“تشعرين بالوحدة. إحساس رهيب بالوحدة. تدركين أنّك لستِ ملكة قرارك المتعلّق بجسمك. الجميع يحاوطك، يحاوطون جسمك. القانون والمجتمع… والطبيب. تريدين الإجهاض؟ حسناً، تألّمي لوحدك. فالمرأة التي تقرّر الإجهاض، مذنبة بنظرهم، وعلى هذا الأساس وجب معاقبتها. فلتدفع الثمن إذاً، ولتتوجّع لوحدها”.
بهذه الكلمات، تصف”ندى”* ما شعرت به خلال سعيها للحصول على إجهاض آمن في عيادة طبيبها النسائي الذائع الصيت في بيروت. ندى التي وثقت بطبيبها الذي رافقها مدّة 17 عاماً واعتقدت أنّ الأمور قد تكون أكثر سلاسةً بما أنّها امرأة متزوّجة وعلى علاقة جيّدة بطبيبها، صُدمت حين صارحته قبل أشهر قليلة بأنّها ترغب بإنهاء حملها.
“أنّبني، أدّبني، ومارس كل ما يمتلك من سلطة طبيّة وأبويّة عليّ وعلى جسمي. حتّى أنّه فحصني بعنف، متسلّحاً بمعرفته بأنّ القانون أصلاً ضدّي”، (وليست مصادفة أن يكون جرم الإجهاض في لبنان واقعاً ضمن الباب السابع من قانون العقوبات المتعلّق بالجرائم المخلّة بالأخلاق والآداب العامّة). وتتابع”ندى”، “كان بإمكانه ببساطة أن يرفض، أن يخبرني بأنّه لا يستطيع إجراء مثل تلك العمليّات، وينتهي الموضوع. ولكنّه أبى إلا أن يشعرني بسلطته، وبأنّه هو الذي يقوم بتضحية إذا فعل ما طلبته منه”.
تعليقاً على تصرّف هذا الطبيب، وغيره من الأطبّاء، تقول “ندى”، “بدلاً من أن يكون الطبيب، لا سيّما الطبيب النسائي، متحسّساً لوضع المرأة النفسي وهشاشة ظرفها خاصّة وأنّ القانون ضدّها، ترينه يتسلّح بكون القانون ظالماً بحقّها وبإدانة المجتمع لها فيفاقم شعورها بالوحدة ويمارس سلطته الموجودة أصلاً على جسدها”.
غادرت “ندى” عيادة طبيبها، واتّصلت به في اليوم التالي لتفرغ ما في صدرها من سخط وخيبة، ثمّ استشارت طبيباً آخر تعامل معها بمهنيّة واحترام، غير أنّه تقاضى مبلغ 1800 دولار لتحقيق رغبتها.
تختم “ندى” قصّتها بالقول “لقد خضّه أنني قرّرت الإجهاض. أنّني مارست بالفعل سلطتي على جسدي. خضّه ذلك فخضّني… لقد حان الوقت لأن يتعامل الأطبّاء بوعي ومهنيّة وحساسيّة مع النساء وأجسادهنّ”.
ليلى وريتا
“تعاملتُ مع الإجهاض كأيّ عارضٍ صحّي آخر”. هكذا وصفت “ليلى” تجربتها الحديثة مع الإجهاض عبر تناولها مزيج من الأدوية. وأردفت، “كان إجهاضي في لبنان آمناً، ولذلك أعتقد أنني من بين المحظوظات وصاحبات الامتياز في السياق القاتم الذي نعيش فيه. أجهضتُ في مرحلة مبكرة من الحمل، وكان وصولي إلى الحبوب الموصوفة سهلاً”.
إدراك “ليلى” لما أسمته امتيازاً أكّدته “ريتا” التي لم تستطع إجراء إجهاض آمن، واضطرّت سرّاً إلى إجراء عمليّة قحط الرحم بقصد الإجهاض في إحدى العيادات الطبيّة في محيط العاصمة بيروت. وقحط الرحم عمليّة تُجرى لأسباب عديدة، منها الإجهاض، وذلك عن طريق إدخال أداة عبر عنق الرحم لإزالة أنسجة الجنين.
بخلاف السلاسة الملموسة في تجربة “ليلى” وحديثها الهادئ حولها، طغى على وصف “ريتا” نبرة أكثر مرارة وحزناً، إذ علّقت على تجربتها بكلمات حملت الكثير من الذنب والأسى، ملخّصةً ما مرّت به قبل سنوات بجملة واحدة كثيفة المعنى: “أحياناً أتمنّى أنّ يكون الطفل الذي أنجبته هو نفسه طفلي المُجهَض الذي قرّر أن يعود”.
لا شكّ في أن تجربة القحط، والعيادة السريّة، والشعور بالوحدة، عوامل شكّلت صدمة لـ”ريتا”. والطبيب الذي أجرى لها العمليّة، كطبيب “ندى”، لم يكن متحسّساً بما فيه الكفاية لظرف المرأة وعلاقتها بجسمها ولم يتابع وضعها بعد الإجهاض كما ينبغي.
في هذا السياق، تُسجّل استفادة أطبّاء كثر، أو عاملين مُدرّبين في مجال الرعاية الصحيّة، من عمليّات الإجهاض التي تعود عليهم بأرباح سريعة (من 800 إلى2000 دولار أميركي بحسب الروايات التي اطّلعنا عليها)، مستغلّين حدوثها في الخفاء جرّاء تجريمها في القانون، وحاجة المرأة الماسّة لها من أجل إنهاء حمل غير مرغوب، وهشاشة وضعها على الصعيدَين الاجتماعي والقانوني.
التمسّك بالتجريم والتحريم
في جولة سريعة على القوانين العربيّة، يُلاحظ أن الإجهاض القصدي، حتّى يومنا، ما زال مجرّماً فيها، مع وجوب استثناء دولتَين: تونس (التي ينشر “درج” تحقيقاً حولها يوم السبت 29 أيلول/سبتمبر 2018)، تتبعها البحرين التي تتّبع نصّاً مَرِناً تُعاقَب على أساسه المرأة التي تطرح نفسها من دون مشاورة طبيب وبغير معرفته، ولا تجرّم “الشروع في الإجهاض”.
في العقود الأخيرة، بات يُسمح بالإجهاض فقط حين يشكّل استمرار الحمل خطراً على حياة المرأة لا يمكن إبعاده بغير وسيلة. ولكن في عددٍ من الدول العربيّة، كالأردن والكويت والجزائر والمغرب والسعوديّة، حيث الإجهاض القصدي مجرّم في المبدأ، يختلف الأمر قليلاً إذ يُسمح به في حال نجم عن الحمل خطر لا على حياة المرأة وحسب، إنّما على صحّتها أيضاً، مع بعض الفوارق في الشروط بين دولٍ ينطوي مفهوم الصحّة لديها على الصحّة النفسيّة وأخرى لا تعتدّ بها.
عموماً، تمّ إدخال هذه التغييرات في قوانين الصحّة العامّة الحديثة نسبيّاً، والقوانين التنظيميّة والآداب الراعية لمهنة الطبّ، والتي فتحت المجال أمام إجراء عمليّات الإجهاض في حالات استثنائيّة -كوجود خطر على حياة المرأة، أو تشوّه خلقي متقدّم لدى الجنين، وخطر على صحّة الحامل- على أن تتمّ الإجراءات اللازمة في مستشفيات عامّة أو خاصّة مرخّصة، بعد الأخذ بشهادة أكثر من طبيب، والاستحصال على موافقة المرأة، ومَن يُسمّون بأولياء أمرها في بعض السياقات.
النقاش حول الإجهاض
لا يزال النقاش حول الإجهاض خجولاً بعض الشيء، ومُحرّماً في بعض الأحيان، في معظم أنحاء العالم العربي، ويُتداول به في أحسن الأحوال في بعض وسائل الإعلام من وجهة نظر صحيّة أو أخلاقيّة، قلّما تكون حقوقيّة، وفي صفوف بعض المجموعات النسويّة والطبيّة التي لا يمكنها أن تجاهر بتبنّيها للإجهاض كقضيّة حقوقيّة أو بدعمها للنساء في الوصول الآمن إليه، وذلك بسبب تجريم القوانين ليس لفعل الإجهاض القصدي فقط، بل أيضاً لنشر وسائله والترويج له. ففي لبنان تحديداً، تعاقب المادّتان 539 و540 من قام بنشر أو ترويج أو تسهيل استعمال وسائط الإجهاض، أو بيع أو عرض للبيع موادّ مُعدّة لإحداث الإجهاض، بالحبس من شهرين إلى سنتين وبغرامة ماليّة.
إلى ذلك، لم تنطلق المنظّمات النسويّة رسميّاً حتّى الآن بمعركتها من أجل تشريع الإجهاض، والمطالبة بتوفير وسائله الآمنة والمُنظّمة، ودعم النساء علناً في الوصول إليه. وقد يُعزى هذا التفادي إلى الخطر المحيط بوجود هذه المؤسسات أو المجموعات فيما لو تفوّهت بكلمة إجهاض والخدمات ذات الصلة به؛ أو ربّما، لكي لا تضرب عرض الحائط البنود الحقوقيّة الأخرى الممكن إنجازها في الغد القريب، حتّى ولو أتى ذلك على حساب تأجيل معركة الإجهاض. فبعضها يشعر أنّ له ما يكفيه من تحديّات ملحّة ومواجهات مستعرة مع الطوائف والأحزاب والتوجّهات المحافِظة في المجتمع.
ولكن، ترى “ليلى” أن “المعركة قائمة أصلاً مع الجهات الدينيّة والسياسيّة المحافظة، فلمَ الانتظار؟”. كما تعتقد أنّ “التمويل، إذا دقّ أبوابنا تحت عنوان المناصرة من أجل تشريع الإجهاض، متجاوزاً مراعاته الراهنة للحسابات الثقافيّة والحساسيّات الدينيّة، فسوف يُغيّر حكماً المشهد الحقوقي الذي نعيشه، وقد تتهافت الجمعيّات لكسب المشروع”.
أمّا “ندى”، فتؤمن بوجوب فتح باب هذه المعركة على مصراعيه، كونها معركة صعبة ستستغرق وقتاً طويلاً، تماماً كما استغرقت وقتاً وجهوداً مضنية في بلدان مثل إيرلندا التي وافقت حديثاً على تعديل دستوري يزيل التجريم عن الإجهاض، أو الأرجنتين التي تُخاض فيها المعركة اليوم من أجل إقرار قانون في هذا الاتجاه.
وكما في كلّ بقع الأرض تقريباً، كذلك في لبنان ودول العالم العربي، يسلك النقاش حول الإجهاض منحًى عالقاً في ثنائيّة متباينة ترأس قطباً منها مجموعاتُ الضغط من أجل ما تسمّيه بـ”الحقّ في الحياة”، فيما يقود القطبَ الآخر مجموعاتُ الدفاع عن “حقّ الاختيار”، وحقّ المرأة في الحياة أيضاً، بالمعنى الواسع للمصطلح.
مصطلحات مدروسة
وفي الحديث عن المصطلحات، فإنّ لتلك وقعها الوازن على قولبة الخطاب وتشكيل الآراء حيال مسألة الإجهاض. فعبارات مثل “الحقّ في الإجهاض” أو “دعم الإجهاض”، للمفارقة، تُكثر من استخدامها المجموعات المحاربة للإجهاض لتُظهِر التنظيمات المدافعة عنه بصورة الطّرف المشجِّع على فعل “الإجهاض” بوصفه “قتلاً” ومشهداً دراميّاً تملؤه جثث الأجنّة المدمّاة.
أمّا الجهة الأخرى، فغالباً ما تنتقي عبارة “الحقّ في الاختيار” لتعيد تصويب النقاش إلى النقطة المركزيّة، وهي أنّ الإجهاض خيار وحقّ للمرأة غير الراغبة بحملها وبأمومتها، وليس لتلطيف العبارة كما يتّهمها مناوئوها. وبالنسبة إلى تلك الجهة، فإنّ الإجهاض يأتي كحلّ أخير، وقد يندر اللجوء إليه مع الوقت، إذ المطلوب أن يسبقه ويقلّص من نسبة حدوثه حسنُ استخدام وسائل منع الحمل والوقاية، ومناهج التربية على المسائل الجنسيّة والإنجابيّة التي يعمل النشطاء ليلاً ونهاراً على التوعية بشأنها وتوفيرها للجميع.
نُفخت فيه الروح… لم تُنفخ فيه الروح
لدى الحديث عن الإجهاض وتجريمه، أو الاشتراطات القانونيّة والطبيّة الصارمة قبل إجرائه، يبتيّن إلى أي مدى تمتلك الأديان التوحيديّة -بخاصّة المسيحيّة والإسلام حيث اتّضح أنّ اليهوديّة أكثر مرونةً في هذا الصدد- حصّة الأسد من خلفيّة الحجج التي يُستند إليها في معرض إرساء المبدأ العام القائل بتجريمه.
فمثلاً، تذهب المسيحيّة حدّ اعتبار المضغة– embryo نَفْساً إنسانيّة لا يجوز التخلّص منها، بينما ترى معظم التيّارات الفقهيّة في المذاهب الإسلاميّة الأربعة أنّ الروح تُنفخ بعد مئة وعشرين يوماً، والإجهاض مبدئيّاً حرام. يُضاف إلى الأطياف الدينيّة التيّارات المحافِظة التي تحارب الإجهاض من باب الحفاظ على حقّ الجنين في الحياة، مصوّرة هذا الحقّ كقيمة تتضمّنها منظومة حقوق الطفل، على اعتبار أنّ الجنين كائن هشّ لا يستطيع الدفاع عن نفسه.
ولكن، تُلمس خلف تلك الحجج أجندة ذكوريّة دفينة، متوارية وراء شعار الدفاع عن قيمة الحياة والمقدّس، في حين أنّها تنتمي في الواقع إلى الممارسات الممنهجة الرامية إلى الحدّ من استقلاليّة النساء، والتقليل من قدرتهنّ على التقرير بشأن مصيرهنّ ورغبتهنّ في الأمومة من عدمها، وتقييد حقّهنّ في امتلاك أجسادهنّ، بكلّ ما لكلمة امتلاك من معانٍ ونتائج.
تغيير قانوني في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانيّة ولا تغيير بعدها
يوم الجمعة 16 أيلول 1983، تمّ إقرار تعديل قانوني هامّ جدّاً في لبنان، أتى منسجماً مع المادّة 16-البند ه- من اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، سيداو، بعد عامين من دخولها حيّز التنفيذ، والتي لم تكن الدولة اللبنانيّة حينئذٍ مصادقةً عليها.
حين صادقت الدولة على “سيداو” عام 1997، لم تتحفّظ على المادّة 16-البند ه- الذي ينصّ على حقّ المرأة في تحديد عدد أطفالها، والفاصل الزمني بين الطفل والذي يليه، والحصول على خدمات الرعاية الصحيّة ذات الصلة، وهي مبادىء تحيل ضمناً إلى وجوب تشريع الإجهاض إذا ما أُريد احترام حقّ المرأة، المتزوّجة أو العازبة، في تقرير عدد أطفالها والفارق الزمني بينهم.
إذاً، وفي خضمّ أحداث الحرب الأهليّة اللبنانيّة، تمّ بفعل المرسوم الاشتراعي رقم 112/1983 إلغاء المادّتين 537 و538 اللّتين كانتا تعاقبان على إذاعة الأساليب والمواد المانعة للحمل، أو بيعها أو عرضها للبيع. آنذاك، لم تتوقّف النساء الراغبات بالإنجاب عن الحمل؛ ولكن استمرّت نساء أخريات غير راغبات بحملهنّ إمّا بالإنجاب أو بالإجهاض غير الآمن. منهنّ من نجَون، ومنهنّ من يئسن، ومنهنّ من متن.
يبدو أن عهد الحرب أثمرَ أكثر من عهود ما بعد الحرب على صعيد إحراز تقدّم، ولو بسيط، في مجال تعزيز الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة. فهل قُدّر للنساء انتظار اشتعال حرب أهليّة أخرى للمضي قدماً نحو إنجاز المطلب الآخر، وهو الكفّ عن تجريمهنّ لمجرّد امتلاكهنّ القرار على أجسادهنّ، وتأمين خدمات الإجهاض الآمن لهنّ؟
*الأسماء الواردة في هذا التحقيق أسماء مستعارة حفاظاً على خصوصيّة النساء.
كُتب النصّ بمناسبة يوم الإجهاض الآمن المحدّد بـ28 أيلول، تبعه فيديو رأي للكاتبة وموضوع حول الوضع في تونس
إقرأ أيضاً:
تحت بئر السلم: الاجهاض غير آمن في مصر
تقاطع الحملات المحليّة والعالميّة ضد العنف الجنسي