fbpx

الثورة الرقمية ستفلت من السيطرة البشرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتطوّر كل شيء تطوراً سريعاً الى حدّ لا نستطيع فيه أن نتبيّن ملامح عالم الغد. واحدة من خصائص هذه الثورة هي أنها غير قابلة للحصر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أطاحت التكنولوجيا الرقمية منذ سبعينات القرن الماضي النماذج الناظمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية…هي ثورة أفقية تعيد من دون توقف تعريف المعايير.

بدأ كل شيء في 1939 في مرآب خشبي يشبه العشرات من نظائره في بالو آلتو، المدينة الكاليفورنية الصغيرة الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من سان فرنسيسكو. كان الصديقان دايفد باكارد ووليام هويليت وهما مهندسا الكترونيات، يصنعان في المرآب معدات لمهندسي الصوت فيما تتولى زوجتاهما أعمال سكريتارية الشركة التي أسساها. ستصبح “هويليت –باركارد” المعروفة اليوم اختصارا بـ”HP” المؤسسة الرائدة في العصر”الرقمي” الذي سينشأ عن تكنولوجيا التي تحول المعطيات الى متواليات من الرقمين صفر وواحد، لنقل المعطيات وتخزينها (الارقام او digits باللغة الانكليزية هي مصدر كلمة “ديجتال” او رقمي). فرض هذا النظام نفسه على عمل الآلات الحاسبة، وبالتالي على الحاسبات الآلية (الكمبيوتر). وصار جهاز “اينياك” في جامعة بنسلفانيا الكمبيوتر الاول في العالم. لكن تلك الآن بعيدة جدا عن الكمبيوترات المحمولة التي نعرفها اليوم: كانت تزن ثلاثين طناً وتمتد على مساحة 167 متراً مربعاً وتجري خمس آلاف عملية حسابية (فقط) في الثانية.

نمو الإنترنت

وبحلول نهاية الستينيات تغير كل شيء حقاً. فقد تبادل في الثاني من ايلول/ سبتمبر 1969 حاسبان الكترونيان ضخمان، وللمرة الأولى في التاريخ، معطيات عبر “حزمات” عن طريق سلك نحاسي. وفي 1971، جمع نظام “اربانت” (مختصر الاحرف الأولى من Advanced Research Projects Agency Network) في إطار شبكة، عدة آلات من الطراز هذا تتواجد في كاليفورنيا وأوتاه. كان الهدف في البدء عسكريا: حماية المعطيات الاستراتيجية في حال وقع هجوم سوفياتي شامل والقدرة على التواصل لتنظيم هجوم معاكس: لقد ولدت الانترنت. بعد عشرين عاماً وبفضل دمقرطة المعلوماتية، حلّت الشبكة في المنازل. في فرنسا التي تراوح عدد مستخدمي الإنترنت فيها بين 200 ألف و300 الف سنة 1995، وبلغ 6.3 مليون مستخدم في 2001 ثم 15.6 مليون في نهاية 2003، يستخدم 52 مليون فرنسي الشبكة اليوم. ومع التزايد التدريجي لقوة الحاسبات ولقدرات الشبكات، بات متاحاً رقمنة المزيد من الوثائق المختلفة التي تحتوي نصوصاً واصواتاً وصوراً ومقاطع فيديو، وصار في الوسع إرسالها مجاناً تقريباً الى اجهزة كمبيوتر في اقاصي العالم.

بيد أن هذه الثورة تجاوزت بأشواط أبعادها التقنية: لقد افضى العصر الرقمي الى انقلاب عميق في المجتمع. وتسارع كل شيء في العقد الاول من الالفية الجديدة. تسبب انطلاق الاقتصاد الإلكتروني،  على غرار منصة “أمازون” على سبيل المثال، في اصابة الاقتصادات التقليدية بالهشاشة. وجاءت الشبكات الاجتماعية – تأسس “فيسبوك” في 2004- ثم اختراع الهواتف الذكية في 2007 ليغيرا سبل تواصلنا. وباتت السمة الافقية واللا جسمانية محركي دينامية كونية تلامس كل النشاطات: من صناعة السيارات إلى المدرسة مروراً بالزراعة والمصارف والتمويل… وأعيد طرح السؤال عن البنى وعن الإجراءات التقليدية: ما معنى الحدود وماهيتها في عالم شديد التواصل؟ كيف سيصبح التعليم عندما تكون المعرفة على طرف إصبع بفضل الهواتف الذكية؟ ما مصير وما هو قطاع الخدمات في فضاء يتبادل فيه الافراد في ما بينهم الخدمات على غرار ما يجري في الاقتصاد التعاوني؟ يؤكد الاختصاصيان في المجال الرقمي هنري فردييه ونيكولا كولن في كتابهما “عصر الكثرة” “يقبع التغيير الاول والاهم، برأينا، هنا: في الظهور المرتبك والمتردد لمجتمع الند للند [المصطلح مستخرج من عالم المعلوماتية ويشير الى ان كل جهاز هو متلق وخادم في آن واحد]، مجتمع الثقة الموزعة والعلاقات الافقية”.

بل ثورة في الثورة تعلن عن نفسها، من خلال تطوير “البلوك شين” (blockchain) وهي تكنولوجيا تستخدم حاليا في شراء وبيع النقود المشفرة على غرار “البيتكوين”. وهو نظام يستجيب للانترنت الهجينة: تتيح الشبكة تبادل المعلومات تبادلاً غير مركزي بفضل البريد الالكتروني، خصوصاً. لكن طرفاً ثالثاً حائز على الثقة (منصة على غرار “اوبر” التي تعمل كوسيط بين الزبون وبين السائق) كان على الدوام ضرورياً لنقل المال او الاشياء القيّمة مثل سندات الملكية، من اجل ضمان أمن الانتقال. وبفضل البلوك شين، أصبحت أجهزة الكمبيوتر تتولى هذه المهمة. يستطيع المستخدمون الآن إجراء عمليات نقل الاموال او اي عملية اخرى بين طرفين، مع سائق او مع مستأجر، على سبيل المثال من دون وسيط. وتنشأ شركات جديدة قائمة على هذه التكنولوجيا. ويبدو أن “اوبر” و”ار بي ان بي” التي لم تمر بعد عشر سنوات على تأسيسها، تشعر بالأسى لذلك.

يتطور كل شيء تطوراً سريعاً الى حدّ لا نستطيع فيه أن نتبين ملامح عالم الغد. واحدة من خصائص هذه الثورة هي أنها غير قابلة للحصر. ويؤكد هنري فردييه ونيكولا كولن أن “المهم ليس الارقام بذاتها، بل التسارع. كم من شخص سيعمل في آخر حياته المهنية بذات التكنولوجيات التي عمل بها في شبابه. ما من أحد سيستطيع إنجاز عمل مهني بالأدوات التي كانت مألوفة عنده”. وأصبحت مسألة امتلاك ناصية التكنولوجيا الرقمية مسألة حاسمة. ولا يتوقف حجم المواد التي تنتقل على الشبكة (الظاهرة المسماة big data) عن الازدياد ما يطرح اسئلة اخلاقية على نحو ما يمكن التكهن به من فضيحة “كامبريدج اناليتيكا” التي كشفت التصدعات في “فيسبوك”. لكنها طرحت ايضا تساؤلات تتعلق بالبيئة، فالمراكز التي يجري فيها انتقال المعطيات تصبح أكبر فأكبر وتستهلك المزيد من الطاقة. وتطوير الذكاء الاصطناعي (AI) ينبئ بمستقبل تكون فيه الروبوتات حاضرة في كل مكان. هل ستكون هذه التغيرات للأفضل او للأسوأ؟ لا يستطيع احد الاجابة اليوم. الثورة الرقمية التي نغذ الخطو نحوها هي من دون ريب الثورة الأولى التي ستفلت من السيطرة البشرية.

هذا المقال مترجم عن صحيفة Le Monde ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط التالي

12.08.2018
زمن القراءة: 4 minutes

يتطوّر كل شيء تطوراً سريعاً الى حدّ لا نستطيع فيه أن نتبيّن ملامح عالم الغد. واحدة من خصائص هذه الثورة هي أنها غير قابلة للحصر.

أطاحت التكنولوجيا الرقمية منذ سبعينات القرن الماضي النماذج الناظمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية…هي ثورة أفقية تعيد من دون توقف تعريف المعايير.

بدأ كل شيء في 1939 في مرآب خشبي يشبه العشرات من نظائره في بالو آلتو، المدينة الكاليفورنية الصغيرة الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من سان فرنسيسكو. كان الصديقان دايفد باكارد ووليام هويليت وهما مهندسا الكترونيات، يصنعان في المرآب معدات لمهندسي الصوت فيما تتولى زوجتاهما أعمال سكريتارية الشركة التي أسساها. ستصبح “هويليت –باركارد” المعروفة اليوم اختصارا بـ”HP” المؤسسة الرائدة في العصر”الرقمي” الذي سينشأ عن تكنولوجيا التي تحول المعطيات الى متواليات من الرقمين صفر وواحد، لنقل المعطيات وتخزينها (الارقام او digits باللغة الانكليزية هي مصدر كلمة “ديجتال” او رقمي). فرض هذا النظام نفسه على عمل الآلات الحاسبة، وبالتالي على الحاسبات الآلية (الكمبيوتر). وصار جهاز “اينياك” في جامعة بنسلفانيا الكمبيوتر الاول في العالم. لكن تلك الآن بعيدة جدا عن الكمبيوترات المحمولة التي نعرفها اليوم: كانت تزن ثلاثين طناً وتمتد على مساحة 167 متراً مربعاً وتجري خمس آلاف عملية حسابية (فقط) في الثانية.

نمو الإنترنت

وبحلول نهاية الستينيات تغير كل شيء حقاً. فقد تبادل في الثاني من ايلول/ سبتمبر 1969 حاسبان الكترونيان ضخمان، وللمرة الأولى في التاريخ، معطيات عبر “حزمات” عن طريق سلك نحاسي. وفي 1971، جمع نظام “اربانت” (مختصر الاحرف الأولى من Advanced Research Projects Agency Network) في إطار شبكة، عدة آلات من الطراز هذا تتواجد في كاليفورنيا وأوتاه. كان الهدف في البدء عسكريا: حماية المعطيات الاستراتيجية في حال وقع هجوم سوفياتي شامل والقدرة على التواصل لتنظيم هجوم معاكس: لقد ولدت الانترنت. بعد عشرين عاماً وبفضل دمقرطة المعلوماتية، حلّت الشبكة في المنازل. في فرنسا التي تراوح عدد مستخدمي الإنترنت فيها بين 200 ألف و300 الف سنة 1995، وبلغ 6.3 مليون مستخدم في 2001 ثم 15.6 مليون في نهاية 2003، يستخدم 52 مليون فرنسي الشبكة اليوم. ومع التزايد التدريجي لقوة الحاسبات ولقدرات الشبكات، بات متاحاً رقمنة المزيد من الوثائق المختلفة التي تحتوي نصوصاً واصواتاً وصوراً ومقاطع فيديو، وصار في الوسع إرسالها مجاناً تقريباً الى اجهزة كمبيوتر في اقاصي العالم.

بيد أن هذه الثورة تجاوزت بأشواط أبعادها التقنية: لقد افضى العصر الرقمي الى انقلاب عميق في المجتمع. وتسارع كل شيء في العقد الاول من الالفية الجديدة. تسبب انطلاق الاقتصاد الإلكتروني،  على غرار منصة “أمازون” على سبيل المثال، في اصابة الاقتصادات التقليدية بالهشاشة. وجاءت الشبكات الاجتماعية – تأسس “فيسبوك” في 2004- ثم اختراع الهواتف الذكية في 2007 ليغيرا سبل تواصلنا. وباتت السمة الافقية واللا جسمانية محركي دينامية كونية تلامس كل النشاطات: من صناعة السيارات إلى المدرسة مروراً بالزراعة والمصارف والتمويل… وأعيد طرح السؤال عن البنى وعن الإجراءات التقليدية: ما معنى الحدود وماهيتها في عالم شديد التواصل؟ كيف سيصبح التعليم عندما تكون المعرفة على طرف إصبع بفضل الهواتف الذكية؟ ما مصير وما هو قطاع الخدمات في فضاء يتبادل فيه الافراد في ما بينهم الخدمات على غرار ما يجري في الاقتصاد التعاوني؟ يؤكد الاختصاصيان في المجال الرقمي هنري فردييه ونيكولا كولن في كتابهما “عصر الكثرة” “يقبع التغيير الاول والاهم، برأينا، هنا: في الظهور المرتبك والمتردد لمجتمع الند للند [المصطلح مستخرج من عالم المعلوماتية ويشير الى ان كل جهاز هو متلق وخادم في آن واحد]، مجتمع الثقة الموزعة والعلاقات الافقية”.

بل ثورة في الثورة تعلن عن نفسها، من خلال تطوير “البلوك شين” (blockchain) وهي تكنولوجيا تستخدم حاليا في شراء وبيع النقود المشفرة على غرار “البيتكوين”. وهو نظام يستجيب للانترنت الهجينة: تتيح الشبكة تبادل المعلومات تبادلاً غير مركزي بفضل البريد الالكتروني، خصوصاً. لكن طرفاً ثالثاً حائز على الثقة (منصة على غرار “اوبر” التي تعمل كوسيط بين الزبون وبين السائق) كان على الدوام ضرورياً لنقل المال او الاشياء القيّمة مثل سندات الملكية، من اجل ضمان أمن الانتقال. وبفضل البلوك شين، أصبحت أجهزة الكمبيوتر تتولى هذه المهمة. يستطيع المستخدمون الآن إجراء عمليات نقل الاموال او اي عملية اخرى بين طرفين، مع سائق او مع مستأجر، على سبيل المثال من دون وسيط. وتنشأ شركات جديدة قائمة على هذه التكنولوجيا. ويبدو أن “اوبر” و”ار بي ان بي” التي لم تمر بعد عشر سنوات على تأسيسها، تشعر بالأسى لذلك.

يتطور كل شيء تطوراً سريعاً الى حدّ لا نستطيع فيه أن نتبين ملامح عالم الغد. واحدة من خصائص هذه الثورة هي أنها غير قابلة للحصر. ويؤكد هنري فردييه ونيكولا كولن أن “المهم ليس الارقام بذاتها، بل التسارع. كم من شخص سيعمل في آخر حياته المهنية بذات التكنولوجيات التي عمل بها في شبابه. ما من أحد سيستطيع إنجاز عمل مهني بالأدوات التي كانت مألوفة عنده”. وأصبحت مسألة امتلاك ناصية التكنولوجيا الرقمية مسألة حاسمة. ولا يتوقف حجم المواد التي تنتقل على الشبكة (الظاهرة المسماة big data) عن الازدياد ما يطرح اسئلة اخلاقية على نحو ما يمكن التكهن به من فضيحة “كامبريدج اناليتيكا” التي كشفت التصدعات في “فيسبوك”. لكنها طرحت ايضا تساؤلات تتعلق بالبيئة، فالمراكز التي يجري فيها انتقال المعطيات تصبح أكبر فأكبر وتستهلك المزيد من الطاقة. وتطوير الذكاء الاصطناعي (AI) ينبئ بمستقبل تكون فيه الروبوتات حاضرة في كل مكان. هل ستكون هذه التغيرات للأفضل او للأسوأ؟ لا يستطيع احد الاجابة اليوم. الثورة الرقمية التي نغذ الخطو نحوها هي من دون ريب الثورة الأولى التي ستفلت من السيطرة البشرية.

هذا المقال مترجم عن صحيفة Le Monde ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط التالي