لا أذكر أن أمي تجرأت على الذهاب الى سهرة، ولو سهرة عرس. تحوّل المكوث في المنزل منذ ولادتي، الى واجب أزلي تجدّد مع ولادة أخويّ، أضيفت إليه قائمة طويلة من المحظورات التي يجب أن تتّبعها أمي، وكما اكتشفت لاحقاً، تتّبعها كل أم بهدف نيل لقب “الأم الجيدة”. فمن هي الأم الجيدة؟ وهل “القداسة” التي ارتبطت بها طوال قرون كانت احتفاءً أم طوقاً؟
هي التي تأكل فتات الطعام ليشبع أبناؤها، تسهر لننام، تعمل لنتعلم … ولائحة مدائح تتكرر دوماً خصوصاً في يوم عيد الأم.
تمتلئ فضاءات السوشيال ميديا بحب الأم، غالباً من منظار يقوم على تفضيل الغير- الطفل على الذات حتى لو عنى ذلك تأجيل تحقيق بعض الأحلام وتكبّد عناء عظيم والتخلّي عما قد يُدخل بعض الغبطة إلى القلب.
في مجتمعاتنا التي تميّز ضد المرأة ثقافةً وقوانين في كل مجالات الحياة، سواء في الزواج أو الطلاق أو الحضانة أو الإرث وحتى اللباس، تمنح النساء مرتبة شرف هي الأمومة.
وهي مرتبة رومانسية تبدو كغلاف لقبول الأمهات دوماً بنوع من الإجحاف، كون الأم هي الوحيدة التي تتولى مهاماً داخل المنزل وخارجه، أو لتحمّلها زواجاً فاشلاً كي تحافظ على أسرة وبيت يترعرع فيه أطفالها، أو لأنها ناضلت للحصول على حضانة أطفالها بعد الطلاق بوجه ظلم العادات والتقاليد والمحاكم. لذلك، تبقى التنازلات غير المقدرة والمهام اليومية والخدمات الرعائية الممارسة داخل إطار المنزل، أجمل تجليات الأمومة مقارنة باشتباكات أخرى أقل رومانسية تقودها الأمهات ليكنّ “أمهات صالحات”.
لكن المأزق ليس فقط بالوسيلة التي تتبعها كل أم. إذ إن المشكلة الحقيقية تكمن في هدف إرادة الأمهات أن يكنّ “جيدات” بقوالب ومعايير جاهزة تحدّد كيفية الهدف عبر اتباع سلوكيات محددة. أن تكوني أماً جيدة يعني أن تضعي نفسك على آخر قائمة أولوياتك. وأن ترفضي شراء حذاء جديد أنت بأمسّ الحاجة إليه، لشراء لعبة لطفلك الذي على الأرجح يملك لعبة أخرى تشبهها. وأن تأكلي طعاماً بارداً لأنك متعبة الى درجة أنك لا تستطيعين تسخينه، لكنك ستفعلين ذلك إذا شعر أحد أطفالك بالجوع. أن تكوني أماً جيدة يعني أن تكذبي وتنكري باستمرار: لست جائعة، لست متعبة، لست منزعجة… حجج تقولها الأمهات دوماً لتبرير تفضيل أطفالهنّ على أنفسهن.
أحاول ابتكار طرق جديدة لا تضعني في خانة “الأم”، لأتجنب المتاعب التي يولدها الدور، بخاصة مع الأصدقاء الذين يصبحون اتكاليين، والشركاء الذين بالفعل يبحثون عن شريكة تهتم بهم كأمهم.
أن تكوني “أماً جيدة” يعني أن تختاري بكامل وعيك وإرادتك فعل ذلك كله وأكثر، لتكوني أماً جيدة، لأنك مقتنعة تماماً بأنه واجب أخلاقي تجاه عائلتك من شأنه أن يوفر لأفرادها حياة أسعد وأفضل. لكن هل ذلك دقيق؟ لا أعتقد، على الأقل ليس في جميع الحالات، منها علاقتي بأمي. ناهيك بالاتكالية التي قد يولدها تنازل الأم الدائم عن كل ما تحبه، والتي تخلق عبر ذلك أيضاً شعوراً دائماً بالذنب تجاه طلبات بسيطة نستعين بأمهاتنا للحصول عليها.
أذكر أنني، عندما كنت صغيرة، كنت أؤثر النوم جائعة على طلب ساندويش من أمي قبل النوم لأنني أعي أنها متعبة آخر النهار. وألوم نفسي إذا فشلت بتجميع مبلغ كاف من المال لشراء هدية عيد الأم الى حد الخجل من معايدتها في عيدها. وأفضّل ألا أكون موجودة بجانبها وألا أطلب شيئاً أو أقول شيئاً قد تفهمه كطلب، لأنني أعي أنها بتحقيقه لي سأشعر بذنب أكبر، لكن الحاجات الأساسية تغلب إرادتي الصلبة فأتجرأ أحياناً على طلب طبق أشتهيه أو ثياب أريدها لأواجه في ما بعد سيلاً من التذمر الداخلي والجلد المستمر على “وقاحتي” الزائدة بتحميل أمي أكثر من طاقتها. لتتحول الأمومة المقدسة الى شرط يستوجب على طفلة لم تبلغ المراهقة بعد، الاختيار بين الطعام والطمأنينة.
حددت “قدسية أدوار أمي” العلاقة بيني وبين أخوتي في ما بعد، بخاصة عندما كانوا حديثي الولادة. حاجتهم الى الاهتمام الدائم والرعاية غير المشروطة جعلت من عبء الأمومة أصعب ومن الذنب أكبر، لا سيما عند التفكير بكل المعاناة التي مرت بها أمي عندما كنت أيضاً حديثة الولادة، قبل أن أفهم عبء الدور الذي قامت به. ربط العلاقة بين أمي وأخوتي أعادني الى وقت لم أكن فيه واعية على مساهمتي المباشرة واللاواعية في تشكيل قدسية الأمومة التي ستلازمني الى الأبد كطفل أول للعائلة وكطفل شهد على إعادة تشكيل قدسية الأمومة تدريجياً من جانب إخوتي.
اليوم، لم تعد قدسية الأنوثة مجرد عبء على أمي أتحمل ذنبه كل يوم. بل أصبحت أيضاً أتبنى هذا الدور تدريجياً، إذ إن الأم هي المثال الأعلى الذي تحتذي به كل فتاة منذ صغرها. هكذا أصبحت أتبنى أدوار الأمومة شيئا فشيئاً لأرد بعض الجميل الذي قامت به أمي لي، كطريقة للتعبير عن مشاعر الحب للذين يحيطون بي. أجدني أكرر جملاً مثل “لا تنسى المعطف الطقس بارد” أو “ارتد حزام الأمان ريثما تقود السيارة” أوتوماتيكياً، لأنني اعتدت على سماعها ثم تكرارها تعبيراً عن الحب.
أحاول ابتكار طرق جديدة لا تضعني في خانة “الأم”، لأتجنب المتاعب التي يولدها الدور، بخاصة مع الأصدقاء الذين يصبحون اتكاليين، والشركاء الذين بالفعل يبحثون عن شريكة تهتم بهم كأمهم. لكن الدور المقدس يلازمني على رغم وعيي له وإدراكي العناء الذي يجبرني على تكبّده. بل تكرسه الثقافة التي تتعاطى مع وجوب تضحية الأم برومانسية.
أقدر كل ما فعلته ولا تزال تفعله أمي لأجلنا، لكن حبذا لو ترافق ذلك مع القليل من الراحة من فترة الى أخرى. ليس من أجلها فقط، لكن من أجل “جعل حياتنا أفضل” عبر تعليمنا حب الذات.
إقرأوا أيضاً: