fbpx

الصحافة المصرية في زمن “مكرم” : ممنوع الاقتراب أو التصوير

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خلال عام ونصف العام، تضخمت عضلات الصحافي الثمانيني، فلم تعد مهمته الرئيسية دعم النظام وتأديب الصحافيين فقط، بل امتدت إلى التحكم في مظهرهم، بعد أن هددهم بعدم دخول النقابة بسبب انتشار موضة سراويل “الجينز” المثقوبة في المؤسسات الصحافية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر هو الذي يضبط إيقاع مهنتَي الصحافة والإعلام، ويحدد المعايير الصحيحة لهما، وهو الذي يعطي تراخيص البث، وهو الذي يسأل وسائل الإعلام وأدواته ويحاكمها، بخاصة في ما يتعلق بآداب المهنة وضوابطها، وله أن يُثيب ويُعاقب ويَفرض الغرامة ويمنع الظهور ويُحدد شروطه وأدواته”، هكذا أغلق الصحافي الثمانيني مكرم محمد أحمد كلتا يديه على المنابر الإعلامية المصرية كلها خلال العام الماضي.

صلاحيات استثنائية آتية من رأس السلطة جعلت رئيس “المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام” وصياً على كل شيء مكتوب ومرئي ومسموع، وحارساً للأخلاق وهوية الدولة المصرية في مواقف أخرى، إلى أن نصب نفسه أخيراً نائباً عاماً بحظر النشر في قضايا بعينها، وهو ما حدث في أزمته الأخيرة مع النيابة العامة بعد قراره بوقف النشر في كل ما يتعلق بتجاوزات مؤسسة “مستشفى 57357” لعلاج سرطان الأطفال، وذلك بعد حملة صحافية قادها السيناريست وحيد حامد كشفت عن إهدار تبرعات الشعب.

القرار الأخير أنتج جدلاً في الأوساط الصحافية، خصوصاً أنها المرة الأولى التي يصدر فيها قرار حظر النشر من خارج الهيئات القضائية، وهو ما أدخل نقيب الصحافيين الأسبق في صدام مع النائب العام، الذي اعتبر قراره لاغياً، بدعوى أن حماية الشأن العام من اختصاص السلطات القضائية والتنفيذية، وأن حماية حرية الصحافة وحق المواطن في التمتع بقطاع إعلان وصحافة حرٍ ونزيه، من اختصاص الهيئات الوطنية التي تدير شؤون الإعلام في مصر.

صدامٌ انتهى بجلسة تحقيق ودية في مكتب نيابة أمن الدولة العليا بضاحية التجمع الخامس، لكنه يعكس دلالات كبيرة على حجم رقابة الدولة على الصحافة، وانزعاجها من أي منشور، حتى لو حملة صحافية تكشف فساداً في مستشفى.

اللافت أن الحملة الأخيرة  قادها كاتب سينمائي كبير، فمعظم الأقلام الصحافية الجريئة لم تعد تثير الملفات الشائكة، خصوصاً بعد السيطرة على جميع الصحف وحجب المواقع المستقلة. فقد عمدت السلطات إلى حجب موقع “كاتب”، الذي يديره الحقوقي جمال عيد والصحافي اليساري خالد البلشي، بعد 9 ساعات فقط من إطلاقه، كونه أول موقع صحافي حقوقي متخصص في الدفاع عن حرية التعبير وحرية تداول المعلومات.

الموقع يخصص مساحات كبيرة لإبراز قصص المعتقلين السياسيين ويقدم تحليلات اقتصادية مناهضة لنظريات الإصلاح الاقتصادي التي حددها صندوق النقد الدولي لمصر، وهو ما عجل بحجبه، خصوصاً أن مؤسسيه يملكون رصيداً ثرياً في صحافة حقوق الإنسان ومواقف معارضة لتجاوزات النظام.

وانضم موقع “كاتب” إلى لائحة تضم 500 موقع حجبتهم جهات غير معلومة داخل النظام المصري خلال العام الفائت، ما جعل مصر تتصدر لائحة الأنظمة المعادية للإنترنت، بحسب تعبير الحقوقي خالد عيد.

وفى تقريرها السنوي لعام 2017، قالت منظمة “مراسلون بلا حدود” الدولية إن مصر احتلت المرتبة 161 على مؤشر حرية الصحافة من إجمالي 180 دولة، في تراجع عن المرتبة 159 لعام 2016.

وحجب موقع “كاتب” جاء أسرع مما توقع مؤسسوه، لكن رئيس تحريره خالد البلشي لم تفتر حماسته من استكمال آخر تجاربه لكسر صمت الإعلام الرسمي.

يقول البلشي لـ”درج”: “كنا نتوقع الحجب ولم نكن نتمناه، لذا اتخذنا إجراء احترازياً تقنياً عبر الـvbn ليتيح للقراء متابعة الموقع، هو يحرمنا من الزيارات الطبيعية، لكنه حلّ للتغلب على الحجب”.

“اخترنا منطقة لا أحد يقتحمها الآن في مصر وهي صحافة مهمومة بحقوق الناس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، نتناول الوضع الاقتصادي وحقوق العمال وقضايا المعتقلين وأوضاعهم في السجون. صحافة بعيدة من التعليمات الرسمية للدولة” يتحدث البلشي وهو رئيس لجنة الحريات السابق في نقابة الصحافيين.

مساحة اعتاد البلشي الاشتباك معها في تجارب نالت الجزاء نفسه مثل مواقع الوادي والبديل الجديد والبداية، لكن هذه المرة أشد قسوة. “كنا أمام طريقين إما الاستسلام أو معافرة محفوفة بالمخاطر. رسالتنا هي وجود جيل يحافظ على الصحافة بشباب واع، فالصحافة هي آخر أمل في ظل الديكتاتورية بعد تأميم المجالات كلها سواء سياسياً أو قضائياً”.

يعمل الموقع بعدد محدود من الصحافيين، هدفهم  التغطية الآمنة التي لا تعرض حياتهم للخطر، وتقديم معلومات وقصص تحتاجها الناس، فهم لا يريدون بيانات رسمية لأن الصحافة مليئة الآن بالرأي الرسمي، بحسب البلشي.

يقلل رئيس تحرير “كاتب” من تأثير الحجب على التفاعل الجماهيري مع تجربته الأخيرة: “عدد زياراتنا على صفحة فيسبوك يصل إلى 45 ألف في بعض الموضوعات، كما وصلنا إلى 10 آلاف زائر في أول 9 ساعات قبل الحجب. الناس يشتاقون إلى سماع أصوات أخرى غير النغمة الثابتة، علينا استغلال حاجة الناس إلى الحقيقة”.

يأتي هذا في وقت تعج الزنازين بحوالى 20 صحافياً، على خلفية قضايا متعلقة بالنشر وأخرى سياسية بالانتماء لجماعة محظورة، من بينهم رئيس تحرير موقع “مصر العربية” عادل صبري، الذي أخلي سبيله قبل أيام في قضية، وفتح التحقيق معه في أخرى معروفة باسم المحور الإعلامي لجماعة الإخوان ومنذ القبض على صبري وإغلاق مقر مصر العربية في نيسان/ أبريل 2018، تجمدت الدماء في عروق صحافييها ليتحول الموقع إلى وكالة ناقلة للأخبار المهمة فقط.

يقول أحمد عبدالجواد المدير الإداري لموقع مصر العربية إن الموقع اضطر إلى الاستغناء عن عدد كبير من الصحافيين على مدار العامين الماضيين بفعل الضغوط التي بدأت بالمداهمات المتكررة من المصنفات الفنية ثم أزمة الحجب، وأخيراً إغلاق مقر الموقع والقبض على رئيس تحريره، ما أثر في اقتصادات الموقع وعدد زياراته وفقدانهم الدعم المالي الذي تقدمه شركتهم.

وأوضح عبد الجواد، في تصريحات لـ “درج” أن الموقع الآن يديره مجموعة صغيرة لا تتجاوز 10 صحافيين يتبنون فكرة استمرار الموقع، وهم يضخون أخباراً فقط، فلم يعد الموقع يقدم خدماته الصحافية المعتادة، مثل التحليلات والتقارير الدسمة في السياسة والاقتصاد.

وأرجع عبد الجواد استمرار الموقع في العمل حتى الآن على رغم الحصار الاقتصادي والتقني، إلى رغبة الصحافيين المؤسسين في الحفاظ على المشروع المستمر منذ 5 سنوات، فهم لا يتقاضون أجوراً نظير عملهم.

لا يجد مدير “مصر العربية” تفسيراً للإجراءات العقابية التي نالت منهم، يدافع قائلاً: “نعمل بشكل مهني منذ البداية، لكن الدولة لا تتفهم وجودنا في الفترة الأخيرة بعد تغطيتنا للانتخابات الرئاسية الأخيرة”.

وتسبب تقرير ترجمه الموقع عن صحيفة “نيويورك تايمز”، تحدث عن وقوع مخالفات خلال الانتخابات الرئاسية في إغلاق مقرهم والقبض على رئيس تحريره، إذا زعم التقرير المترجم تقديم مبالغ مالية وهدايا عينية كرشاوى انتخابية لحث المواطنين على التصويت في الانتخابات التي حسمها الرئيس عبد الفتاح السيسي باكتساح أمام منافسه موسى مصطفى موسى.

يتمسك عبد الجواد بالأمل في حلحلة أزمة قضية عادل صبري، قائلاً: “لدينا رغبة في الاستمرار، ودَفعنا ثمن مواقفنا”.

وبجانب صبري، يمكث المصور محمود أبو زيد شوكان خلف القضبان منذ 5 سنوات، لاتهامه بارتكاب 24 جريمة، من بينها الانتماء إلى جماعة محظورة والتجمهر. وهو المصور الذي فاز بجائزة منظمة اليونيسكو لحرية الصحافة لعام 2018، كونه يعتبر أقدم صحفي مصري داخل السجن.

لا تتوقف مآسي الصحافيين في مصر عند هذا الحد، إذ تنتظرهم أيام قاتمة أخرى ترتَّب تفاصيلها داخل الهيئات الإعلامية ومجلس النواب فور ظهور قانون تنظيم الصحافة والإعلام الجديد للنور، فقد أعطى القانون الحق للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في منع تداول مطبوعات وسحب تراخيص مؤسسات وحجب مواقع إلكترونية عامة وشخصية، ووقف وحظر نشر مواد إعلامية، من دون تحقيق مسبق أو قرار من القضاء. كما حكم بالحبس مراراً في قضايا النشر.

كما يحرم القانون الصحافيين من أداء عملهم وتغطية الأحداث من دون الحصول على تصاريح ما عرقل العمل الصحافي بشكل كبير.

المجلس الأعلى للإعلام لا يفوت فرصة أيضاً من دون أن يفرض قيوده على الصحافيين، فسبق أن دعا مكرم محمد أحمد إلى عدم استخدام المصادر المجهولة في المواد الصحفية، وهي بدعة جديدة تهدم ما تأسست عليه الصحافة المصرية من تجهيل متعمد للمصادر في الموضوعات الشائكة التي تحوي معلومات خطيرة.

التضييق على الصحافيين لا ينتظر تفعيل القانون الجديد، فالعمل الميداني بات محفوفاً بالمخاطر في الأشهر الأخيرة. يروي أحمد عبدالله، وهو يعمل في إحدى الجرائد اليومية، أن أحد أفراد الشرطة استوقفه لدى تصويره مقهى رياضياً في حي المنيل القاهري، بدعوى عدم حيازته على تصاريح العمل الميداني. ولم تشفع لعبدلله حيازته بطاقة نقابة الصحافيين التي لطالما كانت جواز سفر لعبور الأسلاك الشائكة. وعلى رغم أن تقريره لم تكن له علاقة بالسياسة، إلا أن الشرطي أصر على احتجازه بعض الوقت وتهديده بتحويله إلى جهاز الأمن الوطني للبت في أمره، قبل أن يقرر صرافه بعد وساطة أصحاب المقهى.

يقول عبدالله لـ”درج”: “أعمل في الصحافة الميدانية منذ 6 سنوات، لم أصادف هذا الموقف أن تحتجزني الشرطة بسبب تصوير مقهى يحمل شعارات وصوراً رياضية، قابلنا هذه العقبات في التظاهرات والاشتباكات، لكن الآن نلمس عدم ترحيب الدولة بعملنا.”

أما الآن فيتخذ عبدالله إجراءات احترازية شديدة التعقيد من أجل إنجاز تقاريره الميدانية، فيتأكد أولاً من عدم خطورة المهمة ويفضل الابتعاد من الأماكن العامة التي ينتشر فيها رجال الشرطة.

موقف مشابه تعرضت له الصحافية الشابة مي الصباغ برفقة المصور أحمد مصطفى قبل 4 أشهر حين اعتقلتهما الشرطة بسبب تصوير ترام الإسكندرية في إطار إنتاج مقال عن التراث الثقافي القديم لمدينة الثغر.

ويعد الترام من وسائل المواصلات القديمة التي ما زالت صامدة في عروس البحر المتوسط، فيما اختفت تماماً من شوارع القاهرة في السنوات الأخيرة.

قضى الثنائي أسبوعين في السجن بعد اتهامهما بالعمل من دون تصريح بقصد إذاعة أخبار وبيانات كاذبة من شأنها تكدير الأمن العام. وهو جزاء يخشاه كثر الآن.

أما مكرم فهو لا يعير انتباهه إلى الانتقادات، بل يضيق صدره من الأصوات المطالبة بحرية الصحافة، إذ يرى أنه لا توجد حرية بصورة مطلقة أو “سداح مداح”، ولكن لا بد أن تكون حرية مسؤولة تقف عند حدود الآخرين.

المجلس الأعلى للإعلام لا يفوت فرصة أيضاً من دون أن يفرض قيوده على الصحافيين، فسبق أن دعا مكرم محمد أحمد إلى عدم استخدام المصادر المجهولة في المواد الصحفية، وهي بدعة جديدة تهدم ما تأسست عليه الصحافة المصرية من تجهيل متعمد للمصادر في الموضوعات الشائكة التي تحوي معلومات خطيرة.

الشخصية المحافظة لمكرم نصبته وصياً على أخلاق المجتمع المصري، فأوقف برامج ساخرة تحظى بمشاهدة جماهيرية عالية مثل “snl” و”أبلة فاهيتا” بدعوى استخدامهما ألفاظاً وإيحاءات خادشة للحياء.

وخلال عام ونصف العام، تضخمت عضلات الصحافي الثمانيني، فلم تعد مهمته الرئيسية دعم النظام وتأديب الصحافيين فقط، بل امتدت إلى التحكم في مظهرهم، بعد أن هددهم بعدم دخول النقابة بسبب انتشار موضة سراويل “الجينز” المثقوبة في المؤسسات الصحافية.

تتلقى الصحافة المصرية ضربات متتالية نالت من استقلاليتها وتهدد استمرارها، لكن خالد البلشي ما زال يحدوه الأمل: “إذا فقدنا الأمل في إنعاش الصحافة هذه المرة، سنحاول مرة أخرى، عيني دائماً على تجارب تكسر الصمت”.