fbpx

الكوتشينة ورهانات “تايتانيك”… للوصول إلى أوروبا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبلعون ريقهم. يفركون أكفهم، وعيونهم سادرةً تمعن في عدد الأرقام التي تظهرها أوراق الكوتشينة بين أيديهم، يتساءلون في سرّهم “كم مرة بعد سننجو؟ وكم مرة بعد سنموت؟”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم أصدق حين قال أحد المتفرجين: “دعوه يفوز، وإلا لن نصل إلى أوروبا”. من حسن حظي أن احدًا لم يلتفت لملامح وجهي المندهشة. الكل مشغولٌ بمراقبة سير اللعبة. وأنا مشغولٌ عن مراقبة أوراقي بالتقاط الأسئلة المتساقطة من عيونهم، والأجوبة المترامية بين جنبات شكوكهم.

 كانت المرة الأولى لي التي أجالس فيها مجموعة أشخاص حسبتهم غرباء عني. أشخاص اعتدت سماع أخبارهم في نشرات الأخبار والصحف على مدار أكثر من عقد من الزمن. أعمارهم متفاوتة. بدءًا من البالغين الذين قد تصل أعمارهم إلى 60 عامًا، وصولًا إلى المراهقين في سن الثالثة عشرة والرابعة عشرة. هذا من فلسطين وذاك من سوريا وآخر من العراق وإيران، وغيرها من بلدان لفظت أبناءها إلى حدود الحرية. 

يجتمع هذا الخليط في منزل كبير، مقسمةً غُرَفُه بطريقة لا تختلف كثيرًا عن تقسيمات الفصول داخل رواية أدبية. كل غرفةٍ فيها شخصيات لها حكاياتها وذكرياتها. تمثل الغرفة الأكبر فيه مجلسًا اساسيًا لبث المتعة واللهو. بين جدرانها، تستريح الحقائق الإنسانية هنيهةً، لتفسح للصحو مجالًا امام ملهاة الواقع وتلقائيته وعفويته، لحظة تجتمع مجموعة منهم في جلسات يومية منظمة، تجري من خلالها أحداث لعبة جماعية، تمثل في ظاهرها أوراق “الكوتشينة”. وفي باطنها، أوراق الأحلام والهواجس والتوجّس. لم تعد الرواية تبدو غريبة على الاطلاق عني. يكفي التماهي معها لأكتشف أن تلك الشخصيات ما تزال موجودة وحاضرة بآمالها وطموحاتها في الفكاك من هذه الرواية.

أنا لست بصدد ممارسة دور الحاجب. جباية الحكايات منهم ثمنًا لمشاركتي لهم اللعب، هو شيء غير مقصود. اللهم بدافع الفضول ومحاولة التملص من شِباك التجاهل الحذر. فمجالسهم لا يباح له التقصّي عن أسرار الهروب. الطرقات وخفر السواحل والشرائط الحدودية والمطارات وغيرها من تفاصيل تحتاج إلى ثقة كبيرة حتى تصبح في متناول الشخص الغريب. حسنًا، لم أعد – بعد أشهر متواصلة من لعب “الكوتشينة” برفقتهم – شخصًا غريبًا. لكن فعل الاستغراب هو محصلة ما جمعته في كل جلسة شاركتها معهم.

حين تبدأ الجولة الأولى، وتوزع أوراق اللعب على المشاركين، سينسى كل واحد فيهم كيف وصل إلى تركيا. هذا شرط نفسي مدبر لتمكين الواقع من الاستمرار. سيتجاهلون ماضيهم وتاريخهم وخبراتهم واشغالهم ودراستهم. يغضون الطرف عن كل شيء لا يشبه سفينة أو مركبةً عابرةً نحو القارة العجوز. سيضطرون ليكونوا أبطال روايتهم الجديدة التي لم تكتب بعد. ولا مانع، في سبيل مبتغاهم، من التنازل عن (بصيرتهم) فداء لـ”ساراماغو” وابطاله. وفداء لـ “المهرّب”، حاكم المنزل والمركبات والعبّارات. نعم، هم رهن إشارته وطوع خرائطه. يسيرون خلفه كما لو أنهم يسيرون خلف زمّار هاملين. جميعهم يصابون بحمى اللهفة لحظة يقاطع جولة اللعب رنين جهازه الخلوي. صمت يطبق على كامل الغرفة. يراقبون كلماته وتحليلاته. والأهم، أخباره عن آخر الرحلات ونجاحها أو فشلها. يبلعون ريقهم. يفركون أكفهم، وعيونهم سادرةً تمعن في عدد الأرقام التي تظهرها أوراق الكوتشينة بين أيديهم، يتساءلون في سرّهم “كم مرة بعد سننجو؟ وكم مرة بعد سنموت؟”  

لن يبقى لصحوهم غير صوت الصدفة المخنوق، والحظ الموروب خلف انتباه العسكر والحكومات. 

الجولة الثانية والثالثة لن يكون وقعهما سهلًا على دهشتي. استبدال لاعبين قدامى بآخرين جدد، يتيح لي تفسير رحلاتهم كيف جرى تدبيرها وتخطيطها وتوزيعها بين أيام الأسبوع. فالهجرة والنزوح نحو بلاد الـ”شينغين”(فيزا الاتحاد الأوروبي) لا تختلف عن نزوح لاعب عن ميدان اللعب لينتظر حظوظ مشاركته في جولة أخرى أو رحلة أخرى. عملية الانتقال بين اللاعبين تدفع الرابح إلى الشعور بأن أحلامه ستتحقق، وبأن جاك لم يكن أوفر حظًا منه حين كسب رهان مقامرة على طاولة الكوتشينة قبل صعوده إلى سفينة “التايتانيك”. والخاسر سنراه يعتكف إلى جانب المشاهدين، يتأمل حسرته بصمتٍ وهو يتذكر محمود درويش حين قال “مشى الخوف بي، ومشيت به حافيًا”.

أصحاب الخبرة بينهم، هم من حظوا بجولات كثيرة للهرب، باءت جميعها بالفشل. سيتحول كل ذي خبرة إلى شامان، يرعى شؤون القبيلة بحكمه وتجاربه. “أخرج قبل حلول العيد. الذهاب إلى رومانيا أفضل من الذهاب إلى هنغاريا. انتبه من البوليس الكرواتي. احذروا الصعود إلى سطح السفينة. دعوا النساء في مؤخرة السفينة، هن أكثر عاطفةً تجاه الحوادث…”. ثم بعدها، وبخفة لا تبررها سوى لحظات خاصة تحاول التملص من واقع الأشياء ومرارتها، سيتحول إلى كوميديان ينسف قسوة الأحداث والمواقف التي مرّ بها عند حدود وسجون البلاد المجاورة ويحولها إلى نكات وطرائف يتحايل فيها على مخاوف المستمعين. ولا شك أنه سينجح، لا بحكم براعته في تحويل التراجيديا إلى كوميديا، بل لأن المستمعين في حاجة إلى بعض تلك اللحظات المضيئة أمام عتمة المجهول الحالكة، درجةً ستستثير فيّ الضحك الخجول وأنا أراقب ابتساماتهم المفككة والمتهدّلة على وجوههم، متجاهلًا ما قاله تيودور أدورنو مرةً “إن الضحك لا يمنح دومًا الرغبة في الفرح والسعادة”.

هناك جدول للمهام (السخرة) ملصقًا على خد الحائط. فيه أشخاص أدرجت أسماؤهم لعمليات كنس وشطف وتنظيف المنزل طوال أيام الأسبوع. غريب كيف يكون للبيروقراطية وجود في مثل هذا المكان. وحسبي أن بعض تلك المهام وتنظيمها في سعيٍ محمومٍ يشير – وفق منظور أخلاقي مبتذل – إلى حياة الازدهار وفقًا لظروف الطبيعة ومآلاتها. لتصبح قيم التعاون وشروط السعادة والرفاهية المبتذلة في هذا المكان خاضعةً لـ”يودايمونيا” أرسطو دون منح اعتبارات لبقية الشروط الخارجية التي تعزز من هذه القيم التي رفضها “الرواقيون” كالصحة والجمال والثراء. لكنها تبقى قيماً مؤجلة، يتمعن فيها هؤلاء من خلف حدود البحار والبلاد الفاصلة بينها وبين جدران منازلهم المؤقتة. 

إقرأوا أيضاً:

"درج" | 06.12.2024

سوريا: سباق بين الغبطة واحتمالات الخيبة

جميعنا مأخوذون بالمشهد، نظام بشار الأسد يتداعى تحت أنظارنا، سؤال ما بعد السقوط، أو ما بعد انعقاد الخريطة على واقع مختلف، شرط سياسي لا بد منه، لكنه لا يستوي في بعده العاطفي مع السؤال السياسي. الكلام عن تأجيل السياسة إلى ما بعد انكشاف سير المعركة، يشبه طلب تأجيل نقد حماس إلى ما بعد نهاية الحرب…
17.07.2022
زمن القراءة: 4 minutes

يبلعون ريقهم. يفركون أكفهم، وعيونهم سادرةً تمعن في عدد الأرقام التي تظهرها أوراق الكوتشينة بين أيديهم، يتساءلون في سرّهم “كم مرة بعد سننجو؟ وكم مرة بعد سنموت؟”

لم أصدق حين قال أحد المتفرجين: “دعوه يفوز، وإلا لن نصل إلى أوروبا”. من حسن حظي أن احدًا لم يلتفت لملامح وجهي المندهشة. الكل مشغولٌ بمراقبة سير اللعبة. وأنا مشغولٌ عن مراقبة أوراقي بالتقاط الأسئلة المتساقطة من عيونهم، والأجوبة المترامية بين جنبات شكوكهم.

 كانت المرة الأولى لي التي أجالس فيها مجموعة أشخاص حسبتهم غرباء عني. أشخاص اعتدت سماع أخبارهم في نشرات الأخبار والصحف على مدار أكثر من عقد من الزمن. أعمارهم متفاوتة. بدءًا من البالغين الذين قد تصل أعمارهم إلى 60 عامًا، وصولًا إلى المراهقين في سن الثالثة عشرة والرابعة عشرة. هذا من فلسطين وذاك من سوريا وآخر من العراق وإيران، وغيرها من بلدان لفظت أبناءها إلى حدود الحرية. 

يجتمع هذا الخليط في منزل كبير، مقسمةً غُرَفُه بطريقة لا تختلف كثيرًا عن تقسيمات الفصول داخل رواية أدبية. كل غرفةٍ فيها شخصيات لها حكاياتها وذكرياتها. تمثل الغرفة الأكبر فيه مجلسًا اساسيًا لبث المتعة واللهو. بين جدرانها، تستريح الحقائق الإنسانية هنيهةً، لتفسح للصحو مجالًا امام ملهاة الواقع وتلقائيته وعفويته، لحظة تجتمع مجموعة منهم في جلسات يومية منظمة، تجري من خلالها أحداث لعبة جماعية، تمثل في ظاهرها أوراق “الكوتشينة”. وفي باطنها، أوراق الأحلام والهواجس والتوجّس. لم تعد الرواية تبدو غريبة على الاطلاق عني. يكفي التماهي معها لأكتشف أن تلك الشخصيات ما تزال موجودة وحاضرة بآمالها وطموحاتها في الفكاك من هذه الرواية.

أنا لست بصدد ممارسة دور الحاجب. جباية الحكايات منهم ثمنًا لمشاركتي لهم اللعب، هو شيء غير مقصود. اللهم بدافع الفضول ومحاولة التملص من شِباك التجاهل الحذر. فمجالسهم لا يباح له التقصّي عن أسرار الهروب. الطرقات وخفر السواحل والشرائط الحدودية والمطارات وغيرها من تفاصيل تحتاج إلى ثقة كبيرة حتى تصبح في متناول الشخص الغريب. حسنًا، لم أعد – بعد أشهر متواصلة من لعب “الكوتشينة” برفقتهم – شخصًا غريبًا. لكن فعل الاستغراب هو محصلة ما جمعته في كل جلسة شاركتها معهم.

حين تبدأ الجولة الأولى، وتوزع أوراق اللعب على المشاركين، سينسى كل واحد فيهم كيف وصل إلى تركيا. هذا شرط نفسي مدبر لتمكين الواقع من الاستمرار. سيتجاهلون ماضيهم وتاريخهم وخبراتهم واشغالهم ودراستهم. يغضون الطرف عن كل شيء لا يشبه سفينة أو مركبةً عابرةً نحو القارة العجوز. سيضطرون ليكونوا أبطال روايتهم الجديدة التي لم تكتب بعد. ولا مانع، في سبيل مبتغاهم، من التنازل عن (بصيرتهم) فداء لـ”ساراماغو” وابطاله. وفداء لـ “المهرّب”، حاكم المنزل والمركبات والعبّارات. نعم، هم رهن إشارته وطوع خرائطه. يسيرون خلفه كما لو أنهم يسيرون خلف زمّار هاملين. جميعهم يصابون بحمى اللهفة لحظة يقاطع جولة اللعب رنين جهازه الخلوي. صمت يطبق على كامل الغرفة. يراقبون كلماته وتحليلاته. والأهم، أخباره عن آخر الرحلات ونجاحها أو فشلها. يبلعون ريقهم. يفركون أكفهم، وعيونهم سادرةً تمعن في عدد الأرقام التي تظهرها أوراق الكوتشينة بين أيديهم، يتساءلون في سرّهم “كم مرة بعد سننجو؟ وكم مرة بعد سنموت؟”  

لن يبقى لصحوهم غير صوت الصدفة المخنوق، والحظ الموروب خلف انتباه العسكر والحكومات. 

الجولة الثانية والثالثة لن يكون وقعهما سهلًا على دهشتي. استبدال لاعبين قدامى بآخرين جدد، يتيح لي تفسير رحلاتهم كيف جرى تدبيرها وتخطيطها وتوزيعها بين أيام الأسبوع. فالهجرة والنزوح نحو بلاد الـ”شينغين”(فيزا الاتحاد الأوروبي) لا تختلف عن نزوح لاعب عن ميدان اللعب لينتظر حظوظ مشاركته في جولة أخرى أو رحلة أخرى. عملية الانتقال بين اللاعبين تدفع الرابح إلى الشعور بأن أحلامه ستتحقق، وبأن جاك لم يكن أوفر حظًا منه حين كسب رهان مقامرة على طاولة الكوتشينة قبل صعوده إلى سفينة “التايتانيك”. والخاسر سنراه يعتكف إلى جانب المشاهدين، يتأمل حسرته بصمتٍ وهو يتذكر محمود درويش حين قال “مشى الخوف بي، ومشيت به حافيًا”.

أصحاب الخبرة بينهم، هم من حظوا بجولات كثيرة للهرب، باءت جميعها بالفشل. سيتحول كل ذي خبرة إلى شامان، يرعى شؤون القبيلة بحكمه وتجاربه. “أخرج قبل حلول العيد. الذهاب إلى رومانيا أفضل من الذهاب إلى هنغاريا. انتبه من البوليس الكرواتي. احذروا الصعود إلى سطح السفينة. دعوا النساء في مؤخرة السفينة، هن أكثر عاطفةً تجاه الحوادث…”. ثم بعدها، وبخفة لا تبررها سوى لحظات خاصة تحاول التملص من واقع الأشياء ومرارتها، سيتحول إلى كوميديان ينسف قسوة الأحداث والمواقف التي مرّ بها عند حدود وسجون البلاد المجاورة ويحولها إلى نكات وطرائف يتحايل فيها على مخاوف المستمعين. ولا شك أنه سينجح، لا بحكم براعته في تحويل التراجيديا إلى كوميديا، بل لأن المستمعين في حاجة إلى بعض تلك اللحظات المضيئة أمام عتمة المجهول الحالكة، درجةً ستستثير فيّ الضحك الخجول وأنا أراقب ابتساماتهم المفككة والمتهدّلة على وجوههم، متجاهلًا ما قاله تيودور أدورنو مرةً “إن الضحك لا يمنح دومًا الرغبة في الفرح والسعادة”.

هناك جدول للمهام (السخرة) ملصقًا على خد الحائط. فيه أشخاص أدرجت أسماؤهم لعمليات كنس وشطف وتنظيف المنزل طوال أيام الأسبوع. غريب كيف يكون للبيروقراطية وجود في مثل هذا المكان. وحسبي أن بعض تلك المهام وتنظيمها في سعيٍ محمومٍ يشير – وفق منظور أخلاقي مبتذل – إلى حياة الازدهار وفقًا لظروف الطبيعة ومآلاتها. لتصبح قيم التعاون وشروط السعادة والرفاهية المبتذلة في هذا المكان خاضعةً لـ”يودايمونيا” أرسطو دون منح اعتبارات لبقية الشروط الخارجية التي تعزز من هذه القيم التي رفضها “الرواقيون” كالصحة والجمال والثراء. لكنها تبقى قيماً مؤجلة، يتمعن فيها هؤلاء من خلف حدود البحار والبلاد الفاصلة بينها وبين جدران منازلهم المؤقتة. 

إقرأوا أيضاً: