرة ولم توقف التمييز بحق هذه الأقلية التي تشكل ما نسبته 15% من سكان السعودية.
الداخلية السعودية قالت إن المتهمين منتمون “لتنظيم داعش والقاعدة والحوثي الإرهابية، وتنظيمات إرهابية أخرى معادية للمملكة”، وأنهم عملوا على “استهداف دور العبادة وعدد من المقار الحكومية والأماكن الحيوية التي يقوم عليها اقتصاد البلاد والترصد لعدد من المسؤولين والوافدين واستهدافهم والترصد لرجال الأمن وقتلهم والتمثيل ببعضهم، وزرع الألغام وارتكاب عدد من جرائم الخطف والتعذيب والاغتصاب والسطو بالسلاح والقنابل اليدوية، وتهريب الأسلحة والذخائر والقنابل للمملكة”.
بحسب البيان الرسمي فإن محكمة الاستئناف والمحكمة العليا أيدتا أحكام الإعدام الصادرة بحقهم، و”صدر أمر ملكي بإنفاذ ما تقرر شرعًا”.
وهنا من المفيد التوقف عن عبارة “الأمر الملكي” إذ من المعروف أن الجهاز القضائي جهاز غير مستقل وعلى صلة وثيقة بالديوان الملكي ويتلقى تعليماته منه.
عبد الله العودة وهو مدير أبحاث الخليج لدى “منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي”، ونجل الداعية المعتقل سلمان العودة يعتبر أن محاكم الإرهاب في السعودية هي من الأسوأ، ويقول لـ”درج”: ” هناك سيطرة مباشرة على القضاة من قبل الديوان الملكي والديوان الملكي يصدر الأحكام مباشرة… لا يوجد في السعودية حتى الحد الأدنى من احترام للإجراءات العدلية المعروفة في العالم. لم يحصل في أي عهد سابق في السعودية هذا الكم من الإعدامات”.
يعتبر الحقوقي السعودية المقيم في لندن يحي عسيري أن اختيار هذا التوقيت لإعلان الإعدامات قد يكون مرتبطاً بانشغال العالم بالحرب على أوكرانيا ما يعني غض النظر عما يحصل في السعودية. يصف عسيري المنظومة القضائية السعودية بالفاسدة وبأنها سلطة قمعية، ويقول لـ”درج”: ” كيف يمكن قبول إعدام 81 شخصاً في يوم واحد. قبول التهم وتصديق القضاء السعودي هو تواطؤ مع هذه الجريمة”.
عدد الإعدامات هو أكبر رقم لإعدامات نُفذت في يوم واحد في السعودية ويتجاوز عدد حالات الإعدام التي حصلت في العام 2021 التي شملت 69 شخصاً.
في الأعوام الماضية ومع الترويج لإصلاحات ولي العهد محمد بن سلمان تفاوت سجل السعودية في مجال الإعدام الذي يعد من الأسوأ على مستوى العالم. الإصلاحات المحدودة شملت بعض الخطوات في العام 2020، من بينها إلغاء عقوبة الإعدام لمن أدينوا بارتكاب جرائم وهم دون سن الثامنة عشرة.
منظمة العفو الدولية كانت ذكرت أنّ السعودية أعدمت في 2019، 184 شخصا، وهو أكبر عدد في غضون عام واحد في المملكة. وسجلت المملكة 27 حكما بالإعدام في عام 2020، أي بانخفاض قدره 85 بالمئة عن العام الذي سبقه بسبب تعليق أحكام الإعدام عن الجرائم المتعلقة بالمخدرات.
إقرأوا أيضاً:
ترفيه وانفتاح … وإعدام
تأتي حزمة الإعدامات هذه في ذروة سعي السعودية بجهود مالية ونفوذ دبلوماسي للترويج لولي العهد محمد بن سلمان بوصفه ينقل السعودية من الانغلاق نحو انفتاح لم تشهده البلاد من قبل، فبعد حزمة إصلاحات على مستوى منح النساء حق قيادة السيارات وتخفيف القيود الاجتماعية والقانونية والسماح بانفتاح على مستوى الترفيه والترويج لمستقبل فني وثقافي في السعودية، تصطدم تلك الإصلاحات بحقائق بالغة الدموية: جريمة القتل المروعة للصحافي جمال خاشقجي عام 2018 والآن حزمة الإعدامات وما بينهما من اعتقالات وتعذيب وخنق لحرية التعبير والرأي السياسي.
المفارقة أن هذه الإعدامات تأتي بعد أيام قليلة من مقابلة أجراها ولي العهد السعودية من مجلة “ذي أتلانتك” الأميركية أثارت الكثير من الجدل داخل السعودية وحتى في الولايات المتحدة.
في مقابلته مع المجلة يقول بن سلمان عند سؤاله عن الملف الحقوقي السيئ للسعودية إن القضية ليست نقصاً في الرحمة، “إنها مشكلة توازن”. نعم هناك ليبراليون وغيرهم أخلوا بأمن الدولة وربما يكون بعضهم مرشحاً للحصول على عفو ملكي لكن بعض من هم في السجن هم في الواقع أشخاص سيئون ولا يمكن منح العفو بشكل انتقائي، “لديك لنقل أقصى اليسار وأقصى اليمين المتطرف… إذا منحت العفو في مجال ما فعليك أن تمنح ذلك لبعض الأشخاص السيئين للغاية وهذا سيعيد كل شيئ الى الوراء في السعودية”.
وكأن هذا التصريح مقدمة لحزمة الإعدامات والموازنة التي حاولت التوزيعات الطائفية والسياسية لمن شملتهم ايصالها.
هذه المقابلة انتقدها صحافيون أمريكيون وغربيون ووصفوها بأنها ساهمت في التطبيع مع بن سلمان الذي اقترن اسمه بجريمة قتل خاشقجي وباعتقال وتعذيب ناشطات وناشطين بسبب مطالباتهم الحقوقية.
بحسب طه الحاجي فإن اللقاء الذي اجراه بن سلمان حاول تقديم صورة وردية، وقال:” تحدث بن سلمان في مقابلته عن إيقاف الإعدامات وقدم صورة زاهية ووعود مخادعة وجاءت قائمة الإعدامات لتناقض هذه الوعود”.
يقول عبد الله العودة: ” تحصل عمليات الإعدام بعد محاولة تجميل صورة بن سلمان في الغرب عبر “ذي أتلانتك” وحملات الدعاية السياسية التي تحاول تقديم بن سلمان على أنه قد تغير، وأن جريمة قتل خاشقجي هي استثناء”…
ويضيف العودة: “هذا العدد ليس رقماً اعتباطياً بل هو عملية مقصودة من بن سلمان لإعطاء رسالة للعالم أنه سيفعل ما بوسعه وأن ما رأيتموه قبلاً في جريمة خاشقجي واعتقال وتعذيب الناشطات هو لا شيء. ما يحصل هو تخويف وارعاب للناس وليس بحثاً عن شرعية سياسية”.
حزمة الإعدامات حصلت بعد ساعات من إطلاق المدون المعروف رائف بدوي والذي أنهى حكماً بالسجن لعشر سنوات بسبب تغريدات وتعليقات اعتبرت مسيئة للإسلام. وكباقي الحقوقيين والناشطين الذين تم الإفراج عنهم مثل لجين الهذلول، فُرض على بدوي الاقامة الجبرية ومنع السفر لمدة عشر سنوات.
كل إجراءات التضييق ضد الناشطات والناشطين والمعارضين السياسيين والآن حزمة الإعدامات يجري تقديمها في الخطاب الرسمي بوصفها خطوات ضرورية لحماية السعودية من الإرهاب والمتربصين.
” محمد بن سلمان لم يفشل فقط في القضاء على الإرهاب بل إن وجوده هو سبب من أسباب تصاعده”، يقول عبد الله العودة.
إقرأوا أيضاً: