ثلاث قضايا وضعت اليمنيين أمام اشتباك مباشر مع القوانين السائدة، لا سيما تلك المستمدة من الفقه الإسلامي والشريعة. وكانت صدمتهم كبيرة أمام ما احتوته القوانين اليمنية من مواد متطرفة وتمييزية.
الاشتباك الأول وقع بعدما نقلت الأخبار حادثة ذبح أخ أخته في قاعة المحكمة لأنها طالبت القاضي بتزويجها من الشخص الذي اختارته بعد رفض والدها، إذ لا تستطيع المرأة اليمنية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تزويج نفسها، لأن القانون اليمني يشترط موافقه الأب أو أحد الأقارب على الزواج. وإذا كان أقارب الدرجة الأولى غير متوفرين لسبب من الأسباب فالمرأة مضطرة إلى الحصول على موافقة أقارب الدرجة الثانية. وإذا لم يكونوا متوفرين تنتقل سلطة الموافقة على تزويجها إلى الأقارب من الدرجة الثالثة! أما لو أرادت الفتاة تزويج نفسها فعليها المرور عبر طريق وعرة تبدأ برفع قضية أمام القضاء لنقل سلطة تزويجها الى القاضي، الذي لا يستطيع ذلك قبل التأكد من أسباب عدم رغبة الولي في التزويج. لكن الفتاة هنا ستفقد علاقتها بأسرتها وقد تتعرض للنبذ الاجتماعي والقتل.
لكن الفتاة المذبوحة داخل قاعة المحكمة واجهت حتى وهي ميتة نصوصاً قانونية تمييزية منقولة من قواعد فقهية عفا عليها الزمن. لهذا حاول الأخ تحويل القضية الى “جريمة شرف” مستفيداً من نصوص القانون التي تعطي الرجل حق قتل الأنثى المتلبسة بجريمة أخلاقية. والقانون اليمني لا يعطي حق قتلها للأب والأخ فقط، بل يستطيع أي من أقاربها قتلها (الأعمام، الأخوال، أبناء العم، أبناء الخال) ولن يعاقبوا إلا بالحبس لمدة لا تتجاوز الستة أشهر. وخسرت الفتاة المذبوحة مرة ثالثة أمام القانون الذي يتيح لأولياء الدم العفو عن القاتل، ولأن والد الفتاة هو نفسه ولي الدم وهو نفسه من حرض ابنه على قتل شقيقته، كان القاتل هو نفسه صاحب العفو وذبحت العدالة للمرة الثالثة من الوريد إلى الوريد .
الاشتباك الثاني حدث عندما اشتهرت قضية الطفلة المعنفة شيماء التي قام والدها ووالدتها بتعذيبها بشكل يومي، وقد تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً مريعة لآثار التعذيب في كل أنحاء جسدها. لكن عندما بدأ اليمنيون حملة مناصرة الكترونية لإنصاف الطفلة وجدوا أن القانون ضدّهم وضدّ الطفلة ومع الجاني. فالقانون اليمني يتضمن مواد لا تعاقب الأب إذا ارتكب جريمة في حق أي من أولاده. وهذه المواد نابعة من قاعدة فقهية قروسطية متخلفة ترى أن “الولد ملك لأبيه”، فإن شاء قتله وإن شاء ضربه أو حبسه. وما زال المجتمع اليمني يشهد جرائم قتل يرتكبها الآباء ضد أبنائهم بكل فخر من دون أن يعاقبوا لأن “الأصل” لا يعاقب بسبب ضرر أحدثه في “الفرع”.
وما زالت قضية شيماء معلقة في ظل بيئة فقهية قانونية لا ترى في قتل الآباء لأبنائهم أو تعذيبهم جريمة، ضاربين بعرض الحائط كل الأسس القانونية الحديثة وحقوق الإنسان.
الاشتباك الثالث كان عندما نقلت وسائل الإعلام خبر خطف ثلاثة أشخاص لطفل في مدينة عدن واغتصابه بشكل متكرر وتصوير عملية الاغتصاب.
تمّ القبض على الجناة ومحاكمتهم، لكن المفاجأة أن الحكم جاء بالحبس لمدة عشر سنوات فقط. في البداية وجه الناشطون الاتهام إلى القاضي لكنهم اكتشفو أن القاضي ليس بيده شيء لأن القانون اليمني يصنف جرائم الاغتصاب باعتبارها جرائم “زنا”!
اقرأ أيضاً: إسلام السوق .. من صناعة الحياة إلى “دجاج” الوطنية
الفارق الوحيد أنه في الاغتصاب لا تعاقب الضحية لأنها مجبرة، أما الجاني فيعاقب بالتعزير بعد سقوط الحكم الفقهي الإسلامي عنه (عقوبة الجلد او الرجم)، لأن الفقه الاسلامي يشترط وجود أربعة شهود لعملية الزنا شاهدوا بأم أعينهم العضو الجنسي للرجل وهو يدخل في العضو الجنسي للمرأة. وفي السياق اليمني غالباً ما تسقط قضية الاغتصاب إذا عرض الجاني رغبته في الزواج بالضحية
القانون اليمني لا يتعامل مع “زنا المحارم” باعتباره اغتصاباً، وإنما جريمة زنا عادية، لهذا يعاقب الجاني والضحية معاً.
صفقة رابحة إذاً، فإذا كانت ظروفك المادية صعبة ولم تتمكن من الزواج لا تقلق. اختطف واغتصب وسيمنحك القانون والمجتمع الضحية مجاناً!!
لنعد إلى قضية الطفل المغتصب. لو افترضنا أن العلاقة تمت بالرضا فإن القانون اليمني يصنفها جريمة لواط وعقوبتها هي الإعدام. فإذا مارس ذكران الجنس برضاهما يقتلان حداً، أما إذا خطف أحدهما الآخر واجبره على ممارسة الجنس فعقوبة المجرم الحبس من سنتين إلى عشر سنوات!
إذا كان هذا صادماً لكم، فعليكم الاستعداد لما هو أسوأ.
الزنا على رغم أنه “معصية” دينية فهو يتم بالتراضي بين الطرفين، في حين أن الاغتصاب علاقة قسر وإرغام، والمثير هنا أن القانون اليمني يعاقب على العلاقة القائمة على التراضي بالرجم والقتل إذا كان الزاني متزوجاً، بينما يعاقب على الاغتصاب بعقوبة مخففة. فإذا أدت حالة الاغتصاب الى انتحار الضحية فالقانون يحدد العقوبة الاقصى في هذه الحالة بخمس عشرة سنة.
استدعى المشرع اليمني أكثر القواعد الفقهية تشدداً بمساندة “لجنة تقنين أحكام الشريعة” التي كان لها القول الفصل في كل تشريعات البرلمان اليمني، وعجز عن استيعاب القواعد القانونية الحديثة حتى في توصيف الجريمة وتحديد العقاب المناسب. كانت عقول القرن السابع تشرع لأبناء القرن الحادي والعشرين.
سأزيدكم من الشعر بيتاً.
القانون اليمني لا يتعامل مع “زنا المحارم” باعتباره اغتصاباً، وإنما جريمة زنا عادية، لهذا يعاقب الجاني والضحية معاً. في إحدى القضايا المأسوية تمت محاكمة أب بسبب إجباره ابنته البالغة على ممارسة الجنس لسنوات، وحكم القاضي بحبس الأب (تعزيراً) وبحبس البنت أيضاً خمس سنوات باعتبارها زانية. ولم يدر ببال القاضي أو المشرع اليمني أن هذه الفتاة ضحية تحتاج إلى كامل الدعم النفسي والعلاج الجسدي. لم ير فيها إلا صورة “الزانية”، على رغم بشاعة ما تعرضت له من اغتصاب.
لا يزال القانون اليمني يشرعن لقتل الفكر الحر وحرية العقيدة (حدّ الردة)، وللعقوبات الجسدية البشعة (حد الرجم)، على رغم الاجتهادات الفقهية التي أثبتت أنه ليس تشريعاً دينياً.
انشغل اليمنيون كغيرهم من الشعوب العربية بتغيير النظام السياسي. لكنهم اكتشفوا أن تغيير النظام السياسي لن يغير إلا الواجهة السطحية للأحداث، وأن هناك معارك تغيير أخرى لا تقل أهمية. معارك التغيير الاجتماعي والثقافي والقانوني للخلاص من كل الممارسات والقوانين التمييزية والعنصرية.
تغيير ثقافي ينتزع من العقول ثقافة احتقار المرأة واحتقار الصغير، ومعاداة الحرية والمساواة والديموقراطية بحجة الخصوصيات الدينية والعادات والتقاليد.
اقرأ أيضاً: ماذا فعل فينا العام 1979؟