fbpx

“بابا نويل”… من اخترع هذا الإله وإلى متى نعبده؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل اختراع “بابا نويل”، وسائر الرموز الميلادية غير المتعلقة بالمسيح، يحدد ميلاد المسيح بالماديات لاغياً الجانب الروحي والمعنى الديني للعيد؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

رفضت بعض المراجع الروحية الفرنسية تحويل عيد الميلاد إلى عادة وثنية قائمة على “بابا نويل”. وقامت احتجاجات نظمتها جهات كنسية رفضاً لهذه الفعاليات، نقلها مراسل صحيفة France-Soir  بهذه الكلمات: “تحت أنظار اطفال الرعايات، أُحرق بابا نويل في ساحة كاتدرائية ديجون”. بعد ظهر يوم الأحد في الرابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1951، علقت دمية الميلاد وأحرقت أمام 270 من أطفال الرعايات وسط دفاع الإعلام عن حق الأطفال المتمثل بدمية واعتبار رجال الدين العادات الاجتماعية الميلادية، هرطقة، بخاصة بعد اجتياحها المدارس العامة. بيد أن فرنسا كانت ولم تزل دولة علمانية. عبّر هذا الحدث عن تصادم الكنيسة والمجتمع بإشكالية الرجل الملتحي: هل اختراع “بابا نويل”، وسائر الرموز الميلادية غير المتعلقة بالمسيح، يحدد ميلاد المسيح بالماديات لاغياً الجانب الروحي والمعنى الديني للعيد؟ 

المفارقة أن تاريخ ميلاد المسيح وفق بعض المراجع مجهول، كما أن المسيحيين الأوائل لم يحتفلوا به. والمفارقة الأكبر أن هذا التاريخ، يوم الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، حددته الكنيسة الرومانية بعدما اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية فاستغل عيد إله الشمس لدى الرومانيين، وأعياد آلهة أخرى تتزامن معه، ليروج لميلاد المسيح. رمى قسطنطين إلى تحويل رمزية الوثنية الرومانية، التي يحتفل بأعيادها من السابع عشر حتى الرابع والعشرين من كانون الأول، إلى قيمة إنسانية مسيحية ليعبر المسيح عن شمس الحقيقة التي ستزيل عن الحضارة الإنسانية ضبابية الإيمان بالوثنيات. ترجع احتفالات الرومانيين بعيد Saturnalia أو إله الشمس لهذا اليوم كمحاولة المجتمع الروماني آنذاك تفسير قصر النهار وطول الليل بغضب الهي يرضيه المجتمع خلال هذه الاحتفالات، التي يتخللها تقديم الأطفال أضاحي، بغية استرجاع فصل الربيع. لكن “الحقيقة” التي حددتها الإمبراطورية في الغرب اتخذت منحى آخر في الشرق الذي احتفل بمولد المسيح في السادس من كانون الثاني/ يناير، قبل أن يصبح هذا التاريخ عيد الغطاس أي ذكرى معمودية المسيح في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان.

شخصية “سانتا كلوز” التي اخترعها الفنان الأميركي هادن سنبلوم عام 1931، دعاية لشركة المشروب الغازي “كوكا كولا” تحت شعار “العطش لا يعرف موسماً”.

التوافق على التاريخ فشل بسن اتفاق على المغزى فمادية اليوم مرادف لوثنية الأمس. لذا، تفلت العيد من معناه الوثني ليدخل سيرورة العرض والطلب، ما يحثنا، كمسيحيين وغير مسيحيين ومؤمنين وغير مؤمنين، إلى “الاحتفال” بالعيد. طريقة الاحتفال محددة اجتماعياً إذ تطورت فكرة تقديم الأطفال أضاحي، لتصير تقديم تضحيات للأطفال. هذا الاحتفال يتمثل باتباع تقاليد معينة تكسب عناصر الميلاد جميعها رمزية خاصة. كما تضيف الى جيوب القطاع الخاص العالمي بعض النقود. لذلك، انتشرت مظاهر الميلاد المادية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما بعد تحسن المستوى المعيشي في الدول الأوروبية، لأن المجتمعات الأوروبية فهمت معادلة مادية عيد الميلاد واستطاعت استغلالها لتحريك عجلة الاقتصاد. أمست الأعياد فترة عروضات واستهلاك، تسمّى احتفالاً. 

مثلاً، في أواخر السنة الماضية، بينما انتشر “كورونا” فاتكاً بالمجتمعات الأوروبية، انتظم موزعو البضائع في محاولة لتشكيل ضغط على الحكومات لإيقاف الإغلاق العام. السبب يتخطى مجرد زيادة الأرباح ليشكل اعتماد موزعي البضائع على فترة الأعياد التي “تولد من عشرين إلى خمسين بالمئة من المبيعات السنوية لموزعي البضائع الذين يقتصر عملهم على توزيع البضائع التي لا تشمل المواد الغذائية”، بحسب مركز توزيع البضائع في الاتحاد الأوروبي. كما تحث الأعياد الشركات على الاستثمار في قطاعات جديدة أو في تجديد سلع وخدمات عبر إعادة إنتاجها بحلة العيد. كما أن الأعياد تنتج آلاف الأسواق المخصصة بهذه الفترة في أوروبا، منها ثلاثة آلاف سنوياً في ألمانيا وحدها.

هذه الإحصاءات تعبر عما هو أعمق من مجرد فترة أعياد تقدم خلالها الهدايا. هذه الإحصاءات تعبر عن ثقافة استهلاكية يروج لها لتغذية رساميل كبرى في الأسواق ذاتها التي ثار عليها المسيح. هكذا، يكتسب الميلاد معنى آخر فيرجع الى الوثنية التي ولد منها بينما يقاد، في اليوم الذي يفترض أن يكون يومه، الآلاف حول العالم الى المتاجر بحجة رسم بسمة على وجوه الصغار أو حرية الإنفاق أو حق الاحتفال المجرد بالعيد. اعتباطية البراهين تتغاضى عن دور الإعلام بتشكيل الرأي العام ودفع الناس لتبني عادات استهلاكية احتفالية بالميلاد فتستنتج ان التبضع الهستيري، أو على الأقل تطبيعه، اختيار شخصي بريء مستقل عن ضغوط الثقافة ومكوناتها. أو تربطها بالحرية المقيدة بالقدرة الشرائية فيمسي الاحتفال بالعيد حكرا على من يملكون ثمن السعادة المعلبة تحت شجرة مزينة. 

الهدايا عنصر واحد من العناصر الكثيرة التي تشكل مادية العيد. أحد العناصر الأخرى هو شخصية “سانتا كلوز” التي اخترعها الفنان الأميركي هادن سنبلوم عام 1931، دعاية لشركة المشروب الغازي “كوكا كولا” تحت شعار “العطش لا يعرف موسماً”. لم تكن الشركة مدركة أنها، بإعلان يروج عالمياً، تخترع إلهاً سيعيش مئة عام أو أكثر. يوزع الألعاب على الطيبين من الأطفال ويسامح الذين يتشاكسون طوال العام لكنه غالباً ما ينسى الفقراء واليتامى. لعل سانتا كلوز بلحيته الناصعة وبياضه الأوروبي وثيابه القرمزية وعربته الخشبية وجزمته السميكة، أكثر عناصر العيد حقيقة بدلالتها على فصل الشتاء، علماً أن راسمه الأميركي استمد شكله من شعر نشر عام 1822 بعنوان “زيارة من القديس نيكولاي” الذي كان أسقفاً يونانيا يوزع الهدايا على الأطفال في القرن الرابع.

بيد أنه كائن مختلق إلا أنه ليس خرافة إذ تنقصه قصة تجعله كذلك. وليس أسطورة إذ تنقصه قدرات خارقة. عسى أن يكون أقرب ما يمكن للآلهة القديمة. يفرض طقوسه ويحجز عيده على الروزنامة و يراقب الأطفال لمعاقبتهم بامتناعه عن إعطائهم هدية أو يثني عليهم بتذكر اسمهم والهدية التي طلبوها برسالة بعثت إلى القطب. يصبح “بابا نويل” وجهاً آخر لله: يتلقى أمنيات الأطفال. يقسمهم إلى جيد وسيئ ليكافئهم أو يعاقبهم. ينتظرونه وهم على يقين بأنه آت. يؤمنون بقدسيته ورمزيته لعالم أفضل من عالمنا الأرضي. يجتهدون ليحصلوا على ثنائه ويتصرفون كأنه يراقبهم باستمرار. يحاولون أن يكونوا “جيدين بما يكفي” ليحصلوا على هدية وينالوا نظرة الفخر من ذويهم. 

والاستحقاق يُكتسب من الجانبين. يثبت “بابا نويل” استحقاقه شرعيته ولقبه كل عام كإله، لولا كفر الراشدين به، ريثما يسيطر على تصرفات من هم تحت العاشرة من العمر عدا أولئك الذين يعيشون طفولتهم متيقنين من استحالة حصولهم على هدية برغم سعيهم الدائم. هكذا، تكون ظاهرة “بابا نويل” مدخلاً لفهم ديناميات القوة المتمثلة بقيادة الأغلبية الى الإيمان المحض بغية إقناعهم تدريجاً بتبني، أو الامتناع عن تبني، سلوكيات محددة من أجل إرضاء الإله. وهي ليست الظاهرة الأولى من نوعها في تاريخ البشرية بل تمكن ملاحظتها بأشكال عدة. مثلاً، ظاهرة الكاتشينا التي كانت منتشرة لدى قبائل جنوب غربي الولايات المتحدة حيث يتقمص بعض أعضاء القبيلة شخصيات الالهة أو الأسلاف بلبس أزياء ترمز إليهم. مورست الكاتشينا بهدف معاقبة الأعضاء الآخرين في القبيلة أو الثناء عليهم. 

تنجح هذه الظاهرة بتقديم مادة تسمح لنا بفهم ظاهرة “بابا نويل”، لكنها تفشل بعقلنته لأنها اتبعت لمساعدة شيوخ القبيلة على حفظ النظام فيها. بينما تستبدل اليوم بظاهرة “بابا نويل” الذي يساعد الأهل على فرض مفاهيمهم وتعريفاتهم الشخصية لما هو “صحيح” وما هو “خاطئ”، عبر مبدأ الثواب والعقاب بلا أن نفهم تفسيره أو نرجعه الى ماهيته. 

تنشغل وسائل الإعلام خلال مواسم الأعياد بالتشجيع على الاستهلاك. مطلوب من المستهلك أن يدفع للسلعة ويشتري الخدمة وينبهر بالعروض، لا أن يفهم سبب سلوكه. ويدخل “بابا نويل” أيضاً الى الدائرة ذاتها فيصبح الاستهلاك، بجميع مكوناته، إلهاً جديداً. والمقبولون في جنته هم من يستطيعون إليه سبيلاً. ربما آن لنا أن نحرق سلطة الأب ثانية ونسأل أنفسنا: لماذا نطيع؟ لماذا نبقي على سلوكنا الحسن؟ 

إقرأوا أيضاً:

"درج" | 06.12.2024

سوريا: سباق بين الغبطة واحتمالات الخيبة

جميعنا مأخوذون بالمشهد، نظام بشار الأسد يتداعى تحت أنظارنا، سؤال ما بعد السقوط، أو ما بعد انعقاد الخريطة على واقع مختلف، شرط سياسي لا بد منه، لكنه لا يستوي في بعده العاطفي مع السؤال السياسي. الكلام عن تأجيل السياسة إلى ما بعد انكشاف سير المعركة، يشبه طلب تأجيل نقد حماس إلى ما بعد نهاية الحرب…
28.12.2021
زمن القراءة: 5 minutes

هل اختراع “بابا نويل”، وسائر الرموز الميلادية غير المتعلقة بالمسيح، يحدد ميلاد المسيح بالماديات لاغياً الجانب الروحي والمعنى الديني للعيد؟

رفضت بعض المراجع الروحية الفرنسية تحويل عيد الميلاد إلى عادة وثنية قائمة على “بابا نويل”. وقامت احتجاجات نظمتها جهات كنسية رفضاً لهذه الفعاليات، نقلها مراسل صحيفة France-Soir  بهذه الكلمات: “تحت أنظار اطفال الرعايات، أُحرق بابا نويل في ساحة كاتدرائية ديجون”. بعد ظهر يوم الأحد في الرابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1951، علقت دمية الميلاد وأحرقت أمام 270 من أطفال الرعايات وسط دفاع الإعلام عن حق الأطفال المتمثل بدمية واعتبار رجال الدين العادات الاجتماعية الميلادية، هرطقة، بخاصة بعد اجتياحها المدارس العامة. بيد أن فرنسا كانت ولم تزل دولة علمانية. عبّر هذا الحدث عن تصادم الكنيسة والمجتمع بإشكالية الرجل الملتحي: هل اختراع “بابا نويل”، وسائر الرموز الميلادية غير المتعلقة بالمسيح، يحدد ميلاد المسيح بالماديات لاغياً الجانب الروحي والمعنى الديني للعيد؟ 

المفارقة أن تاريخ ميلاد المسيح وفق بعض المراجع مجهول، كما أن المسيحيين الأوائل لم يحتفلوا به. والمفارقة الأكبر أن هذا التاريخ، يوم الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، حددته الكنيسة الرومانية بعدما اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية فاستغل عيد إله الشمس لدى الرومانيين، وأعياد آلهة أخرى تتزامن معه، ليروج لميلاد المسيح. رمى قسطنطين إلى تحويل رمزية الوثنية الرومانية، التي يحتفل بأعيادها من السابع عشر حتى الرابع والعشرين من كانون الأول، إلى قيمة إنسانية مسيحية ليعبر المسيح عن شمس الحقيقة التي ستزيل عن الحضارة الإنسانية ضبابية الإيمان بالوثنيات. ترجع احتفالات الرومانيين بعيد Saturnalia أو إله الشمس لهذا اليوم كمحاولة المجتمع الروماني آنذاك تفسير قصر النهار وطول الليل بغضب الهي يرضيه المجتمع خلال هذه الاحتفالات، التي يتخللها تقديم الأطفال أضاحي، بغية استرجاع فصل الربيع. لكن “الحقيقة” التي حددتها الإمبراطورية في الغرب اتخذت منحى آخر في الشرق الذي احتفل بمولد المسيح في السادس من كانون الثاني/ يناير، قبل أن يصبح هذا التاريخ عيد الغطاس أي ذكرى معمودية المسيح في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان.

شخصية “سانتا كلوز” التي اخترعها الفنان الأميركي هادن سنبلوم عام 1931، دعاية لشركة المشروب الغازي “كوكا كولا” تحت شعار “العطش لا يعرف موسماً”.

التوافق على التاريخ فشل بسن اتفاق على المغزى فمادية اليوم مرادف لوثنية الأمس. لذا، تفلت العيد من معناه الوثني ليدخل سيرورة العرض والطلب، ما يحثنا، كمسيحيين وغير مسيحيين ومؤمنين وغير مؤمنين، إلى “الاحتفال” بالعيد. طريقة الاحتفال محددة اجتماعياً إذ تطورت فكرة تقديم الأطفال أضاحي، لتصير تقديم تضحيات للأطفال. هذا الاحتفال يتمثل باتباع تقاليد معينة تكسب عناصر الميلاد جميعها رمزية خاصة. كما تضيف الى جيوب القطاع الخاص العالمي بعض النقود. لذلك، انتشرت مظاهر الميلاد المادية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما بعد تحسن المستوى المعيشي في الدول الأوروبية، لأن المجتمعات الأوروبية فهمت معادلة مادية عيد الميلاد واستطاعت استغلالها لتحريك عجلة الاقتصاد. أمست الأعياد فترة عروضات واستهلاك، تسمّى احتفالاً. 

مثلاً، في أواخر السنة الماضية، بينما انتشر “كورونا” فاتكاً بالمجتمعات الأوروبية، انتظم موزعو البضائع في محاولة لتشكيل ضغط على الحكومات لإيقاف الإغلاق العام. السبب يتخطى مجرد زيادة الأرباح ليشكل اعتماد موزعي البضائع على فترة الأعياد التي “تولد من عشرين إلى خمسين بالمئة من المبيعات السنوية لموزعي البضائع الذين يقتصر عملهم على توزيع البضائع التي لا تشمل المواد الغذائية”، بحسب مركز توزيع البضائع في الاتحاد الأوروبي. كما تحث الأعياد الشركات على الاستثمار في قطاعات جديدة أو في تجديد سلع وخدمات عبر إعادة إنتاجها بحلة العيد. كما أن الأعياد تنتج آلاف الأسواق المخصصة بهذه الفترة في أوروبا، منها ثلاثة آلاف سنوياً في ألمانيا وحدها.

هذه الإحصاءات تعبر عما هو أعمق من مجرد فترة أعياد تقدم خلالها الهدايا. هذه الإحصاءات تعبر عن ثقافة استهلاكية يروج لها لتغذية رساميل كبرى في الأسواق ذاتها التي ثار عليها المسيح. هكذا، يكتسب الميلاد معنى آخر فيرجع الى الوثنية التي ولد منها بينما يقاد، في اليوم الذي يفترض أن يكون يومه، الآلاف حول العالم الى المتاجر بحجة رسم بسمة على وجوه الصغار أو حرية الإنفاق أو حق الاحتفال المجرد بالعيد. اعتباطية البراهين تتغاضى عن دور الإعلام بتشكيل الرأي العام ودفع الناس لتبني عادات استهلاكية احتفالية بالميلاد فتستنتج ان التبضع الهستيري، أو على الأقل تطبيعه، اختيار شخصي بريء مستقل عن ضغوط الثقافة ومكوناتها. أو تربطها بالحرية المقيدة بالقدرة الشرائية فيمسي الاحتفال بالعيد حكرا على من يملكون ثمن السعادة المعلبة تحت شجرة مزينة. 

الهدايا عنصر واحد من العناصر الكثيرة التي تشكل مادية العيد. أحد العناصر الأخرى هو شخصية “سانتا كلوز” التي اخترعها الفنان الأميركي هادن سنبلوم عام 1931، دعاية لشركة المشروب الغازي “كوكا كولا” تحت شعار “العطش لا يعرف موسماً”. لم تكن الشركة مدركة أنها، بإعلان يروج عالمياً، تخترع إلهاً سيعيش مئة عام أو أكثر. يوزع الألعاب على الطيبين من الأطفال ويسامح الذين يتشاكسون طوال العام لكنه غالباً ما ينسى الفقراء واليتامى. لعل سانتا كلوز بلحيته الناصعة وبياضه الأوروبي وثيابه القرمزية وعربته الخشبية وجزمته السميكة، أكثر عناصر العيد حقيقة بدلالتها على فصل الشتاء، علماً أن راسمه الأميركي استمد شكله من شعر نشر عام 1822 بعنوان “زيارة من القديس نيكولاي” الذي كان أسقفاً يونانيا يوزع الهدايا على الأطفال في القرن الرابع.

بيد أنه كائن مختلق إلا أنه ليس خرافة إذ تنقصه قصة تجعله كذلك. وليس أسطورة إذ تنقصه قدرات خارقة. عسى أن يكون أقرب ما يمكن للآلهة القديمة. يفرض طقوسه ويحجز عيده على الروزنامة و يراقب الأطفال لمعاقبتهم بامتناعه عن إعطائهم هدية أو يثني عليهم بتذكر اسمهم والهدية التي طلبوها برسالة بعثت إلى القطب. يصبح “بابا نويل” وجهاً آخر لله: يتلقى أمنيات الأطفال. يقسمهم إلى جيد وسيئ ليكافئهم أو يعاقبهم. ينتظرونه وهم على يقين بأنه آت. يؤمنون بقدسيته ورمزيته لعالم أفضل من عالمنا الأرضي. يجتهدون ليحصلوا على ثنائه ويتصرفون كأنه يراقبهم باستمرار. يحاولون أن يكونوا “جيدين بما يكفي” ليحصلوا على هدية وينالوا نظرة الفخر من ذويهم. 

والاستحقاق يُكتسب من الجانبين. يثبت “بابا نويل” استحقاقه شرعيته ولقبه كل عام كإله، لولا كفر الراشدين به، ريثما يسيطر على تصرفات من هم تحت العاشرة من العمر عدا أولئك الذين يعيشون طفولتهم متيقنين من استحالة حصولهم على هدية برغم سعيهم الدائم. هكذا، تكون ظاهرة “بابا نويل” مدخلاً لفهم ديناميات القوة المتمثلة بقيادة الأغلبية الى الإيمان المحض بغية إقناعهم تدريجاً بتبني، أو الامتناع عن تبني، سلوكيات محددة من أجل إرضاء الإله. وهي ليست الظاهرة الأولى من نوعها في تاريخ البشرية بل تمكن ملاحظتها بأشكال عدة. مثلاً، ظاهرة الكاتشينا التي كانت منتشرة لدى قبائل جنوب غربي الولايات المتحدة حيث يتقمص بعض أعضاء القبيلة شخصيات الالهة أو الأسلاف بلبس أزياء ترمز إليهم. مورست الكاتشينا بهدف معاقبة الأعضاء الآخرين في القبيلة أو الثناء عليهم. 

تنجح هذه الظاهرة بتقديم مادة تسمح لنا بفهم ظاهرة “بابا نويل”، لكنها تفشل بعقلنته لأنها اتبعت لمساعدة شيوخ القبيلة على حفظ النظام فيها. بينما تستبدل اليوم بظاهرة “بابا نويل” الذي يساعد الأهل على فرض مفاهيمهم وتعريفاتهم الشخصية لما هو “صحيح” وما هو “خاطئ”، عبر مبدأ الثواب والعقاب بلا أن نفهم تفسيره أو نرجعه الى ماهيته. 

تنشغل وسائل الإعلام خلال مواسم الأعياد بالتشجيع على الاستهلاك. مطلوب من المستهلك أن يدفع للسلعة ويشتري الخدمة وينبهر بالعروض، لا أن يفهم سبب سلوكه. ويدخل “بابا نويل” أيضاً الى الدائرة ذاتها فيصبح الاستهلاك، بجميع مكوناته، إلهاً جديداً. والمقبولون في جنته هم من يستطيعون إليه سبيلاً. ربما آن لنا أن نحرق سلطة الأب ثانية ونسأل أنفسنا: لماذا نطيع؟ لماذا نبقي على سلوكنا الحسن؟ 

إقرأوا أيضاً: