يواجه المهاجرون واللاجئون الذين وصلوا إلى أوروبا مفهوم الاندماج بصورة دائمة، المبحث الذي يتحرك بين النظرية السياسية (إدماج القادمين الجدد ضمن نظام البلاد الإداري) وبين المقاربة الثقافية (تقبّل قيم البلد المضيف واحترام أعرافه)، من دون أن نمتلك سبيلاً أو أسلوباً دقيقاً لإدراكه، فهل فعلاً يجب الاندماج، أم يكفي دفع الضرائب والالتزام بالقانون؟
لا إجابة واضحة على السؤال السابق، لكن يمكن القول إن شكل سياسات الاندماج الأوروبية القائم لا يرضي أحداً، سواء “المندمج” كلياً أو الحائر الذي يرى في الاندماج أسلوباً للهيمنة. لكن المشترك، أن أسئلة الاندماج كلها تحوم حول اللغة فمثلاً، كم كلمة ألمانية يجب حفظها لفتح محادثة عن غوته؟ ما الذي تجب كتابته في رسالة الدوافع للحصول على وظيفة من دون استخدام كل الأزمنة باللغة الألمانيّة؟
تحضر أطياف الأسئلة السابقة في المجموعة القصصية الثالثة للكاتبة رشا عباس، بعنوان “كيف تم اختراع اللغة الألمانية”، التي تحوي 15 قصة قصيرة، تتمحور في موضوعاتها وأحداثها حول علاقة الكاتبة مع الحياة الجديدة في بلد اللجوء؛ وإشارات إلى الفوارق الثقافية، والبيروقراطية، وكلمات مثل الفيزا، جوب سنتر، أوراق مدرسة اللغة، وغيرها من المصطلحات التي استجدّت في لغويات المجتمع السوري المهاجر واللاجئ، والتي تحظى في هذه المجموعة القصصية بمعالجة فنية ساخرة. ليس أدلّ عليها سوى عنوان المجموعة القصصية وفكرتها، فمن رهبة تعلّم اللغة الألمانية وصرامتها، تمتلك الكتابة الساخرة في نصوص المجموعة لا القدرة على الانتقاد وحسب، وإنما ابتكار اللغة الألمانية بالكامل.
منطق التعجيز في التأليف
تفتتح المجموعة القصصية بنص تقديم ملاذ الزعبي، يورد فيه مجموعة من الاتصالات التي تمت بينه وبين الكاتبة رشا، ليقدم لها في كل مرة مجموعة من عروض العمل التي ترفضها الكاتبة بحجة تركيزها على دراسة اللغة الألمانية، ترفض جائزة تذكرة سفر إلى هاواي، دعوات لورشات عمل حول الأساليب الأمثل لإدماج اللاجئين في المجتمع، وغيرها من القراءات الشعرية عن سوريا، وذلك كله في سبيل فترة من الالتزام في تعلّم اللغة الألمانية، في إشارة ساخرة إلى الجهود المستحيلة المطلوبة في تعلّم اللغة الجديدة، يكتب الزعبي: “رشا التي رفضت كل ما سبق بحجة انهماكها في اكتساب لغة جديدة، أخفت عني حينها أنها ذهبت إلى ما هو أبعد من مجرد الاستحواذ على اللغة، منصرفة إلى حدود البحث في جذور هذه اللغة، بل وكيفية اختراعها”.
تتخيّل الكاتبة في القصة التي تحمل عنوان “كيف تم اختراع اللغة الألمانية”، محضر جلسة بين كلٍّ من السيّدين المحترمين الدّوق كارل والدّوق لودفيغ، يبتكران فيها قواعد للغة الألمانية. وهكذا، تصبح قواعد اللغة الألمانية قابلة لإعادة التفكير، فأجناس الكلمات التي يصعب على متعلّم اللغة اكتساب قواعدها، توضع قصداً من قبيل جعل المهمة مستحيلة على الدارسين، فلجنس كل كلمة دور مهم في قواعد النحو والإعراب، لكن السبب الحقيقي لقواعد أجناس اللغة الألمانية هو تصعيب المهمة على المتعلّم وجعلها مستحيلة، كما تشير القصة:
” – هل يمكننا أن نجعل الكلمات موحيةً بجنسها، على الأقل، حتّى يكون أمر دراسة اللغة أسهل على الأجانب؟
– لا أرى سبباً لنجعل شاغلنا فقط تسهيل المهمّة على المتعلمين. هل أبدو لك كمكتبٍ سياحيٍّ؟”.
تلعب القصة بسخرية على القواعد اللسانية واللغوية التي يواجهها المتعلمون/ات للغة الألمانية، وتسمح الحبكة المتخيلة باللعب النصي مع القواعد النحوية لهذه اللغة، فيقترح أحد الدوقان اشتقاق أسماء الحيوانات بقاعدة تشبه تلك الخاصّة بتشكيل الألوان: “مثلما هو الحال مع مزج الألوان الأساسيّة لتشكيل بقيّة الألوان المتنوّعة، سنطبّق ذلك على مسألة الحيوانات، ونختار بضع حيوانات أساسيّة، أمّا البقيّة فتكون أسماؤها عبارةً عن تركيب أسماء هذه الحيوانات الأساسيّة مع بعضها البعض”. بينما يقترح الدوق الآخر اختراع عشرات الأفعال التي تسمّى شاذّة إذ لا يحكمها أيّ قانونٍ وإضافتها الى القائمة: “هذا التفصيل بالتّحديد سنتفنّن فيه لنضمن تدمير معنويّات أيّ دارسٍ مغرورٍ للّغة بشكلٍ كامل”.
أجناس الكلمات رسومات غرائبيّة
تتابع عباس الابتكارات الهزلية على عملية تعلّم اللغة، في قصة بعنوان “كيف أصبحت فنانة”، تروي الساردة أنها لم تكن لها علاقة بالفن، حتى اضطرت إلى تعلّم الأجناس في اللغة الألمانية، جلبت أوراق رسم كبيرة وعلقتها على حائط الغرفة لترسم صورة تمثيلية لكل كلمة تتعلم جنسها، ومن هذا التمرين انطلقت شرارة مسيرتها الفنية: “هكذا امتلأ حائط الغرفة برسوماتٍ تتضمّن برتقالاً ذا أثداءٍ، وحَساءً يلتهم حبوب منع الحمل الطازجة، أو تفاحةً لها شاربان وسمكاتٍ بأعضاءٍ ذكريّةٍ وقطاراً هو نفسه عضو ذكري صريح. تضمّنت الرّسومات أيضاً أطفالاً ذكوراً برأسين، أحدهما مؤنثٌ والآخر مذكرٌّ، أمّا باقي كلمات الجنس المحايد فلم أعرف كيف أرسمها بشكلٍ واضحٍ، لذلك حشرتها في زاويةٍ واحدةٍ وصرت أتمرّن على حفظها بأن أقف كلَّ يومٍ وأصرخ في وجهها بعبارات تمييزٍ جنسيٍّ غير متحضّرةٍ”.
تحضر أيضاً العلاقة مع اللغة الجديدة في قصة “تعلم اللغة في مدرسة الحياة”، حيث تصرّ اللاجئة على عدم الالتحاق بمدرسة تعليم اللغات، وإنما تعلُّم اللغة من مدرسة الحياة. في دمشق، اعتادت شراء أقراص مدمجة لتعليم اللّغات، وكانت تشاهد أوّل درسٍ من كلِّ لغةٍ فقط، هكذا تشكّلت لديها مجموعةٌ غريبةٌ من مفردات اللغات الأجنبيّة، بحسب الدرس الأوّل من كلِّ “سي دي”. واليوم في برلين، حين يطلب منها المستشار المهني عن اسم مدرسة اللغة التي سجلت فيها، تجيب بإصرار “مدرسة الحياة”. وهكذا، تبحث اللاجئة عبر الإنترنت، عن سحرة اللغة، الذين يصورون فيديوات يبدون فيها إتقانهم لغات كثيرة، فتتعرف إلى “جيمي ساحر اللغات”، الذي يكشف لها في لحظة مصارحة، أنه ليس إلا مدعٍّ يصوّر الفيديوات ليكسب أكبر عدد من المشاهدات على الإنترنت: “هل كنت لتصدّقي أنّ أحداً ما يتقن تسع لغاتٍ ومن بينها الألمانيّة؟ كنت عاطلاً عن العمل لوقتٍ طويلٍ، ومن هنا انطلقت فكرة تصوير فيديواتٍ أنصح النّاس خلالها بأساليب لتعلّم اللّغات بشكلٍ ثوري، وأدّعي فيها أنّني على معرفةٍ تامّةٍ بكلِّ تلك اللّغات التّسع”.
الحكايات الملائمة لكتاب القراءة
تشير القاصة في “مقترحات لتطوير مناهج الاندماج واللغة الألمانية”، إلى مجموعة من الحوارات التي يجب دمجها في تمارين تعليم اللغة، مثل: كيفية التواصل مع تاجر المخدرات والدوائر الرسمية ومؤجري المنازل. أما على صعيد القصص والحكايات المختارة في دروس القراءة، فتقترح القاصة تعديلات حكائية تتماثل مع التراث الثقافي للمجتمع الذي جاءت منه:
“رغم لطف قصص الكتاب، مثل قصّة (يان وسارة) اللذين يكابدان الحبّ من بعدٍ وما شابه، ولكنّها في الحقيقة غير جذّابةٍ بالنّسبة إلى عيوننا المعتادة على أنواعٍ أقوى من الدراما والمتلّهفة للقصص الشائقة. من المفيد أن يتم إدخال قصصٍ عن مكائد الحموات وحرب زوجات الأخوة. فلم لا نتعلّم قواعد الأزمنة المختلفة في اللغة مثلاً عن طريق قصّة السّيّدة شنايدر، والتي يتزوّج ابنها أوفه من الكنّة زابين، التي تبدو صاحبة مشاكل وتنتقل للعيش معهم في المنزل، وتحاول أن توقع بين الابن وأمّه. فتذهب إلى السحرة وأحضرت حجاباتٍ للسيّدة شنايدر، غير أن الأخيرة، بفطنتها وخبرتها الطويلة في الحياة، تكتشف مكان السحر في النباتات المنزلية”.
طريق التواصل معبّد بالاختلافات الثقافية
يحضر موضوع الاختلافات الثقافية، أو الاحتكاك الثقافي بين اللاجئة من جهة وبين المجتمع الأصلي ومجتمع المستقبل من جهة أخرى، بما يُعرف بالصدمات الثقافية، وتلعب القصص على الكوميديا في التناقضات بين الصور النمطية التي يفرضها السوريون/ات على المجتمع الألماني وبالعكس. قصة “تواصل اجتماعي يؤدي إلى الوحدة” نموذجية في التعريف عن هذا الموضوع، فالقصة تروي لقاءاً يجمع بين سوريين/ات وبين ألمان/يات، يدور بينهما حوار بهدف التقارب، إلا أنه سيؤدي إلى نتائج كارثية، بسبب جهل القادم الجديد بتاريخ البلاد السياسي، فيحيي الألمان بالهتاف ومديح أدولف هتلر: ”ألمانيا؟ جوود جوود… هتلر سو جوود… نايس مان”، أو القول إن الموسيقى الألمانية هي الرامشتاين. أما قصة “مخدرات شمسية”، فتعري الصور النمطية التي يمتلكها المجتمع السوري عن الحياة الألمانية، فالعائلات السورية تعتقد أن الشباب والشابات اللاجئين واللاجئات لا يريدون من اللجوء إلا العيش بحرية وتناول المخدرات وممارسة الجنس: “بعدما أصبحت في أوروبا، لاحظت أنّ هنالك مخيلةً غريبةً مرتبطةً بهذا المكان أيضاً. قد تجد في مجموعات فيسبوك المخصّصة للقادمين الجدد أسئلةً من نوع: “هل صحيحٌ أنّ الأوروبيين سيجبرون ابني على ممارسة الجنس في المدرسة كنوعٍ من التربية الجنسيّة؟”.
التهام الجثث والعنف الطائفي
إضافة إلى الموضوعات المتعلّقة بتجربة اللجوء والاندماج، التغيير الثقافي والأسئلة الاجتماعية، فإن القاصة تتفكر في نصوصها حول فعل الكتابة في الفترة السورية الراهنة. ففي القصة المعنونة “أريني مزيداً من العنف”، تصف لقاء مع مسؤول نشر أو مسؤول ثقافي يخبرها بعدم قبول روايتها للنشر، ويصفها بالرواية “الخراء”، بينما تدافع الكاتبة عن مخطوط روايتها، وتعتقد أنها ضمّنتها كل العناصر التي تسمح لها بأن تبيعها إلى الأجانب، الجرأة بإبراز التابوهات التي عملت على تحطيمها، ويظهر المحظور الجنسي برغبة امرأة في الحصول على قضيب، وتنتقد الرواية الديكتاتوريات: “لن يخضرّ العشب تحت أحذية العسكر”.
حرصت القاصة على إدخال أحداث من الثورة السورية وتدبيج الرواية بالخطابات والهتاف، وتختلق شخصية البطل مهرب اللاجئين، خفيف الظلّ، يضحّي بحياته في النهاية لإنقاذ اللاجئين على القارب. أما الشخصية الشريرة في الرواية، فهي عنصر أمنٍ، وهي إشارة رمزية تختصر الواقع”.
إن الجانب الكوميدي السابق في معالجة الأدب السوري الراهن، يتحول إلى نقد جاد مع نهاية القصة، إذ يعلن الناشر عما يرغبه، وهو إضافة مزيد من العنف في الرواية، تقول الكاتبة:
“أستطيع أن أمارس الضرب المبرح بحق إحدى الشخصيات. أو أن أجعل إحدى الشخصيات تأكل لحوم البشر، لا أعرف. تشتهي الجثث أيضاً، تمارس الجنس مع الجثث وتأكلها.
-لا بأس، ولكن ما زلنا دون المستوى المطلوب.
-المزيد من الجثث، لنقل: مقبرةٌ جماعيةٌ، وكذلك أورجي في المقبرة تقوم به طائفةٌ منحرفةٌ تؤمن أن أكل الآخرين هو تقديرٌ لهم”.
تنتقد بعض القصص الإدارة البيروقراطية في دول اللجوء، ففي قصة “كيف ساعدتني ألعاب الفيديو في المعاملات البيرقراطية الألمانيّة؟”، تلجأ القاصة إلى المهارات الخاصة بشخصيات ألعاب الفيديو الخارقة للتعامل مع الجهاز الإداري الألماني. وفي قصة “كيف فشلت في محاولة ابتكار بطل خارق ألماني”، تصطدم القاصة بالبيروقراطية التي يخضع لها حتى البطل الخارق “يان” الذي ابتكرته القاصة على شكل سوبرمان ملهوف لإلقاء القبض على عصابة من الأشقياء يخطفون حقيبة إحدى السيدات على الرصيف المقابل، لكن هذا البطل الخارق يصطدم بالعجز أمام الإجراءات الإدارية:
“قطع المشهد فجأةً دخول موظّفةٍ تحمل في يدها مجموعةً من الأوراق وقلماً. توجّهت بالحديث إلى يان:
– عذراً، حضرتك على ما أظنّ السيّد المكلّف بإنقاذ البنك من عمليّة السّرقة، أليس كذلك؟
– نعم أنا هو.
– هل تحمل تصريحاً يخوّلك حماية البنك؟”.
أخيراً، وضمن ملف حققه موقع “الجمهورية نت” عن الكتابة ومشاغلها، كتبت رشا عباس تحت عنوان “تلك الفكاهة المنجية”: “محاولة الإجابة على سؤال جدوى الفكاهة تحيلنا إلى السؤال الأولي الأكثر صعوبة بعد: لماذا يكتب المرء أصلاً؟. إذا قاربنا من هذا المنظور الرغبة في كتابة الفكاهة، لن تكون مختلفة عن غيرها من أجناس الكتابة. لا داعي لاستجلاب نظريات المهرج الحزين المبتذلة، ليس الأمر على هذا النحو. مثل الآخرين تريد أيضاً أن تجول في مساحاتٍ أخرى خارج حياتك غير المثيرة للاهتمام كثيراً. بعض الحيوية التي تريد استعارتها قليلاً وتجربتها أمام مرآة بعوزٍ شديد. تستطيع الادعاء أنّك حيٌّ للغاية. تمثّل دور صانع البهجة كما يفتنك أن تجرب دور الثري في محالٍ تجارية فاخرة”.
إقرأوا أيضاً: