من المثير للسخرية اليوم أن تكون سوريا من أولى الدول العربية التي نشرت جريدة مطبوعة عام 1851 وكان اسمها “مجمع الفوائد“، كما أصدرت أول مجلة تهتم بحقوق النساء في الشرق الأوسط على يد ماري العجمي 1990، فيما احتلت سوريا عام 2020 المركز 174 من أصل 180 دولة في حريّة الصحافة، إذ يسقط عشرات الصحافيين ضحايا مهنتهم وإيمانهم بالحريّة. وبحسب تقريرٍ صدر عن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” قتل 707 صحافيين منذ بداية الثورة السوريّة، كما اعتقل واختطف ما لا يقل عن 1169 من الصحافيين من بينهم نساء وأجانب.
الجدير بالذكر اليوم هو اعتقال النظام السوري صحافيين وإعلاميين مؤيدين له، في خطوة جديدة لقمع حريّة الإعلام والصحافة، فلماذا يقدم على ذلك؟ أوليست هذه خطوة في توسيع دائرة معارضيه؟
حتى ضغطة الإعجاب أو التعليق سيحاسب عليها السوريّ!
لماذا يعتقل النظام السوري صحافيين مؤيدين له؟
في حين بدت مواقع التواصل الاجتماعي كمتنفس وحيد للشعب الذي يعاني من الفقر والوضع الاقتصادي السيئ، يشكو من خلالها همومه والمصاعب اليومية، جاء النظام ليحرمهم هذا المتنفس، إذ أصدرت وزارة الداخلية بداية العام تعميماً بمكافحة نشر ونقل الأنباء الكاذبة والإشاعات المغرضة، أو التعامل مع مواقع إلكترونية مشبوهة. هذا القانون ليس جديداً في سوريا إنما يعاد إحياؤه الآن، وهذا يعني تكثيف العمل على كمّ الأفواه، فالإشاعات المغرضة قد تعني أي عبارة تكتب أو أي شكوى على الوضع الاقتصادي، وهو مصطلح فضفاض للغاية ولا حدود قانونية واضحة له وهو ما سيوقع أي شخص في الحيرة والخوف من التعبير عن رأيه بأيّ شكل. لا يتوقف الأمر هنا، فمجرد التفاعل والتواصل مع مواقع معارضة للنظام السوريّ أو لا تتوافق مع مبادئه يعني التعامل المشبوه بحسب وزارة الداخلية، إذاً حتى ضغطة الإعجاب أو التعليق سيحاسب عليها السوريّ!
وليُظهر النظام جديّة قراراته بدأ اعتقال إعلاميين وصحافيين مقربين منه، ليُفاجأ المؤيدون باعتقال المذيعة السوريّة هالة الجرف التي أظهرت على الدوام دعمها النظام. بالنظر إلى صفحة الجرف على “فايسبوك” يبدو جلياً سبب الاعتقال، من خلال منشورات تنتقد فيها الأوضاع المعيشية في سوريا، ليؤكد لاحقاً رئيس “اتحاد الصحافيين السوريين”، موسى عبد النور، لموقع “هاشتاغ سوريا” الموالي للنظام، خبر توقيف الجرف، لدى فرع مكافحة الجرائم الإلكترونية التابع للأمن الجنائي بدمشق، بتهمة تجاوز محظورات النشر وارتكابها مخالفة في ما يتعلق بالنشر الإعلامي على مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي العام الماضي، تم اعتقال الصحافي كنان وقاف، إثر شكوى قدمها بحقهِ رجل الأعمال مازن حماد، بعد نشره تحقيقاً صحافياً عن كهرباء محافظة طرطوس يظهر فيه الفساد الحاصل في عقود توليد الكهرباء وورد فيه اسم حماد، ونشر في جريدة “الوحدة السورية”. ليخرج بعدها وزير الإعلام مؤكداً أنه لن يتم اعتقال أي صحافي أو إعلامي من دون إخبار الوزارة عن الأسباب والتهم، لكن ما يحدث اليوم يدل على أن وزارة الإعلام خارج حسابات الأمن السوري تماماً والاعتقال سيتم في أيّ حال، السؤال هنا ما هي الحدود الذي يفترضها النظام السوريّ لحرية الصحافة والإعلام؟ وهل هناك حريّة صحافة في الأصل؟ وماذا تعني الجريمة الإلكترونية بشكل دقيق أو وهن عزيمة الأمة التي باتت التهمة الأكثر شهرة في سوريا؟
تعميق خوف السوريين من التعبير
تكمن خطورة ما يحصل في تعميق مخاوف السوريين، فتهمة “إضعاف الشعور القومي” أو “وهن عزيمة الأمة”، قد تُلصق بأي شخص قد يفكر بوصف الحياة القاسية التي يعيشها السوريون، أو يكتب منشوراً على “فايسبوك”، يعرب فيه عن الوضع الاقتصادي المتدهور، إذاً يُمنع الحديث عن الجوع حتى. عن ماذا يمكن أن يتحدث السوريون إذاً؟ لا شيء على الإطلاق، إنها الطريق المثلى ليمشي شعب مكتفياً بالنظر إلى الأسفل من دون أن يجرؤ على النظر إلى الإمام، خطوة تأتي في سياق تزايدِ الأصوات المعارضة للنظام في الداخل، نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية والتضييق المتزايد على حريات التعبير، وهو ما يريد النظام على ما يبدو الحد منه بشكل سريع.
اعتقال النظام السوري الجرف يعني عدم توانيه عن إقصاء وإخفاء حتى مؤيديه، فبطشه لا يستهدف معارضيه وحسب، وسيبدأ بالصحافيين في رسالة واضحة يقول فيها إن السلطة المسؤولة عن نقل الواقع ستكون أول من يعمل على إسكاته وتخويفه. إنها طريقة مثالية لإغلاق هذا المكان الذي يدعى سوريا على من بقي فيه. ليتعامل النظام بحزم بخاصة مع أصحاب التأثير كالإعلاميين والمذيعين، فأي انتقاد صادر عنهم سيلاقي صداه لدى شريحة واسعة ممن يتابعون هذه الشخصيات وهي شرائح تُساق بطبيعة الحال وتصدق كلّ ما يقولوه إعلام النظام، فلا بدّ أن يلتزم هذا الإعلام بحدوده التي تشمل التطبيل والتزمير لنظام الأسد وتبرير الوضع الاقتصادي المتردي بالمؤامرة الخارجية.
إقرأوا أيضاً:
ما رأي الدستور السوري
يبدو اليوم أن تهمة “النيل من هيبة الدولة” هي مرادفٌ للاعتقال التعسفي والتنكيل بمعتقلي الرأي، فعبارات من قبيل “المس بهيبة الدولة”، “إضعاف الشعور القومي”، “وهن عزيمة الأمّة” هي تهم تتعلق بمشاعر الدولة الذاتية التي يفترضُ نظام الأسد وجودها، كيف يمكن تحديد مشاعر نفسية تتعلق بدولة كاملة! يقول معلقون: “ما هذه الدولة التي يمكن المسّ بهيبتها!”.
يُعرّف النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي في الدستور السوري بالدعوات التي تهدف إلى إثارة أجواء من القلقلة والرعب والإحباط في نفوس أبناء الأمة عن طريق نشر الأكاذيب والإشاعات المغرضة التي تخيف الناس وتدفعهم للتقاعس عن أداء واجبهم في الدفاع عن الوطن والاستسلام للعدو وللأخطار المحيطة به وتكمن المشكلة هنا بربط أمن الدولة الخارجي بالمجاعة والفقر، فما علاقة جوع الناس وتعبيرهم عن ذلك بالدفاع عن الوطن؟ وما علاقة الثورة بالخطر الخارجي أو بتحالفات النظام السريّة؟
وبحسب الدستور السوريّ تتجلى أشكال وهن نفسية الأمة بنقل الأنباء أو روايتها سواء بالكتابة أو الخطابة أو الحديث الشفهي ويعاقب مصدر المعلومات هذه وناقلها أيضاً، وسلطة المحكمة في تقدير صحة الأنباء والأخبار مطلقة لا معقب عليها أبداً!
ولأن مصطلح توهين نفسية الأمة لا حدود له ويصعب تحديد فحواه أو مضمونه وجب على القاضي في هذه الحالة أن يقرّر في طبيعة الأخبار المتناقلة وفحواها وتحديد نية الفاعل وإن كانت حقاً بغرض توهين نفسية الأمة بكامل إرادته، فبحسب القانون إصابة نفسية الأمة هو حدث جلل، ولذلك من يقوم بتوهين نفسية الأمة يستحق الاعتقال الموقت من 3-15 سنة.
بالعودة إلى المرسوم التشريعي رقم 50 لعام 2001 والذي يشكل انتهاكاً صارخاً لحرية الصحافة والنشر، فهو يُحظر كتابة التقارير أو المقالات التي قد تمسُّ بوحدة المجتمع أو الأمن الوطني، كما يمنع على أي مطبوعة دورية غير سياسية نشر أي مقال سياسي كما يعاقب كلّ من تلقى أموالاً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من مؤسسات أو حكومات أجنبية. والنقطة الأخطر التي تتعلق بحرية الصحافة هي وجوب انتساب أي صحافي أو إعلامي إلى “اتحاد الصحافيين السوريين” كي يتمكن من الحصول على بطاقة صحافي لممارسة عمله، وهذا يعني أن كلّ من يمارس الصحافة من دون الانتساب إلى اتحاد الصحافيين للنظام الحق في تجريمه! ويذهب القانون إلى إلزام الصحافي بالكشف عن مصادر معلوماته في حالات معينة أو تسحب منه بطاقته. كلّ ما سبق يشكل انتهاكاً صارخاً لحريّة الصحافة، بالاعتماد على مصطلحات قانونية فضفاضة يستطيع النظام التلاعب فيها في سبيل كبت الحريات.
ليس جديداً اعتقال النظام السوريّ معارضيه، لا حرية للصحافة في سوريا، ولا مكان للآخر المختلف، فمعارضةُ النظام واحدةٌ من الخطايا التي لا تغتفر، الحيطان لها آذان، والمخبرون في كلّ زاوية، وحين حاول السوريون إعلاء أصواتهم في بداية 2011 كان الثمن ملايين الضحايا والنازحين والمفقودين والمعتقلين.
إقرأوا أيضاً: