لا يسعى هذا المقال إلى السؤال حول موضوع العلاج بالموسيقى من زاوية انّه وهمٌ أم حقيقة. فهذا السؤال قد تخطاه الزمن وأصبح أمر هذا العلاج محسوماً لا لُبس في حقيقته العلمية المُرتكِزة على الأبحاث الطبية السريرية واكتشاف تأثير الموسيقى نفسياً وبيولوجياً في الإنسان. إنما السطور هنا تشكل بحثاً متواضعاً في أسباب عدم انتشار مثل هذه العلاجات في العيادات الطبية والمستشفيات، كما في عدم تبنيها من قِبل البعض وحتى انعدام ممارسة تطبيقاتها العيادية في بلدان كثيرة.
تجدر الإشارة الى أنّ العلاج بالموسيقى، هو أحد فروع العلاج بالفن، ولكن التأثير الكبير للإيقاع والصوت الموسيقيين، يمنح هذا العلاج تميّزاً جلياً عن بقية العلاجات الأُخرى التي تعتمد على المسرح والدراما أو على الرسم والتلوين والرقص. إنّ التأثير النفسي- الفيزيولوجي الذي تبثّه الموسيقى يتفاعل حُكماً بمجمل العمليات البيولوجية للجسم البشري.
إذاً في الايقاع والنغم قوة هائلة، ولكنّ الفهم التاريخي، ذا البعد الميتافيزيقي/ السحري في تفسير منبع قوة الموسيقى وكيفية تأثيرها في نفوسنا، هو ما يُثير اللغط والتشويش على العلاج بالموسيقى حتى يومنا هذا، برغم الاكتشافات العلمية الحديثة الكثيرة في هذا الصدد.
وبرغم أن هذه العلاجات قد استحصلت على شرعيتها العلمية بدايات القرن العشرين، إلا أنها ما زالت تُثير جدلاً واسعاً في بعض الأوساط العلمية كما في أوساط العامة من الناس. إذْ يطرح هذا الجدل مجموعة من الأسئلة والإشكاليات التي تراكمت في مسار تطور تاريخ الطُب والدواء، التي بدورها غيّرت بشكل جذري مفاهيم تشخيص الداء وطرائق علاجه من طبٍ تقليدي شعبي إلى آخر حديث مؤسس على العلم والابحاث والتجارب السريرية.
هذه الإشكاليات المتراكمة تركت وما زالت تترك ظلالاً من الشكّ والحذر حول فعالية وشمولية العلاجات بالفن والموسيقى على وجه الخصوص. وإحدى هذه الإشكاليات تكمن في فهم مضمون كلمة “علاج” التي تعني في الطب الحديث سلسلة من الإجراءات تبدأ من الفحوصات السريرية والتحاليل المخبرية والصور الشعاعية في الكشف عن المرض يتبعها علاجات بالادوية المُوَجهة وقد تنتهي بالتدخل الجراحي. في حين أنّ العلاج بالموسيقى بدأت مفاهيمه تظهر حتى قبل ترسخ الطب التقليدي وارتبطت ممارساته بالطب الشعبي القديم الذي بدوره كان يلاحظ أعراض المرض من دون فهم مسبباته فيصف الأعشاب المُهدئة لعلاجها. في حين أنّ مفهوم العلوم الحديثة للعلاج بالموسيقى ينحصر بكونه علاجاً استكمالياً تحفيزياً يستتبع العلاجات الطبية السريرية والتدخلات الجراحية.
وبكلام أدق، العلاج بالموسيقى من وُجهة نظر الطب الحديث لا يشفي المرضى من أمراضهم، إنما يأتي دوره لاستكمال عملية الشفاء وتسريعها، عبر تهيئة المناخ الصحي والنفسي، بعد تدخلات علاجات مُحددة قد تكون جراحية، أدوية كيميائية، أشعة أو تحليلات نفسية.
الطبيب الساحر
لا يعود تاريخ استعمال الصوت الموسيقي في علاجات أمراض الجسم البشري إلى الحقبة الحديثة والمعاصرة، بل قد يرجع تاريخه الى حقبات بعيدة في التاريخ البشري القديم. إستُعمل الصوت المُمَوْسق إيقاعًا أو نغمة في المعابد خلال معظم الطقوس الدينية، تعبداً للآلهة وطرداً للشر وأرواحها. الأمراض والعلل التي تُصيب جسد الإنسان اُعتبرت صُنفاً من هذه الشرور. في تلك الأزمنة القديمة استخدمت الكهانة shamanism الصوت الموسيقي والإيقاع في طقوس العبادة. فأمسى دور الكاهن-الساحر shaman ليس فقط وسيطاً بين الآلهة والبشر لحمايتهم من الكوارث، بل وأيضاً كان دوره الطبيب- الساحر الذي يطرد الأرواح الشريرة من نفوسهم ويُطهّر الأمراض من أجسادهم، عبر طقوس يرافقها صوت الإيقاع والغناء.
ميتافيزيق التطهْر
نزعة العلم التي بدأت بالظهور لدى فلاسفة الإغريق باعتبارها بحثاً منظماً وخالياً من الأساطير والخرافات، ظلت عموماً ساذجة كونها اكتفت بالتأمل العقلي النظري مُستبعدة حقل التجربة والبرهان. ومع هذا فقد رُصدت أولى المحاولات الفلسفية في ربط قوة الموسيقى وتأثيرها في الجسد، عبر كتابات الفيلسوف الإغريقي الأول أرسطو الذي شدد على أهمية الصوت الموسيقي في عملية التنفيس عن الكرب النفسي وتطهير الجسد من عِلَلِه. بنى أرسطو، عبر التأمل والملاحظة، أطروحته حول تأثير صوت الموسيقى في الإنسان، مُستخدماً “فعل التطهّر” للموسيقى ومُؤسساً بذلك مفهوماً فلسفياً ميتافيزيقياً للقوّة الشفائية الكامنة في الموسيقى.
إستُعمل الصوت المُمَوْسق إيقاعًا أو نغمة في المعابد خلال معظم الطقوس الدينية، تعبداً للآلهة وطرداً للشر وأرواحها. الأمراض والعلل التي تُصيب جسد الإنسان اُعتبرت صُنفاً من هذه الشرور.
استمر دور الكاهن- الساحر لقرون طويلة برغم ظهور الأديان الابراهيمية المُوَحِّدة التي اعتبرت “الشامانيزم” هرطقة وبدعة شيطانية، فحرّمت ممارستها وعوقب بالموت كل من تجرأ على ذلك. وقد استتبع هذا حُرم على الموسيقى والموسيقيين، إلا بما يخدم الإيمان بالله الواحد. كان هذا المنع والحُرم ضرورة حيوية لترسيخ سلطة الأديان الجديدة في المجتمع، وإرجاع قوة الشفاء من الأمراض إلى مصدر الإله الواحد وبشفاعة من سلطاته الدنيوية.
التداوي بالمقامات الموسيقية
في حين شهدت المرحلة الذهبية لدولة الخلافة الإسلامية في القرنين الميلاديين التاسع والعاشر، على نهضة علمية ساهمت فيها حركة الترجمة لمعظم تراث الحضارة اليونانية، ما أدى إلى تطور هائل في الفلسفة والعلوم ومنها الطُب والعلاجات الطبية، على أُسس الملاحظة والاستدلال. وبرزت في المرحلة أسماء مثل الكِندي والفارابي وابن سينا والرازي، شخصيات إسلامية اشتغلت في الفلسفة والطب والموسيقى والرياضيات.
الكندي وهو أشهر أطباء العصر الإسلامي كان أول من وضع نظرية الموسيقى العربية في حين انّ الفارابي كان مخترع آلة القانون. الإثنين أعطيا أهمية كبيرة لدور الموسيقى في علاجات الأمراض النفسية والجسدية. ووفقاً لكتابات الفارابي المُوَثّقة في هذا المجال، فقد ميّز تأثير المقامات الموسيقية في النفس تبعاً لنوع المقام، مُحدداً مقام الراست لمعالجة مرضى الشلل، ومقام العراق لعلاج الحمى وارتفاع الحرارة، أما مقام زنجران فصُنِّف لعلاج أمراض القلب، في حين أنّ مقام الحجاز، خصص لعلاج مشكلات التبوُّل. بعد هذا وضع الرازي بالتعاون مع إبن سينا تطبيقات عملية لنظرية الفارابي الموسيقية في علاج الأمراض.
صحيح أنّ العلماء العرب طوروا الأساليب المُتّبعة في الطب وعلاجات المرض مستندين الى نظرية الاستدلال والبرهان، كما كانوا سبّاقين في صياغة نظرية العلاج بالموسيقى، إلا أنّ تطبيقات هذا العلاج من منظار اليوم تبدو على كثير من التبسيط والسذاجة. وقتذاك كان العلاج بالموسيقى محصور في قصور الأمراء وحاشية الخلافة، وقليل منه متوفر للعموم من الناس، وذلك تبعاً لإشكالية تحريم الموسيقى في الإسلام والتي كانت وتيرتها تعلو وتنخفض بحسب سياسة سلطة الخلافة الدينية. ومع ذلك فقد أتى تأثير العلاج بالموسيقى عند العرب في شفاء المرضى غير ذي جدوى، ليس فقط بسبب بُعده عن البحث العلمي التجريبي غير المتوفّر في ذاك الوقت، ولكن أيضاً بسبب عدم قدرة العلماء المسلمين على إماطة اللثام عن ظاهرة الصوت الموسيقي وفِعله البيولوجي والاجتماعي في الدماغ. فكان هذا من شأنه استمرار حال من الضبابية والمبالغة، تلف تطبيقات هذا العلاج.
أما العلاج بالموسيقى في القرن التاسع عشر عند الأوروبيين فكان مطعوناً بصُدقيته من الناحية العلمية، فاستمر مُستبعداً من قبل الأطباء وأساليب علاجهم للمرضى، برغم صدور بعض المقالات في المجلات العلمية التي تشدد على التأثير الإيجابي للموسيقى في الصحة النفسية والجسدية.
العلم vs الخرافة
انطلاقاً من عصر النهضة والأنوار في أوروبا، ومروراً بالثورة الفرنسية والثورة الصناعية، وانتهاء بعصر العلوم الحديثة في القرن العشرين، قرون كثيرة شهدت على معارك قاسية بين العلم والتفكير العلمي من جهة، وبين الخرافة والتفكير الغيبي من جهة أخرى. معارك استمرت طويلاً وقضى الكثير من العلماء نَحْبهم في سبيل التقدم بالبحث العلمي ونزع الخرافة عن تفسير الظواهر الطبيعية وكتابة جديدة للتاريخ. خطوة بعد خطوة كان العلم يربح المعركة ضد الخرافة والتفكير الغيبي. وفي ظل الاكتشافات العلمية والتكنولوجيا الحديثة للقرن العشرين تأسس الطب الحديث وصار اكثر تخصصاً وتشعباً، وبفضله أصبحت نسب الشفاء كبيرة من امراض كثيرة كانت في السابق مميتة.
اكتساب الشرعية العلمية
الانطلاقة الحقيقية للعلاج بالموسيقى، بدأت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وتعززت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أوكلت لمجموعة من الموسيقيين مهمات الترفيه عن الجنود الذين يعانون من الآلام الجسدية والنفسية، نتيجة تعرضهم لإصابات خطيرة في تلك الحروب، فكانوا يقدمون لهم المقطوعات الموسيقية بشكل يومي في المستشفيات الميدانية والمصحات.
لاحظ الأطباء حينها نتائج ايجابية كبيرة على هؤلاء الجرحى والمعوّقين انعكست في سرعة شفائهم.
هذا ما دفع بمراكز الأبحاث الطبية لدراسة أثر الموسيقى على الدماغ والاعصاب. وقد توصّلت الأبحاث العلمية والتجارب السريرية الى اكتشافات ثورية حول مسؤولية الموسيقى في تحفيز إفراز مركّبات طبيعية اسمها الإندورفينات، تشبه في تركيبها عقار المورفين المضاد للألم. كما توصلت الأبحاث إلى الكشف عن العمليات الكيميائية المعقدة داخل الدماغ البشري لحظة سماعه موسيقى محددة، إذ يبدأ إفراز هرمونات السيروتونين والدوپامين والأوكسيتوسين أو كما يسميها البعض هرمونات السعادة، وخلصت إلى أنّ هذا الإفراز والتحفيز له تأثير نفسي وفيزيولوجي كبير في المرضى، إذ يُسرع في عملية شفائهم.
خُلاصات الأبحاث العلمية والنتائج التطبيقية السريرية التي توصل إليها العلماء فيما يخص استخدام الموسيقى كعلاج تكميلي، أزال عن الظاهرة الموسيقية لُبس المفعول “السحري” الذي مارسته الكهانة في غابر الزمان.
المقاربة البحثية صوبت المنطلقات العلمية لتأثير الموسيقى في البشر، بعدما كانت غارقة في بحر من الغيبيّات لقرون خلت، كما قلبت المفاهيم والأسس التطبيقية للعلاج بالفن والموسيقى بحيث أصبحت تقف على قدميها بعدما كانت تقف على رأسها في زمن الفارابي والكندي وابن سينا.
استناداً إلى هذه الأبحاث، لجأ عدد من الأطباء في أميركا تحديداً إلى استخدام الموسيقى كعلاج يستتبع أو يترافق مع العلاجات السريرية الأولية. وعام 1940، أنشأت جامعة ولاية ميتشيغان الأميركية أول برنامج في العالم لمنح درجة علمية في العلاج بالموسيقى، ثم عام 1950 عقد أول مؤتمر للعلاج بالموسيقى، ليتبعه عام 1964، صدور أول مجلة للعلاج بالموسيقى، وفي عام 1976 تم تأسيس نقابة المعالجين الأميركيين بالموسيقى.
في يومنا الحالي تنتشر في بلدان العالم الأول وبعض البلدان النامية أساليب العلاج بالموسيقى. وتُمارس كمهنة أكان في عيادات طبية متخصصة أو في المستشفيات التي بدورها استحدثت قاعات خاصة للعزف الموسيقي أو للبث المُبرمج تبعاً لنوع المرض. مُمارسو هذه المهنة ينطلقون من دراسة أساسية في الفنون والعزف الموسيقي، تلحقها دراسة ثانوية في علم النفس الاجتماعي.
ولكن الإقبال على هذا النوع من العلاجات ليس كبيراً نظراً لأسباب تتعلق؛ أولاً بوجود شريحة سواء أكانت من الأطباء أو من المرضى لا تُولي أهمية له، وثانياً لارتفاع الكلفة المادية المترتبة عليها، وثالثاً لعدم توفُّر الكادر المتخصص الذي يغطي كل العيادات والمستشفيات.
في بعض البلدان العربية مثل مصر وتونس والأردن، هناك مبادرات لتفعيل اتجاه العلاج بالموسيقى، لكنها لم تتعدَّ عملية إنشاء جمعيات لنشر ثقافة هذا العلاج، وإصدار كتب تُلقي الضوء على أهميته ومرتكزاته العلمية، في الوقت الذي يندر وجود العيادات المتخصصة له.
أبواب لبنان الموصدة
في لبنان، للأسف لا يوجد من كل هذا إلا قِلّة من المتخصصين لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، تحمسوا لهذا الاختصاص المهني، فأقبلوا على دراسته في بعض الجامعات اللبنانية الخاصة أو في الخارج.
ولكن، وبرغم أنّ مستوى الاستشفاء والطبابة في لبنان متقدم، إلا أن سوق العمل لمهنة العلاج بالموسيقى ما زال مُوصداً للأسباب التي ذكرتها سابقاً، ولأسباب إضافية أُخرى تتعلق بالطبيعة الاجتماعية المحافظة للجماعات اللبنانية معطوفة على فوضى ممارسة المهن الحرة عموماً. تضاف إلى كل هذه الأسباب الآنفة الذكر حالة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعاني منه كل شرائح المجتمع اللبناني وقطاعاته الانتاجية، ليصبح مستقبل ممارسة هذا النوع من العلاجات في لبنان مُعلّقاً وبلا اُفق في المدى المنظور.
يبقى للإنسان- الفرد، أينما وُجد على سطح الكرة الأرضية، وعيه الذاتيّ بأهمية الموسيقى في حياته اليومية، وقدرته على الاطلاع والاستفادة من أحدث الاكتشافات العلمية في تأثير موضوع السماع الموسيقي المناسب نوعاً وكماً، سعياً إلى تخفيف آلامه المصاحبة للأمراض، وتسريع عملية الشفاء منها، وإزالة التوتر النفسي وتنشيط الذاكرة وتحفيز الدماغ على إفراز هرمونات السعادة.
إقرأوا أيضاً: