fbpx

المستقبل المستحيل للمسيحيين في العراق 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

واجه المسيحيون، أسوة بالأقليات الدينية الأخرى في المنطقة الخيارات المستحيلة، وهي البقاء أو المغادرة. فعلى العائلات تحقيق التوازن بين الرغبة في البقاء في أوطانهم والرغبة في العيش بمأمن من التمييز أو الخوف.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وصلتهم المكالمة المنتظرة بعد فترة وجيزة من عيد الفصح عام 2014. كانت أسرة كاترين المكو تقدمت قبل ذلك بأربع سنوات بطلب للحصول على تأشيرات إلى الولايات المتحدة. كان زوجها إيفان حلاقاً لدى الجيش الأميركي في سنوات احتلال العراق الأولى. 

سألهم موظف من منظمة الهجرة الدولية على الهاتف، “هل أنتم مستعدون؟”، فقد حُدد موعد مغادرة العائلة بعد أسابيع قليلة.

قالت لي كاترين، “كنت في غاية الحيرة”. في سنوات انتظارهم تلك التأشيرات، دارت نقاشات بينها وبين إيفان حول ما إذا كانت الهجرة ما يريدانه حقاً. نشأ كلاهما في كرملش أو كرمليس، وهي بلدة صغيرة تقع في سهل نينوى، الموطن التاريخي للمسيحية في العراق، حيث امتلك إيفان صالون حلاقة بالقرب من إحدى الكنائس. وأحبت كاترين مطبخها، الذي كانت تمضي فيه معظم يومها في خبز فطائر محشوة بالمكسرات والتمر. وكانت أسرتهما تعيش معهما هناك: إخوتها الخمس ووالداها المسنان وشقيقا إيفان. 

لكنهم كانوا يعيشون في خطر دائم. قالت كاترين، “جميع من كانوا يعملون مع الجيش الأميركي، كانوا عرضة للقتل”. أصيب إيفان جراء انفجار وقع بالقرب من قاعدة عسكرية أميركية في الموصل عام 2004. وحتى بعدما توقف عن العمل مع الجيش، كانوا خائفين من أن يصبح ضحية للعنف. وتفاقم ذلك الخوف بسبب دينهم؛ إذ استهدف المتمردون في سنوات الحرب الكنائس والبلدات المسيحية بانتظام في حملة إرهابية ترويعية.

تراجع ديمغرافي 

انخفض منحنى تراجع أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط -الذي كان منحنى تنازلياً ثابتاً- بحدة بالغة خلال الآونة الأخيرة. إلا أن أعداد المسيحيين في العراق تحديداً لافتة للانتباه: فقبل الغزو الأميركي عاش حوالى 1.4 مليون مسيحي في البلاد. الآن لم يبق منهم سوى أقل من 250 ألف مسيحي، وهو انخفاض حاد بلغت نسبته 80 في المئة، في غضون أقل من عقدين.

قررت عائلة المكو الرحيل. حاول المقربون إقناعهم بالبقاء في كرملش. تتذكر كاترين القس ثابت، شقيقها الأكبر، وأكثر المدافعين المخلصين في البلدة، وهو يقول لها، “لا ترحلي، ابقي هنا”.

بقي آخر الزوار المودّعين -إحدى شقيقات كاترين- إلى ما بعد منتصف الليل. كان من المقرر أن ترحل العائلة في غضون ساعات قليلة لكن كاترين لم تستطع النوم. بقيت مستلقية على السرير وهي تتأمل كل شيء ستفتقده في منزلها. لم تركب كاترين طائرة من قبل، ولم تبتعد يوماً من كرملش.

أمضت العائلة بضعة أيام في بغداد. وتوقفت موقتاً في الأردن وألمانيا ونيو جيرسي. وأخيراً وصلت إلى ديترويت بعد رحلة مرهقة. 

لم يكن مر على وجود العائلة في ديترويت سوى أقل من ثلاثة أشهر عندما سمعت أن تنظيم الدولة كان يزحف شرقاً صوب كرملش. لطالما نشطت الجماعة الإرهابية وأتباعها في المناطق الواقعة جنوب سهل نينوى. لكن إيفان وكاترين اعتقدا أن بلدتهما آمنة من شر تلك الجماعة. حاولا وقتها جاهدين التواصل مع أفراد عائلاتهما سواء عبر الهاتف أو الرسائل النصية؛ لكنهم لم يتلقيا أي رد، وشعرا بوطأة المسافة التي تفصلهما عن جميع أحبابهما، والتي تزيد على 6 آلاف ميل.

المسيحية في سهل نينوى

مصير المسيحية في مناطق مثل سهل نينوى له أبعاد ودلالات جيوسياسية أيضاً. عادة ما تمثل الأقليات الدينية اختباراً لمدى تقبل أي دولة التعددية؛ فالديموقراطية الليبيرالية السليمة تحمي الفئات الضعيفة، وتتيح لها المشاركة بحرية في المجتمع. ويعد ازدهار المسيحيين وبقاؤهم في البلدان ذات الغالبية المسلمة، مؤشراً حاسماً على إمكان ازدهار الديموقراطية في تلك البلدان. إلا أن المستقبل يبدو قاتماً في العراق، تماماً كما الحال في دول أخرى في المنطقة، تعد موطناً تاريخياً لمجموعات سكانية مسيحية، من بينها مصر وسوريا وتركيا. إذ يتعرض المسيحيون الذين يعيشون في تلك البلدان للتمييز والترهيب اللذين تقف وراءهما الدولة علاوة على العنف المتكرر.

لكن المسيحيين يمتلكون حليفاً قوياً ومؤثراً هو حكومة الولايات المتحدة الأميركية، التي جعلت دعم الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط أولوية صريحة لسياستها الخارجية، بإدارة دونالد ترامب، أكثر حتى مما كانت عليه الحال في عهد جورج دبليو بوش أو باراك أوباما. فمذ تولى ترامب الرئاسة، تلقى سهل نينوى مبالغ طائلة من حكومة الولايات المتحدة لاستثمارها في المنطقة.

يرتكز هذا الموقف الأميركي في السياسة الخارجية جزئياً على السياسات المحلية للبلاد. إذ يولي الناخبون المحافظون الذين ساعدوا على فوز ترامب اهتماماً عميقاً بالمسيحيين المضطهدين، ويعربون عن قلقهم هذا من خلال لوبي استثنائي فعال في العاصمة واشنطن. لكن محنة المسيحيين في المنطقة هي أيضاً نتاج طبيعي لسياسات حكومة تعتبر أن السياسة الخارجية ما هي إلا صراع من أجل الحفاظ على الهيمنة العالمية للغرب. وبالنسبة إلى ترامب، يمكن أن تكون المسيحية حصناً منيعاً للقيم الغربية في منطقة تعجّ بأعداء متخيلين.

ليلة التجلّي

حل الليل على كرملش، في 6 آب/ أغسطس من عام 2014، الموافق لعيد التجلي، الذي يُحتفَل فيه بظهور المسيح وتجليه لتلاميذه. على مدار الأسابيع السابقة لذلك اليوم، تواصل الكهنة في سهل نينوى مع مقاتلين أكراد في شمال العراق، معروفين باسم قوات البيشمركة الكردية، في ما يتعلق بالتهديد المحتوم المتمثل في قوات تنظيم الدول الإسلامية. ففي وقت سابق من ذلك الصيف، تقدمت قوات التنظيم سريعاً على الجبهة الشرقية عقب سيطرتها على الموصل، الواقعة على بعد 15 ميلاً من كرملش. وعلى رغم إعلان أبي بكر البغدادي قيام خلافة إسلامية جديدة، من جامع الموصل الكبير، فقد تعهدت القوات الكردية بالدفاع عن المنطقة.

إلا أن هذه الليلة شهدت تقدم قوات تنظيم الدولة الإسلامية، بينما قررت قوات البيشمركة التراجع. وعند الساعة 11 مساءً، قرع ثابت، شقيق كاترين، جرس كنيسة مار أدي (القديس أدي)، كنيسة كرملش الرئيسية، الذي يصل رنينه إلى كل بيت في المدينة الصغيرة. وبالنظر إلى الموعد المتأخر الذي قُرع فيه الجرس، لم يكن هناك سوى تفسير واحد لذلك الصوت المألوف، التحذير من خطر داهم. وفي ساعتين تقريباً، كانت معظم العائلات، البالغ عددها 820 عائلة، في طريقها إلي الخروج من البلدة، متجهة شرقاً، سعياً إلى الأمان في بلدة أربيل ذات الأغلبية الكردية.

وانتظر ثابت إلى أن يتأكد من إجْلاَء الجميع، قبل أن يغادر بدوره. حاول ثابت البقاء متفائلاً، حتى أثناء نزوح قومه. قال لي قبل مدة قصيرة، بينما كنّا نقود على الطريق الترابي الممتد غرباً من أربيل إلى الموصل، “كان لدي أمل ضئيل بأن تنظيم الدولة الإسلامية لن يأتي”. شاهد ثابت تراجع البيشمركة، وتخليهم عن كرملش، فأدرك أن مدينته سقطت. وفي ساعات قليلة، وصل مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية إلى مدينته.

شعر ثابت بانجذاب نحو الكهنوت منذ عمر صغير، وأحب دور خادم المذبح في الكنيسة الكلدانية التي ينتمي إليها، والتي تعود أصولها إلى مذهب قديم من المسيحية الشرقية، وتنتمي حالياً إلى الكنيسة الكاثوليكية. 

شهد ثابت نزوح كل من يعرفهم ويحبهم من بلدته. وازدحمت أحد الجيوب المسيحية الواقعة على أطراف أربيل بوصول 13 ألف و200 مسيحي نازح من سهل نينوى. لم يتسنَ للجميع أخذ حاجاتهم الضرورية عند رحيلهم، بمن في ذلك ثابت.

نام بعض اللاجئين المسيحيين في ساحة إحدى الكنائس، بعدما لم يعد لديهم ملجأ آخر. 

وسريعاً اتضح أن هذا النزوح سيطول ولن يقتصر على بضعة أيام. بدأت العائلات تنتشر في أربيل؛ تمكن بعضها من استئجار شقق، بينما انتقلت عائلات أخرى إلى مخيمات صُنعت على عجل. وتحول ثابت إلى القائد غير الرسمي لقومه في المنفى، متأرجحاً ما بين الكاهن، والعم المحبوب، والعمدة غير الرسمي. وحين بدأ إرسال أموال المعونات وغيرها من المساعدات من مجموعات مثل فرسان كولومبوس، وصلت إلى المسؤولين الكنسيين مثل ثابت. وبدأ الناس يطلبون مساعدته لسد بعض حاجاتهم.

الدمار المذهل

استغرق الجيش العراقي أكثر من عامين لاستعادة سهل نينوى. قبل أيام من تحرير كرملش، صعد ثابت جبلاً صغيراً فوق سهل نينوى الذي كان يشهد معارك الجنود. رأى مستخدماً نظارته المكبرة، دخاناً يخيم على مدينته. وعقب انتهاء القتال، كان ثابت أول السكان الواصلين إلى المدينة من جديد.

كان مشهد الدمار مذهلاً. فقد قُطعت يدا تمثال لمريم العذراء، وهو تمثال بالحجم الطبيعي، تظهر فيه مرتدية عباءة زرقاء زاهية. أما أجراس كنيسة القديس أدي، التي كانت تُنذر السكان بوصول تنظيم الدولة الإسلامية، فقد وُجدت مائلة، وأحرق جزء من الكنيسة وتفحّم لونه. 

ببطء، بدأ ثابت والكهنة الآخرون في المنطقة عملية إعادة البناء. جهز القادة في كل مدينة تقييمات مفصلة للمباني المحلية وأحصوا الخسائر والأضرار في نطاق سهل نينوى. كما وضع ثابت خريطة لبلدة كرملش على أبواب بيوت الكهنة. كان فيها مربع صغير يمثل منزل والديه، ملون بالأحمر في إشارة إلى تحطّمه. علاوة على مربع آخر يُظهِر بيت كاترين وإيفان الذي نُهب، ولكنه نجا إلى حد كبير من التدمير والخراب. إجمالاً، تضرر قرابة 672 منزلاً ما بين حرق وتخريب، وهدم نحو 100 منزل بالكامل.

في خريف عام 2017، بدأ السكان كرملش الأوائل يعودون إلى منازلهم، وامتلأت الشوارع تدريجياً بدلالات صغيرة على عودة الحياة إلى طبيعتها: فتجد من ينادي على الأطفال، ومن بدأ زراعة حديقة المنزل، في حين يتسامر الرجال ويجلسون على كراسٍ بلاستيكية زاهية، تحت أضواء المصابيح. بدءاً من هذا الربيع، عادت 450 أسرة (على رغم أن الغالبية لم ترجع إلى الديار) إلى منازل الأقارب أو الجيران أو حتى الغرباء الذين اختاروا عدم العودة. كما أن هناك لافتة قرب الكنيسة، مكتوبة بالعربية والإنكليزية غير الصحيحة، ترحب بالعائدين.

ومع هذا، وإلى الآن، تنتشر المنازل الخاوية في المدينة في المناطق الأكثر حيوية، في انتظار أصحابها الذين لا يشعرون بقدر كافٍ من الأمان ليعودوا إلى ديارهم. وغادر بعض المسيحيين المنطقة بالكامل، وبدأ آخرون حياة جديدة في مدينة أربيل.

الهروب من الإهانة

وفي مواجهة هذه الإهانات اليومية، علاوة على ‏البيئة السياسية والاقتصادية المتقلبة في العراق، قرر عدد كبير من المسيحيين والأقليات الأخرى الهرب. لكن غدت فرص الذهاب إلى الولايات المتحدة أندر مما كانت عليه حين قررت كاترين المكو وأسرتها الهجرة إلى ديترويت. يقابل التزام إدارة ترامب دعم المسيحيين في الشرق الأوسط، انخفاض حاد في عدد اللاجئين المسيحيين المسموح لهم بدخول الولايات المتحدة. أما في عهد أوباما، فقال مناصرو المسيحيين، إن الديموقراطيين رفضوا السماح للمسيحيين المضطهدين بدخول بلدهم. ولكن عدد المسيحيين المقبولين (المهاجرين من العراق) انخفض بنسبة 98 في المئة، خلال العامين الماضيين.

ووفقاً للبيانات الواردة عن وزارة الخارجية الأميركية ومؤسسة الإغاثة الخيرية العالمية، فلم يُسمَح سوى لـ23 مسيحياً عراقياً بدخول الولايات المتحدة عام 2018، مقارنةً بحوالى 2000 شخص عام 2016. لذا تتطلع الأسر والعائلات في العراق الآن إلى الهجرة إلى أوروبا وأستراليا بدلاً من الولايات المتحدة.

قال ‏مسؤولون في إدارة ترامب إن صغر عدد السكان المسيحيين في سهل نينوى، سيسفر عن أضرارٍ طويلة المدى في المنطقة. وقد أصابوا بصورة أو بأخرى. فكلما قل عدد المسيحيين، قل تمثيلهم في الحكومة العراقية، وقلّت احتمالات استجابة بغداد للمخاوف المسيحية. 

في عهد أوباما، ‏شارك الزعماء المسيحيون العراقيون ومساعدوهم في واشنطن، في حملة طويلة الأمد لجمع الأموال لمسيحيي سهل نينوى. كما وفّرت لهم الحكومات الأجنبية أموالاً، بطرائق غير مباشرة من خلال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، الذي كان المسؤول الرئيسي عن تنمية المنطقة. ومع ذلك، أعرب الزعماء الدينيون العراقيون، في مرحلة مبكرة، عن استيائهم من أداء الأمم المتحدة. ‏ورأوا أنها عيّنت موظفين بأجور عالية وأداء دون المستوى.

عملت وفود من كنائس المنطقة مع منظمات دولية غير حكومية على تشكيل “لجنة إعادة إعمار نينوى”، ووظفت عاملين محليين لإعادة بناء البيوت في بلداتهم. أفادت اللجنة بأن أموال الإغاثة ستُستخدَم بصورة أفضل إذا ذهبت مباشرة إلى الكنائس.

بدأ مناصرو المسيحية إثارة هذه القضية في واشنطن، وقريباً ستستجيب إدارة ترامب للأمر. بتوجيه من الرئيس، طلب نائبه مايك بنس من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية “USAID” (وهي الوكالة التي تموَل مشروعات التنمية حول العالم)، إتمام عملية تمويل خاصة لا تعتمد تماماً على الأمم المتحدة. وعندما فشلت هذه العملية في تحقيق ما ترنو إليه الطوائف المسيحية العراقية، أصدر بنس بياناً شديد اللهجة قال فيه “إننا لن نسمح بالتأخيرات البيروقراطية”. وأدان فشل الحكومة في الوفاء بالالتزامات التي قطعتها للأقليات في العراق.

اعتمدت الولايات المتحدة في عهد ترامب الموقف القائل بأن حماية المسيحيين والأقليات الأخرى، هي سمة أساسية لحفظ الأمن في الشرق الأوسط.

كردستان والحكم الذاتي

منذ الغزو الأميركي للعراق، والقوى الإقليمية تتنافس لتحديد مصير البلاد، وقد زعمت جميعها تقريباً بأحقيتها في سهل نينوى. يحد السهل من الشمال إقليم كردستان العراق، وهو منطقة شبه مستقلة يسيطر عليها الأكراد. بينما تحده من الجنوب، أراض تخضع لحكم بغداد، التي تتنازع بقوة ضد الحكم الذاتي الكردي. 

في خريف عام 2017، وفيما بدأت العائلات المسيحية العودة إلى الديار، أقر الأكراد استفتاءً أعلنوا بموجبه استقلالهم التام عن العراق. فقررت بغداد الانتقام بحظر الرحلات الدولية من مطارات إقليم كردستان، وسعت إلى الاستيلاء على بعض الأراضي التي لطالما مثلت إشكالية بين المنطقتين، بما في ذلك أجزاء من سهل نينوى. وترك ذلك بعض المسيحيين محاصرين: ففي إحدى المدن، بلدة باطنايا، اضطر الناس الذين كانوا يأملون بإعادة بناء منازلهم بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، إلى المغادرة مرة أخرى لتجنب القتال الجديد الذي لاحت بوادره في الأفق.

يتسم المحوران الشرقي والغربي بالقدر ذاته من التوتر حول منطقة سهل نينوى. ففي الغرب تقع سوريا، التي كانت حتى وقت قريب آخر معاقل تنظيم الدولة. وشرقاً هناك إيران، التي تسعى باستمرار إلى توسيع نطاق نفوذها على جارتها القديمة ومنافستها الدائمة، وإلى دعم مصالح الغالبية الشيعية في العراق. واكتسبت الجماعات التابعة للشيعة نفوذاً في سهل نينوى في السنوات الأخيرة. 

في خضم هذه الصراعات المتشابكة، يُعد المسيحيون والأقليات الأخرى بمثابة أوراق اللعب للأطراف الفاعلة الأقوى في المنطقة. ولذا يتعين على المسيحيين العراقيين المثابرة من أجل التعامل مع شبكة معقدة من المصالح الطائفية والسياسية. إذ يسارع الكهنة ذوو النفوذ في أربيل، مقر حكومة إقليم كردستان، في الثناء على جيرانهم الأكراد. وفي المقابل، لدى حكومة إقليم كردستان مصلحة في حماية الأقليات الدينية داخل أراضيها، إذ إن جزءاً من حملة الترويج التي يُقدمها الأكراد إلى الحلفاء في الغرب هو أنهم أكثر تسامحاً والتزاماً بالتعددية من العرب. ومع ذلك، بمجرد أن تعبر الخط الفاصل متجهاً إلى المناطق التي تخضع لسيطرة العرب في العراق، تجد أن ولاء الكهنة يتبدل، فقد أخبرني ثابت أنه يعتقد أن البلاد ينبغي أن تخضع لسيطرة وقيادة موحدتين، مقرهما بغداد. إلا أن المسيحيين على جانبي الحدود، يشكون بسرية من تعرضهم لانتهاكات من قبل العرب والأكراد على حد سواء، بدءاً من مصادرة الأراضي، وصولاً إلى ما يعتبرونه خُطباً متطرفة في المساجد المحلية.

داعمو الشبك

في المقابل، في السنوات الأخيرة، يزعم القادة المسيحيون أن الشبك (أقلية عراقية) وجدوا داعماً قوياً لهم هو إيران، فيما نفى قادتهم وجود علاقات مع النظام الشيعي القريب منهم، ولم تجد وزارة الخارجية الأميركية أدلة قاطعة تشير إلى تلك العلاقات المزعومة، وفق المعلومات المتوافرة. ومع ذلك، يعتقد القادة المسيحيون أن مجموعة الشبك تحاول إخراج مجتمعاتهم من سهل نينوى.

تقع على بعد 10 دقائق من بلدة كرملش عبر الطريق السريع الذي تسوده الفوضى، بلدة برطلة، وهي مدينة مسيحية أخرى من الناحية التاريخية، يخشى ثابت أنها قد تكون نموذجاً لما قد يؤول إليه مجتمعه في المستقبل. من جهة أخرى، يقول المسيحيون الذين عادوا إلى بلدة برطلة، إن الحياة في بلدتهم أصبحت أكثر صعوبةً مما كانت عليه قبل احتلال تنظيم الدولة. فعلى رغم أن الكثير من الأعمال التجارية فتحت أبوابها من جديد، فإن الكثير منها لن يوظف مسيحيين. 

وأشار بهنام بينوكا، وهو كاهن في الكنيسة السريانية الكاثوليكية، إلى أن عدداً من العائلات أبلغ عن تعرضه لمضايقات من قبل السكان الشبك، وهو أمر لم يكن مألوفاً إلى حد كبير في السنوات السابقة. 

يشغل الوضع في برطلة دائماً تفكير ثابت، بينما يحاول إقناع أبناء جلدته بالعودة إلى بلدة كرملش والبقاء فيها. في الغرب، يُنظر إلى التكامل والتنوع على أنهما هدفان جديران بالثناء. أما في العراق، وفقاً لما يقوله ثابت، فإن طريقة التفكير مختلفة. نظراً إلى أن الشبك والكلدانيين يتمتعون بثقافات وعادات مختلفة، فهم يفسرون الإشارات والإيماءات الاجتماعية بشكل مختلف. فضلاً عن أنهم يتحدثون لغات مختلفة. ولذا يقترح ثابت أنه “سيكون من الأفضل بالنسبة إلينا، أن ينتقلوا إلى قرية أخرى”.

تهديدات في أماكن أخرى

يواجه المسيحيون في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، تهديدات وجودية مماثلة. ففي تركيا، تضطلع الحكومة بدور نشط في القمع الديني، إذ يعيش المسيحيون الأرمن في ظل تهديدات شبه يومية ويتعرضون لأعمال تخريبية من الجيران الذين يفلتون من العقاب بسبب تواطؤ الشرطة المحلية. وفي مصر، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي، عن رغبته في منع العنف والتمييز ضد المسيحيين، ولكن ثبت إلى حد كبير أنه يعجز عن القيام بذلك.

على رغم اختلاف وضع الأقليات في جميع أنحاء المنطقة، فإن هذه الحالات تتسم كلها بصفة مهمة مشتركة: حدثت كلها في بلدان تمسكت بشدة بوجود هوية دينية واحدة. ولذا فقد فشلت هذه البلدان في حماية حقوق الأقليات، إذا كانت حاولت ذلك من الأساس.

فقد واجه المسيحيون، أسوة بالأقليات الدينية الأخرى في المنطقة، الخيارات المستحيلة التي تصارع معها كاترين وإيفان قبل سنوات مضت، وهي البقاء أو المغادرة. فعلى العائلات تحقيق التوازن بين الرغبة في البقاء في أوطانهم والرغبة في العيش بمأمن من التمييز أو الخوف.

أخبرني كاترين وإيفان بعد وصولهما إلى الولايات المتحدة، أنهما يشتاقان لكرملش بشدة؛ لرائحة الهواء في الربيع، لمذاق الخضراوات المزروعة ولجمال الشوارع المُزينة لاحتفالات عيد الميلاد. إلا أنهما يشتاقان للناس أكثر من أي شيء آخر، إذ تدور الحياة في كرملش في فلك العائلة والجيران. 

في ديترويت، وجد إيفان أن الجميع ينشغلون بمصالحهم الخاصة ويميلون إلى البقاء في بيوتهم. تعمل كاترين بدوام جزئي، بينما يعمل إيفان ساعات طويلة ليتمكن من جني ما يكفي من المال لتغطية متطلبات التأمين والضرائب. إلا أنها مؤمنان بأن الرحيل كان الخيار الصحيح. قالت كاترين، “أعتقد أن على الجميع ترك العراق. إنه ليس آمناً”.   

يرى ثابت أنه مسؤول عن إعادة بناء البلدة، وغرس الفخر بتاريخها في نفوس الجيل الآتي. إلا أنه يعلم مخاطر البقاء في العراق، وحدود قدراته في المساهمة للحفاظ على مجتمعه. لم تكن كاترين هي الشقيقة الوحيدة التي غادرت إلى الولايات المتحدة، إذ انتقلت إحدى الشقيقات إلى الأردن، بينما بقيت الأخرى في أربيل عقب الفرار من تنظيم الدولة، وهي خائفة من العودة إلى الوطن. 

مدينة ألقوش

وعلى مسافة 35 ميلاً شمال غربي كرملش، تقبع مدينة ألقوش على سفح الجبال التي تفصل العراق عن تركيا. بالنسبة إلى مسيحيي سهل نينوى، تمثل ألقوش فخراً قومياً ودينياً، إذ كانت محطة على طريق الكثير من الشخصيات المهمة في العالم المسيحي القديم، وتُشبَّه أهميتها أحياناً بالقدس أو روما.

وهناك تاريخ آخر لألقوش. تضم طرق المدينة المتعرجة قبراً يُقال إنه لناحوم، أحد الأنبياء الذي يُعتقد أنه عاش في المنطقة خلال القرن السابع قبل الميلاد، وبغض النظر عما إذا كان ناحوم مدفوناً هنا أم لا، فقد اعتاد بعض اليهود التعبد في هذا المكان. كان المبنى كنيساً يهودياً، غُطيت جدرانه بالعبرية. وعلى إحدى الصخور المنقوشة، حُفر وعد مفاده “سيكون هذا هو مسكنك إلى الأبد”.

عاش اليهود في ألقوش قروناً، وفي العراق آلاف السنين، على رغم أن الأب آرام، الكاهن الذي أطلعني على المدينة، لا يعرف عنهم شيئاً سوى من القصص. كُتب التلمود البابلي، الكتاب الرئيسي لليهودية الربانية، في هذا المكان. لكن على مدار سنوات قصيرة، اختفى اليهود من العراق. وطُرد من تبقى من يهود العراق في نهاية الأربعينات وأوائل الخمسينات في خضم ازدياد الضغط السياسي والعنف المجتمعي. 

يرى كهنة سهل نينوى في هذا التاريخ تحذيراً لهم. إذ يمكن أن تتحول مجتمعاتهم أيضاً في نهاية المطاف إلى مجموعة قبور متناثرة. وإن استمر رحيل المسيحيين من سهل نينوى والأماكن المشابهة، فإن تاريخهم العظيم سيصل إلى نهايته.

لا تعد المسيحية بالنسبة إليهم مجرد إيمان، إنها ارتباط بمكان ولغة وجنسية. وهي الهوية التي يزداد الحفاظ عليها صعوبة، في حال تفرق أفرادها في أصقاع البلاد والقارات. قال لي ثابت إن ضمان مصير سهل نينوى جوهري “للحفاظ على هويتنا وإرثنا ولغتنا. نحن سكان العراق الأصليون”.

 

 هذا التحقيق مترجم عن theatlantic.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!