fbpx

المصريون يدفنون موتاهم مرتين… وأحياناً أكثر!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليست هذه المرة الأولى التي تُزال فيها المقابر من أجل التوسع العمراني، فسابقاً كانت أزيلت بعض المقابر لإنشاء طريق صلاح سالم في القاهرة، لكن هذه المرة ذهبت الجرافات بعيداً جداً بشكل بات يهدد الهوية البصرية للقاهرة التاريخية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الفيلم المصري “عروس النيل” (1963) الذي أخرجه فطين عبد الوهاب، من بطولة لبنى عبد العزيز ورشدي أباظة، أصيب أباظة أو المهندس سامي الذي كان يحفر بجوار قبور عرائس النيل، ليعثر على البترول، بلعنة لأنه يعبث بتراث المصريين القدامى وبقبورهم، وما كان منهم إلا أن أرسلوا له “هاميس”، آخر عروس نيل ليكف عن العبث بالموتى، والاعتداء على أجداده.

أتذكر هذا الفيلم بحزن فيما أقرأ عن إزالة جبّانات أو مقابر في القاهرة التاريخية، لتوسعة الطرق، وبناء محاور، وجسور، هذه المقابر التي تضم رفات شخصيات تاريخية، وفنية، وثقافية، وأشخاص عاديين أيضاً أقلقت الجرافات منامهم، واضطر أهلهم إلى تكفين رفاتهم مرة أخرى، لدفنها بعيداً من قلب المدينة. وفي خضم الزوبعة المثارة حول ما يسميه البعض “سرقة” معتنقي فكرة “الأفروسينتريزم” الحضارة المصرية، وتزوير التاريخ القديم، هناك تاريخ أحدث قليلاً يُزال، ومدينة تتغير ملامحها، وأمهات يفجعن بأبنائهن مرة جديدة، وبين هؤلاء من توفوا حديثاً ولم تتحلل أجسادهم بعد

فلماذا مثلاً لم تعلن الحكومة خطتها مبكراً قبل دفن هؤلاء؟ ما نعلمه أن الرئيس عبد الفتاح السيسي يكره دراسات الجدوى.

يقول الشاعر محمود درويش: هزمتك يا موت الفنون جميعها/ هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين/ مسلة المصري/ مقبرة الفراعنةِ/ النقوشُ على حجارة معبدٍ/ هزمتك وانتصرت/ وأفلت من كمائنك الخلود/ فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد 

لطالما كان الموت مقدساً عند المصريين، الموت هو الخلود والحياة الأبدية، أو كما ينص كتاب الموتى “عسى أن أدخل أرض الأبدية… عسى أن أصل سالماً إلى أرض الخلود، لأنه انظر يا ربي هذا ما أمرت لي به”.

ليست هذه المرة الأولى التي تُزال فيها المقابر من أجل التوسع العمراني… لكن هذه المرة ذهبت الجرافات بعيداً جداً بشكل بات يهدد الهوية البصرية للقاهرة التاريخية.

مدافن “سيّارة”

يحرص المصريون على زيارة موتاهم في الأعياد، والمواسم، فـ”للميت حرمة”، أتذكر ذلك وأنا أقرأ منشوراً على “فيسبوك” يعود إلى آب/ أغسطس 2022، يطلب المساعدة في الوصول إلى أصحاب المدافن، الذين لم يُعرف لهم عنوان، لأنها ستنقل إلى مدينة 15 مايو. وقبل ذلك بعامين نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس الوزراء رقم 1429 لسنة 2020 باعتبار مشروع إنشاء محور الفردوس وحتى الربط مع امتداد محور المشير طنطاوي، من أعمال المنفعة العامة. وكان هذا التاريخ بداية لإزالة المقابر الواقعة في منطقة القاهرة التاريخية.

كان فتح المدافن الواقعة في منطقة السيدة نفيسة أمراً مؤلماً لعائلة الصحافية مي خلف، إذ اتصلت مسؤولة المدافن بالعائلة لتبلغهم بالأوراق المطلوبة وتكلفة فتح المدافن ونقل الرفات إلى مقبرة أخرى. حضر فرد من كل أسرة في عائلة مي، حاملين أكفاناً جديدة ليكفّنوا بها رفات أهلهم، فيما تظهر على وجوههم علامات الحنق والانزعاج والأسى، فمدافنهم الجديدة في العاشر من رمضان، ستجعل زيارة موتاهم بمثابة رحلة سفر. هذا إضافة إلى صغر مساحة المقابر الجديدة، فقد عُوض أصحاب المقابر التي تبلغ مساحتها 50 متراً، بأخرى مساحتها 25 أو30 متراً. ولم تحصل عائلة مي على أي تعويض، بل على العكس، فقد تكلف أفرادها عبء النقل، إضافة إلى العب النفسي الذي يعنيه دفن موتاهم مرتين. 

ليست هذه المرة الأولى التي تُزال فيها المقابر من أجل التوسع العمراني، فسابقاً أزيلت بعض المقابر لإنشاء طريق صلاح سالم في القاهرة، لكن هذه المرة ذهبت الجرافات بعيداً جداً بشكل يهدد الهوية البصرية للقاهرة التاريخية.

مدينة الموتى

مدينة الموتى المعروفة باسم القرافة تعود إلى عهد  دخول العرب إلى مصر، وتأسيسهم لمدينة الفسطاط، بعدها  بنت كل قبيلة فيها مقابرها. وأصبحت شيئاً فشيئاً تضم مقابر كل من حكموا مصر بعد ذلك. وتغطي المقابر 6 ست مناطق: القرافة، الصحراء، السيدة نفيسة، باب الوزير، باب النصر، زينهم. هذه القبور تروي تاريخ مصر، ويرقد فيها ملوك وسلاطين وأولياء وفنانون وأدباء، طراز معماري فريد يتم هدمه ويضيع معه جزء كبير من تاريخ مصر.

الدكتور أبو العلا خليل الباحث الإسلامي يقول لـ”درج”: “إن أهل مصر كانوا معتادين على زيارة المقابر، كانوا يزورونها فرادى وجماعات، وكان لهم مرشد يسمى المرشد الزائر، هو بمثابة دليل سياحي، رجل عليم بالقرافة، وبمن دفن فيها، وله برنامج للزيارة، له بداية ونهاية، يبدأ بالسيدة نفيسة بنت الحسن وينتهي بالإمام الشافعي، ويقول إنه كان من الأدب ألا يُزار أحد بعد الشافعي”.

ويقول إن هذه المنطقة تزخر بالمنشآت التاريخية، والأثرية، فمثلاً خلف مسجد السيدة نفيسة هناك أبواب تاريخية مثل باب الخلاء، وباب الصحراء، ورباط أم العادل، كلها آثار وأماكن تاريخية، إنما تعتبر آثاراً جديدة غير مسجلة. ويرى خليل أن “ما يحدث من إزالة للأماكن التاريخية هو بمثابة إجرام”.

وكانت د.جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني وهي من أبرز المدافعات عن جبانات القاهرة والتي قامت بدراستها منذ 35 سنة، قد أصدرت بياناً عام  2020 بعد إزالة عشرات المدافن في قرافة المماليك، عبّرت فيه عن صدمتها، وصدمة المهتمين بالتراث من التجديد العمراني على حساب هذه المنطقة التاريخية، التي تضم قبوراً لسلاطين المماليك وأمرائهم وأسرهم، وتعتبر من أروع ما أنتجته العمارة المملوكية في العالم الإسلامي. وجبانة المماليك أنشئت في العصر المملوكي، وضمت مدافن لشخصيات تاريخية وسلاطين. كما أصدرت مبادرة “أنقذوا جبانات القاهرة التاريخية” نداء لرئيس الجمهورية لمطالبته بصون الكنوز التاريخية.

ما التراث في نظر الدولة؟

تكمن الإشكالية في أن الحكومة تهتم بالجبانات المسجلة على قائمة الآثار، وهذه نسبتها قليلة جداً، ولا تتعدى الـ1 في المئة، فالمباني غير المدرجة بوصفها مباني أثرية هي مقابر تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. د.جليلة القاضي تقول إن وزارة الآثار لا تعي معنى التراث، فلا تعتبر هذه المقابر تاريخية، على رغم أن منطقة القاهرة التاريخية والتي تحتوي على الجبانات التي تضم شخصيات مؤثرة في الفن والثقافة مثل الشاعر أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومحمود سامي الباوردي، وعلي مبارك، كلها مبان وشوارع سُجلت على لائحة التراث العالمي عام 1979. هذه المقابر التاريخية، جزء أصيل من هوية القاهرة، التي بات شكلها يتغير كل يوم وأصبحت غريبة على أهلها.

في المقابل، أكد الرئيس السيسي أن هدف هذه المحاور هو تخفيف الحركة على صلاح سالم، وقال إن مقابر “الشخصيات التي نقدرها ونحترمها، أو ذات أثر تاريخي لن تُمس”. لكن ذلك لم يمنع من إزالة مقبرة الأديب المصري يحيى حقي، وكتب “قنديل أم هاشم” و”أم العواجز”، وكان أوصى بأن يدفن في السيدة نفيسة.

وكان أفراد من عائلة حقي قد وجدوا علامة إزالة (x) على مقبرته وتم إبلاغهم بضرورة نقل رفاته إلى العاشر من رمضان، فقامت ابنته بمناشدة السلطات بترك مقبرة والدها في رحاب السيدة نفيسة، وإنقاذ مقبرته أسوة بمقبرة الأديب طه حسين، التي نجت من الإزالة بعد حملة شنها المهتمون بالتراث، وبالمقابر التاريخية، لكن أحداً لم يستمع لابنة يحيى حقي. وكتبت نهى يحيى حقي في كانون الأول/ ديسمبر 2022 على صفحتها على “فيسبوك” بعد نقل مقبرة أبيها “آسفة يا صاحب القنديل وعزائي أنك عند بارئك في رحمة الله وفي جنة الفردوس، أما الجسد  ما هو إلا ثوب  يخلعه الإنسان عند الموت، وذكراك ستظل ذكرى عطرة  في جبين الزمان”… 

تقول نهى لـ”درج”: “نُقلت مقبرة أبي إلى العاشر من رمضان، وغادر الجارة الغالية السيدة نفيسة، وهو الذي كان مولده في السيدة زينب”. 

للمدافن رهبة، كنت أمر دائماً في منطقة الإمام الشافعي، وقد تمنيت مراراً زيارة المدافن، لكن لم أقوَ على ذلك، للمرة الأولى تغلبت على خوفي، وسرت في المنطقة، ربما لن أستطيع زيارتها مرة أخرى، يخبرني أحد الأطفال أمام مسجد الإمام الشافعي أن أذهب إلى الإمام الليثي، ويعرض عليّ أن يصطحبني إليه، لكنني أفضل استكشاف الطريق بمفردي. يبدو الموت مألوفاً في المنطقة، حتى إن الاهالي يسكنون بجوار المدافن.

وعن ساكني القبور تقول د.جليلة القاضي في كتاب “التحضر العشوائي”، “لقد لعبت القاهرة التاريخية دور الوعاء الذي يستوعب الزيادة السكانية والمهاجرين الريفيين الجدد، أما الشرائح الدنيا فلم تجد لها مكاناً في المساكن المتدهورة للمدينة التاريخية فاتخذت من المقابر مسكناً لها”.

هناك أيضاً صانع الرخام الذي يُكتب عليه اسم الميت، وتاريخ وفاته، وبالجوار رجل نائم أمام مقبرة، بقربه كمية كبيرة من الزهور الحمراء. وفي الجوار أجد مدفن الأديب أحمد تيمور باشا، صاحب “موسوعة الأمثال المصرية”.

 وخلف مسجد الإمام الشافعي يقع حوش الباشا، أو مقابر العائلة الملكية، عائلة محمد علي، التي أنشأها محمد علي باشا عام 1808، ودفنت عائلته هناك، واستمرت توسعة المدفن حتى القرن العشرين. بالجوار عائلات أرستقراطية، وشخصيات تاريخية وغير تاريخية.

ثمة منطقة أخرى فوجئ أصحابها بقرار إزالة مقابر ذويهم من منطقة “الهايكستيب”، لم يجد الأهالي مفراً من مناشدة الرئيس السيسي برفع الظلم عنهم، وترك رفات أهلهم بسلام. زين عبد الشافي أحد أهالي المنطقة يقول لـ”درج” إنهم أُخطروا بإزالة المقابر، وطُلب منهم حصر موتاهم، وقد عُرض عليهم تعويض 70 لحداً ليجمعوا بها كل المتوفين. حزن زين من فكرة فتح المقابر، لأن والدته توفيت قبل أشهر، كما أن أخاه توفي شاباً بسبب “كوفيد- 19”.

عبد الشافي ليس متأكداً مما إذا كان الأهالي سيحصلون على تعويض عن المقابر أم لا، ويقول إنه لا يعرف كيف يمكن أن يشتري قطعة أرض مخصصة للمدافن في هذه الظروف الاقتصادية الطاحنة، فـ”سعر المدفن بات يفوق ثمن شقة سكنية”.

14.05.2023
زمن القراءة: 6 minutes

ليست هذه المرة الأولى التي تُزال فيها المقابر من أجل التوسع العمراني، فسابقاً كانت أزيلت بعض المقابر لإنشاء طريق صلاح سالم في القاهرة، لكن هذه المرة ذهبت الجرافات بعيداً جداً بشكل بات يهدد الهوية البصرية للقاهرة التاريخية.

في الفيلم المصري “عروس النيل” (1963) الذي أخرجه فطين عبد الوهاب، من بطولة لبنى عبد العزيز ورشدي أباظة، أصيب أباظة أو المهندس سامي الذي كان يحفر بجوار قبور عرائس النيل، ليعثر على البترول، بلعنة لأنه يعبث بتراث المصريين القدامى وبقبورهم، وما كان منهم إلا أن أرسلوا له “هاميس”، آخر عروس نيل ليكف عن العبث بالموتى، والاعتداء على أجداده.

أتذكر هذا الفيلم بحزن فيما أقرأ عن إزالة جبّانات أو مقابر في القاهرة التاريخية، لتوسعة الطرق، وبناء محاور، وجسور، هذه المقابر التي تضم رفات شخصيات تاريخية، وفنية، وثقافية، وأشخاص عاديين أيضاً أقلقت الجرافات منامهم، واضطر أهلهم إلى تكفين رفاتهم مرة أخرى، لدفنها بعيداً من قلب المدينة. وفي خضم الزوبعة المثارة حول ما يسميه البعض “سرقة” معتنقي فكرة “الأفروسينتريزم” الحضارة المصرية، وتزوير التاريخ القديم، هناك تاريخ أحدث قليلاً يُزال، ومدينة تتغير ملامحها، وأمهات يفجعن بأبنائهن مرة جديدة، وبين هؤلاء من توفوا حديثاً ولم تتحلل أجسادهم بعد

فلماذا مثلاً لم تعلن الحكومة خطتها مبكراً قبل دفن هؤلاء؟ ما نعلمه أن الرئيس عبد الفتاح السيسي يكره دراسات الجدوى.

يقول الشاعر محمود درويش: هزمتك يا موت الفنون جميعها/ هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين/ مسلة المصري/ مقبرة الفراعنةِ/ النقوشُ على حجارة معبدٍ/ هزمتك وانتصرت/ وأفلت من كمائنك الخلود/ فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد 

لطالما كان الموت مقدساً عند المصريين، الموت هو الخلود والحياة الأبدية، أو كما ينص كتاب الموتى “عسى أن أدخل أرض الأبدية… عسى أن أصل سالماً إلى أرض الخلود، لأنه انظر يا ربي هذا ما أمرت لي به”.

ليست هذه المرة الأولى التي تُزال فيها المقابر من أجل التوسع العمراني… لكن هذه المرة ذهبت الجرافات بعيداً جداً بشكل بات يهدد الهوية البصرية للقاهرة التاريخية.

مدافن “سيّارة”

يحرص المصريون على زيارة موتاهم في الأعياد، والمواسم، فـ”للميت حرمة”، أتذكر ذلك وأنا أقرأ منشوراً على “فيسبوك” يعود إلى آب/ أغسطس 2022، يطلب المساعدة في الوصول إلى أصحاب المدافن، الذين لم يُعرف لهم عنوان، لأنها ستنقل إلى مدينة 15 مايو. وقبل ذلك بعامين نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس الوزراء رقم 1429 لسنة 2020 باعتبار مشروع إنشاء محور الفردوس وحتى الربط مع امتداد محور المشير طنطاوي، من أعمال المنفعة العامة. وكان هذا التاريخ بداية لإزالة المقابر الواقعة في منطقة القاهرة التاريخية.

كان فتح المدافن الواقعة في منطقة السيدة نفيسة أمراً مؤلماً لعائلة الصحافية مي خلف، إذ اتصلت مسؤولة المدافن بالعائلة لتبلغهم بالأوراق المطلوبة وتكلفة فتح المدافن ونقل الرفات إلى مقبرة أخرى. حضر فرد من كل أسرة في عائلة مي، حاملين أكفاناً جديدة ليكفّنوا بها رفات أهلهم، فيما تظهر على وجوههم علامات الحنق والانزعاج والأسى، فمدافنهم الجديدة في العاشر من رمضان، ستجعل زيارة موتاهم بمثابة رحلة سفر. هذا إضافة إلى صغر مساحة المقابر الجديدة، فقد عُوض أصحاب المقابر التي تبلغ مساحتها 50 متراً، بأخرى مساحتها 25 أو30 متراً. ولم تحصل عائلة مي على أي تعويض، بل على العكس، فقد تكلف أفرادها عبء النقل، إضافة إلى العب النفسي الذي يعنيه دفن موتاهم مرتين. 

ليست هذه المرة الأولى التي تُزال فيها المقابر من أجل التوسع العمراني، فسابقاً أزيلت بعض المقابر لإنشاء طريق صلاح سالم في القاهرة، لكن هذه المرة ذهبت الجرافات بعيداً جداً بشكل يهدد الهوية البصرية للقاهرة التاريخية.

مدينة الموتى

مدينة الموتى المعروفة باسم القرافة تعود إلى عهد  دخول العرب إلى مصر، وتأسيسهم لمدينة الفسطاط، بعدها  بنت كل قبيلة فيها مقابرها. وأصبحت شيئاً فشيئاً تضم مقابر كل من حكموا مصر بعد ذلك. وتغطي المقابر 6 ست مناطق: القرافة، الصحراء، السيدة نفيسة، باب الوزير، باب النصر، زينهم. هذه القبور تروي تاريخ مصر، ويرقد فيها ملوك وسلاطين وأولياء وفنانون وأدباء، طراز معماري فريد يتم هدمه ويضيع معه جزء كبير من تاريخ مصر.

الدكتور أبو العلا خليل الباحث الإسلامي يقول لـ”درج”: “إن أهل مصر كانوا معتادين على زيارة المقابر، كانوا يزورونها فرادى وجماعات، وكان لهم مرشد يسمى المرشد الزائر، هو بمثابة دليل سياحي، رجل عليم بالقرافة، وبمن دفن فيها، وله برنامج للزيارة، له بداية ونهاية، يبدأ بالسيدة نفيسة بنت الحسن وينتهي بالإمام الشافعي، ويقول إنه كان من الأدب ألا يُزار أحد بعد الشافعي”.

ويقول إن هذه المنطقة تزخر بالمنشآت التاريخية، والأثرية، فمثلاً خلف مسجد السيدة نفيسة هناك أبواب تاريخية مثل باب الخلاء، وباب الصحراء، ورباط أم العادل، كلها آثار وأماكن تاريخية، إنما تعتبر آثاراً جديدة غير مسجلة. ويرى خليل أن “ما يحدث من إزالة للأماكن التاريخية هو بمثابة إجرام”.

وكانت د.جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني وهي من أبرز المدافعات عن جبانات القاهرة والتي قامت بدراستها منذ 35 سنة، قد أصدرت بياناً عام  2020 بعد إزالة عشرات المدافن في قرافة المماليك، عبّرت فيه عن صدمتها، وصدمة المهتمين بالتراث من التجديد العمراني على حساب هذه المنطقة التاريخية، التي تضم قبوراً لسلاطين المماليك وأمرائهم وأسرهم، وتعتبر من أروع ما أنتجته العمارة المملوكية في العالم الإسلامي. وجبانة المماليك أنشئت في العصر المملوكي، وضمت مدافن لشخصيات تاريخية وسلاطين. كما أصدرت مبادرة “أنقذوا جبانات القاهرة التاريخية” نداء لرئيس الجمهورية لمطالبته بصون الكنوز التاريخية.

ما التراث في نظر الدولة؟

تكمن الإشكالية في أن الحكومة تهتم بالجبانات المسجلة على قائمة الآثار، وهذه نسبتها قليلة جداً، ولا تتعدى الـ1 في المئة، فالمباني غير المدرجة بوصفها مباني أثرية هي مقابر تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. د.جليلة القاضي تقول إن وزارة الآثار لا تعي معنى التراث، فلا تعتبر هذه المقابر تاريخية، على رغم أن منطقة القاهرة التاريخية والتي تحتوي على الجبانات التي تضم شخصيات مؤثرة في الفن والثقافة مثل الشاعر أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومحمود سامي الباوردي، وعلي مبارك، كلها مبان وشوارع سُجلت على لائحة التراث العالمي عام 1979. هذه المقابر التاريخية، جزء أصيل من هوية القاهرة، التي بات شكلها يتغير كل يوم وأصبحت غريبة على أهلها.

في المقابل، أكد الرئيس السيسي أن هدف هذه المحاور هو تخفيف الحركة على صلاح سالم، وقال إن مقابر “الشخصيات التي نقدرها ونحترمها، أو ذات أثر تاريخي لن تُمس”. لكن ذلك لم يمنع من إزالة مقبرة الأديب المصري يحيى حقي، وكتب “قنديل أم هاشم” و”أم العواجز”، وكان أوصى بأن يدفن في السيدة نفيسة.

وكان أفراد من عائلة حقي قد وجدوا علامة إزالة (x) على مقبرته وتم إبلاغهم بضرورة نقل رفاته إلى العاشر من رمضان، فقامت ابنته بمناشدة السلطات بترك مقبرة والدها في رحاب السيدة نفيسة، وإنقاذ مقبرته أسوة بمقبرة الأديب طه حسين، التي نجت من الإزالة بعد حملة شنها المهتمون بالتراث، وبالمقابر التاريخية، لكن أحداً لم يستمع لابنة يحيى حقي. وكتبت نهى يحيى حقي في كانون الأول/ ديسمبر 2022 على صفحتها على “فيسبوك” بعد نقل مقبرة أبيها “آسفة يا صاحب القنديل وعزائي أنك عند بارئك في رحمة الله وفي جنة الفردوس، أما الجسد  ما هو إلا ثوب  يخلعه الإنسان عند الموت، وذكراك ستظل ذكرى عطرة  في جبين الزمان”… 

تقول نهى لـ”درج”: “نُقلت مقبرة أبي إلى العاشر من رمضان، وغادر الجارة الغالية السيدة نفيسة، وهو الذي كان مولده في السيدة زينب”. 

للمدافن رهبة، كنت أمر دائماً في منطقة الإمام الشافعي، وقد تمنيت مراراً زيارة المدافن، لكن لم أقوَ على ذلك، للمرة الأولى تغلبت على خوفي، وسرت في المنطقة، ربما لن أستطيع زيارتها مرة أخرى، يخبرني أحد الأطفال أمام مسجد الإمام الشافعي أن أذهب إلى الإمام الليثي، ويعرض عليّ أن يصطحبني إليه، لكنني أفضل استكشاف الطريق بمفردي. يبدو الموت مألوفاً في المنطقة، حتى إن الاهالي يسكنون بجوار المدافن.

وعن ساكني القبور تقول د.جليلة القاضي في كتاب “التحضر العشوائي”، “لقد لعبت القاهرة التاريخية دور الوعاء الذي يستوعب الزيادة السكانية والمهاجرين الريفيين الجدد، أما الشرائح الدنيا فلم تجد لها مكاناً في المساكن المتدهورة للمدينة التاريخية فاتخذت من المقابر مسكناً لها”.

هناك أيضاً صانع الرخام الذي يُكتب عليه اسم الميت، وتاريخ وفاته، وبالجوار رجل نائم أمام مقبرة، بقربه كمية كبيرة من الزهور الحمراء. وفي الجوار أجد مدفن الأديب أحمد تيمور باشا، صاحب “موسوعة الأمثال المصرية”.

 وخلف مسجد الإمام الشافعي يقع حوش الباشا، أو مقابر العائلة الملكية، عائلة محمد علي، التي أنشأها محمد علي باشا عام 1808، ودفنت عائلته هناك، واستمرت توسعة المدفن حتى القرن العشرين. بالجوار عائلات أرستقراطية، وشخصيات تاريخية وغير تاريخية.

ثمة منطقة أخرى فوجئ أصحابها بقرار إزالة مقابر ذويهم من منطقة “الهايكستيب”، لم يجد الأهالي مفراً من مناشدة الرئيس السيسي برفع الظلم عنهم، وترك رفات أهلهم بسلام. زين عبد الشافي أحد أهالي المنطقة يقول لـ”درج” إنهم أُخطروا بإزالة المقابر، وطُلب منهم حصر موتاهم، وقد عُرض عليهم تعويض 70 لحداً ليجمعوا بها كل المتوفين. حزن زين من فكرة فتح المقابر، لأن والدته توفيت قبل أشهر، كما أن أخاه توفي شاباً بسبب “كوفيد- 19”.

عبد الشافي ليس متأكداً مما إذا كان الأهالي سيحصلون على تعويض عن المقابر أم لا، ويقول إنه لا يعرف كيف يمكن أن يشتري قطعة أرض مخصصة للمدافن في هذه الظروف الاقتصادية الطاحنة، فـ”سعر المدفن بات يفوق ثمن شقة سكنية”.

14.05.2023
زمن القراءة: 6 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية