fbpx

الهزيمة التي ألحقت بنا في بيبلوس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما حدث مع “مشروع ليلى” في لبنان نكسة. هو نكسة أوّلاً بسبب ما حصل بذاته كفعل قمع ومنع، وما أحاط به من إساءات وتحريض وعنف. ثانياً، بسبب اعتبار معظم اللبنانيين أنّ ما حدث تفصيل، يقلّ أهميّة عن أحداث العنف المتنقّلة والخلافات السياسيّة المهينة التي تجتاح شاشات التلفزيون.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لقد هُزِمنا. هكذا، علينا أن نعترف. وهو ليس بأمر جديد. بل حريّ بنا القول إننا مهزومون. نحن مهزومون منذ زمن. انهزمت أيديولوجيات القرن الماضي ومشاريع الحداثة، انهزمت أحلام الشباب في الربيع العربي وفي الحراكات التغييريّة في لبنان، انهزمت الدولة أمام الطوائف، والتعدديّة في مقابل الانعزاليّة. كنت على يقين من هزيمة كل ذلك، وكنت أرى أن الفن هو آخر مساحات الأمل، على رغم الضغوط والأعمال الرقابيّة، ولكنه يبقى المكان المتاح للعمل. مع ما حدث لـ”مشروع ليلى” تيقّنت من هزيمة هذا أيضاً. الهزيمة من دون شك نهاية. ولكنها قد تكون بداية، علينا أن نعيها أولاً، أن نعترف بها ثانياً، أن نعرّفها ونحلّلها وننقدها ثالثاً، ثم ننطلق للفعل من جديد.

كنت مسافراً خلال الأسبوعين الفائتين خارج لبنان، لعلّي أتنفّس قليلاً، تجولت في مدن حيث الناس من دول متنوعة، من أجيال كثيرة وهويّات وتوجّهات جنسيّة مختلفة، وقناعات وانتماءات عقائديّة وسياسيّة ودينيّة متباينة. هناك أمكنني أن أتنشق ما أفتقده هنا: الاحتفاء بالتنوّع والتعدّد، الاحتفاء بالمساحة العامة، الاحتفاء بالفن والأدب والتاريخ، الاحتفاء بالتحديات القائمة في الأيديولوجيات المتصارعة والمواجهة مع الفكر العنصري والقومي المتطرّف. هناك، تحدثتُ مع الكثير من الناس الذين يحتفون بالآتين الجدد، أو الذين يكنّون الكره لهم، ومع الذين يدركون الوضع في منطقة الشرق الأوسط أو الذين يجهلون ما يحصل من حولهم. في كل الأحيان، كنت أجادل وأدافع وأشرح عن لبنان وتعدّديّته الإيجابيّة السلبيّة، عن الوعي السياسي، عن الفن، عن الحركة الموسيقية البديلة، عن المسرح والأدب. كنت متحمّساً، أستوحي وأفكّر وأعيد التفكير. كلّما أخبرت أحداً عن الحراك الثقافي في لبنان تملّكني الأمل والعودة إلى العمل، حتى وصلني خبر ما يحدث مع حفل “مشروع ليلى” في جبيل. انتكست. انهزمت. انهزم داخلي الفكر. انهزمت في فكري الرغبة. انهزم في رغبتي الأمل. وانسحبت إلى حزن وخيبة. وبقيت أتأمل الحدث بكسل كئيب.

ما حدث مع “مشروع ليلى” في لبنان نكسة. هو نكسة أوّلاً بسبب ما حصل بذاته كفعل قمع ومنع، وما أحاط به من إساءات وتحريض وعنف. ثانياً، بسبب اعتبار معظم اللبنانيين أنّ ما حدث تفصيل، يقلّ أهميّة عن أحداث العنف المتنقّلة والخلافات السياسيّة المهينة التي تجتاح شاشات التلفزيون.

إن كان للتحريض السياسي وأحداث العنف تأثير على السياحة والاقتصاد، يمكن العمل على تعويضه في عام أو اثنين، ولكن ما حدث مع فرقة مشروع ليلى وجمهورها الشاب لا يمكن تعويضه بعشر سنوات.

إنه ضربة للموسيقى والأغنية البديلة والمعاصرة في لبنان، ضربة لفرقة تحمل مع سواها من الفنانين طرحاً بديلاً عن مغنيين التنورة والكعب العالي ومغني “براسو بخرطش فردي”.

إنه ضربة لجمهور كبير من الشباب الذي يرى في هذا النوع من الموسيقى ملاذاً متقدّماً حرّاً يحترم وسع خياله وعقله، يعبّر عن حاضره وفكره الديناميكي، بعيداً ممّا تحمله الموسيقى الشعبية من رومانسيات كاذبة لأغاني الحب الساذجة،وهوبرة الاغاني الوطنية وتفشيخ الاغاني الذكورية.

إنه ضربة للفكر وإبقاء الاحتمال على النقد والتفكير والتأويل وإظهار صورة دواخلنا المتناقضة المتصارعة من خلال الفن. فبمسلماتنا أصبحنا نياماً لا نسائِل، لا نحلُم ولا نتغيّر.

إنه ضربة للموسيقى والأغنية البديلة والمعاصرة في لبنان، ضربة لفرقة تحمل مع سواها من الفنانين طرحاً بديلاً عن مغنيين التنورة والكعب العالي

ما حصل ضربة للقانون، أعلى تمثّلات الفكر الاجتماعي أيضاً، والذي حين يُضرب نعود إلى الغابة، ونحن نعاد يوميّاً إلى أدغال معتمة ظلاميّة.

إنه ضربة لما تبقّى من صورة للحريّة والفكر والتقدّم الثقافي في لبنان. اليوم لا فرق بين لبنان وأيّ بلد متزمّت في المنطقة والعالم. وهو أيضاً ضرب للفرد ومعنى الفرد وقيمة الفرد كروح حرّة خلّاقة مبدعة مميّزة. فما حدث يقول لنا: إمّا أن تمتثل للجماعة وتُخرس ما تتفرّد به، أو نُخرسك بالقوّة.

وهو ضربة لمعنى الدين والمؤسّسات الدينيّة كمعقل للرحمة والتسامح، وعودة لصورة غير مستحبّة عن الدين ملؤها التكفير وإباحة القتل باسم الله.

قال أحد المحرّضين الذين فرحوا بإلغاء حفل مشروع ليلى “إنّه انتصار للمسيح”! لا أعرف صراحة عن أيّ مسيح يتحدّث؟ مسيح المحبة والتسامح والسلام؟ المسيح الذي لم يؤذ بعوضة؟ المسيح الذي نادى بمملكة للمهمّشين والمحرومين؟ بماذا يشبه المسيح هؤلاء التكفيريون وأصحاب التحريض على الأذيّة والعنف والقتل؟ بماذا يشبهونه هؤلاء الذين لا قدرة لهم على التقبّل والتفهّم؟

شاهد أيضاً: القمع مش مشروع…

المسيح لم ينتصر. لم ينتصر بهذا. ولكن أنت وأمثالك نعم، انتصرتم. مبروك. فبانتصاركم هزمتم كثيرين. مبروك عليكم هزيمتهم. وأنا واحد منهم. أنا مهزوم. ومعي الآلاف. آلاف الذين لا يؤمنون بغابتكم. آلاف الذين ملّوا وهاجروا. آلاف الفنانين والمفكّرين والمبدعين والمثقّفين والأفراد الذين ضاقت بهم ظُلمة أدغالكم وسافروا إلى حيث يمكنهم العيش في النور. آلاف الذين ما زالو صابرين، يائسين متأمّلين مكتئبين متفائلين تعبين مندفعين منتظرين. هؤلاء من يسعون إلى صنع مساحات من الحريّة، إن كنت تعي ما أقصد، من دون التعدّي على حريّة الآخرين، أيضاً إن كنت تعرف قصدي!

هو ضربة لمعنى الدين والمؤسّسات الدينيّة كمعقل للرحمة والتسامح، وعودة لصورة غير مستحبّة عن الدين ملؤها التكفير وإباحة القتل باسم الله

وهؤلاء هم من انتصر منطق التخلّف عليهم. أنتم الـ”هؤلاء” المنتصرون. نحن المهزومون. المسيح انهزم في حياته يا عزيزي ثم قام بعدها. الفكر لا يموت، الفن لا يموت، ينهزم حيناً كما انهزم مع “داعش” في العراق وسوريا، وفي العصور الوسطى الأوروبيّة الظلاميّة، وكما ينهزم اليوم في جبيل، في “بيبلوس”، مع كل ما تحمله المدينة من تاريخ.

فهنيئاً لمن انتصروا انتصارهم، وهنيئاً للدولة اللبنانيّة هذا الإنجاز الجديد الذي يمكن لسياسييه إدراجه في سجلات الانتصارات الفئويّة، تلك التي تبرز الطوائف في تبادلها وتراشقها في ما بينها. هذه الانتصارات التقوقعيّة التي صنعت من هذا اللبنان، هذا اللبنان. فهنيئاً لكم.

 أما نحن، فسنصمت حينًا لأنّنا المهزومون! لكن، سنبني من جديد، ونخلق من جديد، ربما هنا، ربما في مكان آخر، ربما قريبًا، ربما في زمن آخر. بعد أن انصلب، المسيح قام يا عزيزي، حقًّا قام.

“المسيحيون الجدد” ينتصرون على “مشروع ليلى”