سارع القادة العسكريون في السودان، إلى شنّ هجوم عنيف على المكون المدني الشريك في السلطة، بعد “محاولة الانقلاب” الفاشلة الأخيرة، متهمين إياه بتهيئة الأجواء السياسية لتنفيذ “المحاولة”، عبر استسهال توجيه انتقادات دورية للجيش.
هذا التطور جعل استثمار، “الانقلاب” السياسي أكثر أهمية من “الانقلاب” نفسه، خصوصاً وأن الأخير، لم يملك أي فرصة للنجاح، وبرزت شكوك حوله ودعوات حزبية لكشف ملابساته للرأي العام.
ليس معنى ذلك، عدم وجود قوى في الجيش تسعى للانقلاب، وربما من “النظام القديم”، غير أن قدرتها على التنفيذ محدودة، قياسا بتوازن القوى الحالي، بين جيش و”دعم سريع”. من هنا، حاول العسكر تجيّير “المحاولة الانقلابية” لصالحهم، إذ نفى قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، أي “خلفية سياسية” للمنفذين، وجرى التسويق في الإعلام أن وراء المحاولة، ضباط غاضبون من تكرار إهانة وانتقاد الجيش، من قبل القوى المدنية.
المدنيون إذاً، أهانوا العسكر فظهرت نزعات “انقلابية” في الجيش كردة فعل، وعليه القوى المدنية تتحمل المسؤولية. هذا جزء من الرواية المطلوب تركيبها، ثمة أجزاء أخرى، تصب كذلك في أبلسة المدنيين، بعد ربطهم بفعل “الانقلاب”، المتصل بوعي السودانيين بممارسات النظام السابق وشرعيته الزائفة. ثمة جزء ثاني، يتبدى في التركيز على فشل المدنيين، الذي يمسكون بكل الوزارات، باستثناء الدفاع والداخلية، في إدارة شؤون البلاد. فقد تدهورت الأوضاع المعيشية بشكل كارثي، على وقع رفع الدعم على بعض السلع، وتراجع الخدمات، وارتفاع الأسعار، ما وفر مناخاً، لبروز نقمة شعبية ضد الحكومة “العاجزة”، ظهرت في تظاهرات خرجت عدة مرات، في الخرطوم ومدن أخرى.
وعليه، العسكر يراهن على انفصال الشارع عن قوى “الحرية والتغيير”، التي قادت مظاهرات الثورة وطغت على الحكومات بعد توقيع الوثيقة الدستورية مع الجيش. الشارع الذي التصق بهذه القوى لتحقيق التغيير، يبتعد عنها بسبب الفشل في تحسين الأوضاع المعيشية.
أما الجزء الثالث، من رواية العسكر لأبلسة المدنيين، فهو عدم قدرتهم على حل النزاعات التي تتجدد من فترة إلى أخرى. وآخرها شرق البلاد، حيث تحتج قبائل البجا على تهميشها من البند المتعلق بالشرق في اتفاق السلام بين الحكومة والحركات المسلحة، وترفض استبعادها لصالح قبائل أخرى. واستبقت دعاية الجيش، تصاعد الاحتجاجات، التي تطورت لإغلاق ميناء ومطار وخطين لتصدير واستيراد النفط، بتسريب أخبار عن طلب المدنيين فض الاحتجاجات بالقوى. كي يصبح المدنيون، ضمن السردية المراد تسويقها، فاشلين في حل النزعات المحلية، ومحرضين على قمعها وممارسة العنف ضد المشاركين فيها.
وبالنتيجة، واستناداً إلى الأجزاء الثلاثة، المسؤولية عن “الانقلاب”، وعن تردي الأوضاع المعيشية، والفشل في حل الصراعات والتحريض ضدها، يتبدى أن العسكر يهيئون مناخا شعبياً ضد المدنيين، لإحداث تحول قد يؤدي، إما للقطع مع عملية الانتقال الديمقراطي أو إضعافها، وإدخال البلد في اضطرابات مجهولة النتائج.
إقرأوا أيضاً:
وعلى الأرجح، فقد عجل من التفكير بإمكانية تنفيذ هذه المغامرة، شعور العسكر بتهديد مصالحهم، حيث يملك الجيش شركات وأصول اقتصادية، لا تخضع لإشراف وزارة المالية، وسبق أن تسببت دعوة رئيس الحكومة، عبد الله حمدوك لإخضاعها، بتوتر مع الجيش الذي اعتبر رئيسه البرهان، أن الشركات “خط أحمر”. يضاف لذلك، أن حمدوك طرح قبل فترة وجيزة مبادرة لتثبيت “الانتقال الديمقراطي”، اشتكى العسكر من استبعادهم منها، خصوصا وقد نصّت على “إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية”. إذا، العسكر يشعرون، بخطرين، تراجع نفوذهم مع تقدم خطوات الانتقال، وتهديد مصالحهم الاقتصادية.
ومع اقتراب تسليم رئاسة المجلس السيادي الذي يقود البلاد، للمدنيين، حيث من المقرر اختيار بديل للبرهان، في نوفمبر المقبل، حسب الوثيقة الدستورية، يرسم العسكر سياقا لأبلسة المدنيين، مستغلا انقساماتهم، وحجم المشكلات التي ورثوها عن النظام السابق، ما يفتح الباب أمام احتمالين، إما تنفيذ انقلاب فعلي هذه المرة يطيح بالمدنيين، وإما استمرار معادلة الانتقال القائمة الحالية، حيث يملك العسكر نفوذا ومصالحا، ويمسكون بملفات أساسية كالسلام مع الحركات المسلحة والتطبيع، فيما يدفع المدنيون ضريبة المشكلات المتفاقمة، بوصفهم الحكومة التنفيذية.
وإفشال الاحتمالين، يعتمد، على قدرة قوى “الحرية والتغيير” على حشد الشارع ضد أي محاولة للعودة للوراء، أو استمرار الوضع القائم، ما يعد اختبارا لهذه القوى التي يراهن الجيش على فقدان الناس، الثقة بها.
من هنا، قد يكون المطلوب، من “قوى الثورة”، إعادة ترميم علاقتها مع جمهورها، استعدادا للاحتمالات الخطيرة، خصوصاً وأن المجتمع الدولي، والولايات المتحدة، سيعارضان أي تحرك للعسكر باتجاه تقويض الانتقال الديمقراطي، لكنهما، سيضعان في الاعتبار أن المكون العسكري، هو مهندس التطبيع مع إسرائيل، الذي ارتبط برفع اسم السودان من قائمة العقوبات الأمريكية. وقد لا يكون صدفة أن يتزامن هجوم العسكر على المدنيين، مع مصادرة أملاك حركة “حماس”. الجيش يريد أن يقدم نفسه للغرب، عبر مسألة التطبيع، التي قد تصبح عنصرا من عناصر تثبيت نظام عسكري، في سودان الغد بدل أن تنعكس على دمقراطية هذا البلد.
إقرأوا أيضاً: