مرة أخرى، تبدو رهانات التهدئة الإقليمية بين النظام الإيراني ودول الخليج ضعيفة، بينما تواجه الانفراجة الصينية بين الخصمين الإقليميين، طهران والرياض، معضلات جمّة. ففي غضون فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز الشهر، منذ فتح السفارات بين البلدين، تندلع الأزمات، مجدداً، إثر الخلاف على حقل نفطي قبالة سواحل الخليج.
الخلاف حول حقل غاز “الدرة” يعود إلى ستينات القرن الماضي، إلا أنه عاود الظهور بعد تلميح مسؤول إيراني، برغبة بلاده في بدء التنقيب في الحقل النفطي الذي يقع في المنطقة الاقتصادية لإيران، “آرش”. فيما تطالب طهران بحقوقها في الجزء الشمالي من الحقل.
تصاعد الأزمة المتزامن مع التقارب الخليجي- الإيراني، يكشف عن تباينات سياسية، ومساحات خلاف تؤدي، حتماً، إلى تصدعات بين الطرفين، بخاصة مع التنافس الجيو-استراتيجي في ملفات أبرزها الحرب باليمن، والمرتبطة بنفوذ الميليشيات الولائية في البحر الأحمر، وسيطرتها على ممرات الملاحة الدولية، وقرصنة السفن النفطية. ومع سلاح النفط الاستراتيجي، فإن الاتفاق على تطوير الحقل بين السعودية والكويت، العام الماضي، تعتبره طهران “غير قانوني”. في حين تؤكد المملكة والكويت “حقهما الحصري في استغلال الثروات الطبيعية”.
وإذ يبدو أن مسالة ترسيم الحدود البحرية التي تفاوض عليها السعودية لحل الأزمة لن تكون حلاً سهلاً أو نهائياً، يوضح معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أنه تم اكتشاف حقل الدرة في منتصف الستينات في وقت لم تكن الحدود البحرية معروفة بشكل جيد، ولم يكن الغاز يعتبر من الأصول الاستراتيجية المهمة التي تسعى الدول للحصول عليها.
تصاعد الأزمة المتزامن مع التقارب الخليجي- الإيراني، يكشف عن تباينات سياسية، ومساحات خلاف تؤدي، حتماً، إلى تصدعات بين الطرفين.
امتيازات بحرية
في ذلك الوقت، منحت الكويت وإيران امتيازات بحرية متداخلة بسبب هذه الحدود البحرية غير المرسومة، بينما أنشأت الكويت والسعودية ما يعرف بـ”المنطقة المحايدة المقسومة”، في منطقة الحدود البرية والبحرية والتي تضم حقولاً نفطية مهمة، من أبرزها الخفجي والوفرة. وتم توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم لتقسيم المنطقة المحايدة وتقسيم المنطقة المغمورة المحاذية لها.
ووفق تقرير معهد واشنطن، يقع حقل الدرة في الجزء البحري من المنطقة المحايدة شمالاً، إلا أنه في تفسير طهران يمتد أيضاً إلى مياهها. ولم يتم الاتفاق، حتى الآن، على الحدود الشرقية للمنطقة التي تحدد حقل الدرة، وهو ما تسعى الأطراف المعنية إلى إنجازه منذ عقود.
بالتالي، يوضح إرك لوب، الأكاديمي الأميركي في جامعة فلوريدا، أن الأزمة هنا تتجاوز فكرة ترسيم الحدود البحرية إلى الأبعاد الاستراتيجية لدى كل طرف بشأن الاستفادة من الحقول النفطية، موضحاً لـ”درج” أن طهران تحتاج إلى ما تعتبره حقوقاً في الحقل النفطي بمنطقة الخليج لتحقيق فوائد عديدة سياسية واقتصادية، منها تخفيف وطأة العقوبات الدولية المتسببة في خسارة هائلة لمواردها النفطية، فغالبية العقوبات استهدفت القطاع النفطي.
ونهاية حزيران/ يونيو الماضي، ذكرت شركة النفط الوطنية الإيرانية أنها ستباشر عملية التنقيب في منطقة حقل الدرة.
لا يتوقع لوب أن يكون التفاوض على ترسيم الحدود، كما تطالب به الرياض، وسيلة لإنهاء الخلاف التاريخي، لكنه يشير إلى أن الأزمة ستكون بمثابة “اختبار” لعودة العلاقات والانفتاح بين البلدين، وكاشف، في الآن ذاته، عن طبيعة المصالح والأهداف المرحلية، المحتملة والموقتة، وراء الاتفاق الذي تم برعاية الصين.
فمؤشرات التوتر بين السعودية وإيران كثيرة وظهور نقاط خلافية ليس مباغتاً، حتى لو كان تفجرها “سريعاً” و”مبكراً”. بيد أن ذلك لا يمنع من “اعتبار القضايا الحساسة التي تبعث بتوترات بين الطرفين صورة على مدى متانة الانفراجة الصينية، والعلاقات الدبلوماسية الجديدة”. يقول لوب.
ويردف: “النفط المكتشف حديثاً في مناطق مثل شرق المتوسط، ومع تفاقم الأزمة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، تحول إلى سلاح استراتيجي للاستفادة من احتياطيات الغاز الطبيعي (إجمالي احتياطيات النفط في حقل الدرة يبلغ حوالى 310 ملايين برميل من النفط و20 تريليون قدم مكعب من الغاز)، بالنسبة إلى إيران والسعودية وآخرين”. مع الأخذ في الحسبان أن الكويت ستتعامل مع المسألة بدرجة أكثر صلابة، فهي تحظى باحتياطيات أقل نسبياً من الغاز. ومن ثم، تلجأ في اعتمادها على الواردات. وقبل عامين افتتحت أول منشأة دائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، لتخفيف الاعتماد على النفط الخام، وفق تقرير لبلومبرغ.
ويقول الاكاديمي الأميركي، إن النخبة السياسية في الخليج، وتحديداً في الرياض والكويت، لديهما اهتمامات متزايدة بتطوير احتياطيات الغاز الطبيعي لتقليل اللجوء إلى النفط لتوليد الطاقة. وفي ظل هذا السباق المحموم تسارع إيران للحاق بخصومها الإقليميين، وتسعى إلى استثمار الخزانات الضخمة للغاز لديها، ثم التعافي من سنوات العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية والعزلة الدبلوماسية.
وأكد بيان وزارة الخارجية الكويتية أن “دولة الكويت والمملكة العربية السعودية وحدهما لهما حقوق حصرية في الثروة الطبيعية في حقل الدرة”. وتابع: “دولة الكويت تجدد دعوتها للجانب الإيراني لبدء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية”.
لكن محسن خجسته مهر، العضو المنتدب لشركة النفط الوطنية الايرانية، لمح إلى أن “هناك استعدادات كاملة لبدء الحفر في حقل آرش النفطي المشترك”. وقال: “تم تخصيص موارد كبيرة لمجلس إدارة شركة النفط الوطنية الإيرانية لتنفيذ خطة تطوير هذا الحقل”.
وعقّب وزير النفط الكويتي، سعد البراك، على ذلك قائلاً إنه “فوجئ” بالمخططات الإيرانية التي رأى أنها “تتعارض مع المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية”.
ونقلت وكالة الأنباء الكويتية عن البراك قوله: “نرفض رفضاً قاطعاً وكاملاً الأنشطة الإيرانية المخطط لها حول مواقع حقل غاز الدرة البحري”.
ولم يختلف البيان السعودي لوزارة الخارجية عن نظيره الكويتي، إذ شدد على تمتع المملكة “بحقوق كاملة” إلى جانب الكويت في حقل الغاز والنفط المتنازع عليه في الخليج العربي الغني بالموارد.
إقرأوا أيضاً:
الأزمات والثورات
إذاً، تفاقم الأزمات السياسية والإقليمية بين إيران والمملكة مرتبط بمشاريع إقليمية للهيمنة على المنطقة، الأمر الذي تزايد، خلال العقد الماضي بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، والتغيرات الجيوسياسية التي شهدتها عدة بلدان بعد سقوط أنظمة عربية في مصر وليبيا وتونس، ما نجم عنه تحالفات وسياسات جديدة ومغايرة. فكانت الثورة السورية واليمنية ضمن ساحات التنافس بين طهران والرياض. ويبدو أن إدامة الصراع من دون أفق كان سبباً اضطرارياً للابتعاد من المواجهة الخشنة واللجوء إلى الانفتاح السياسي والدبلوماسي.
وهنا، يرى الباحث والأكاديمي المختص في الشؤون السياسية والدولية، الدكتور عبد السلام القصاص، أن المغامرات العسكرية للطرفين كانت نتيجتها “كارثية” بينما لم تجد الرياض في حليفها الاستراتيجي بواشنطن “ملاذاً لحمايتها ودعمها عسكرياً أمام هجمات الميلشيات الإيرانية سواء على منشآت أرامكو، أو القرصنة البحرية وتهديد الملاحة الدولية، فضلاً عن تداعيات الحرب اليمنية التي تعيق مشروع الأمير محمد بن سلمان 2030”.
ويردف القصاص لـ”درج”: “شركاء واشنطن في المنطقة، شعروا بأزمة ثقة تجاه الولايات المتحدة. بالتالي اعتمدوا على تنويع مصادر علاقاتهم والانفتاح الموقت والبراغماتي على خصومهم لحل الأزمات والتوصل إلى انفراجة بدلاً من الانسداد الذي شهدته فترة الاستقطاب الحاد بعد الربيع العربي، وقد حدث ذلك، مثلاً، في اتفاق العلا الذي لم ينه الخلاف الخليجي الخليجي بين دول الرباعي وقطر، وتكرر في الانفتاح الدبلوماسي بين الخليج وإيران، برعاية الصين”.
وإلى ذلك، التقى وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، بنظيره السعودي عبد العزيز بن سلمان على هامش مؤتمر “أوبك” في فيينا، نهاية الأسبوع الماضي. فيما ذكرت وكالة “شانا” للأنباء التابعة لوزارة النفط الإيرانية: “ناقش الوزيران القضايا الثنائية بين إيران والسعودية، بما في ذلك الاستثمار في قطاع النفط والغاز واستكشاف إمكانية الاستثمار المشترك”.
وبحسب بيانات إيرانية وسعودية حول هذا اللقاء، فإن المملكة تؤكد موقفها من التفاوض مع الجانب الإيراني و”البدء في مفاوضات لترسيم الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة بين المملكة والكويت كطرف تفاوضي واحد مقابل الجانب الإيراني، وفقاً لأحكام القانون الدولي”.
لذلك، يرى الباحث والأكاديمي المختص في الشؤون السياسية والدولية، عبد السلام القصاص، أن الشروط السياسية والإقليمية الراهنة تؤكد أن الأزمة الجديدة والناشئة بين الخليج وإيران ستحتاج إلى “كسب وقت بين الأطراف الثلاثة لإيجاد حلول من دون احتمال الدخول في نزاع كبير. بل سيكون من الضروري الوصول إلى تفاهمات من خلال اللقاءات السياسية والدبلوماسية. فالنزاع على الحقوق النفطية له تداعيات معقدة في ظل الوضع الدولي المأزوم. فواشنطن تضغط على شركائها الخليجيين في حربها ضد روسيا، كما تصطدم بتحالف الرياض مع روسيا للحفاظ على أسعار النفط العالمية مرتفعة، برغم ضغوط الولايات المتحدة لمضاعفة الإنتاج”.