كان يوم الجمعة الماضي حالكًا على بسنت، الطالبة في المرحلة ما قبل الجامعية في محافظة الغربية المصرية. على الرغم من أجواء الاحتفال بالعام الجديد، كانت بسنت ترى الشوارع المليئة بالزينة والأضواء للمرة الأخيرة، وهي محمولة داخل “توكتوك”، ثم داخل سيارة أجرة إلى مشفى في كفر الزيات، تتقيأ على ملابسها وملابس أختها ووالدهما، بعدما ابتلعت حبّة سامة لتنهي حياتها بعد ابتزازها إلكترونيًا بصور مفبركة لفتاة عارية.
كانت محاولات إنقاذ بسنت ميؤس منها، بسبب خطورة الدواء الذي تناولته. بقيت ليلة في المشفى ثم جرى نقلها للعناية المركزة في مشفى آخر ،حتى فارقت الحياة.
تقول شقيقتها :”بسنت قالت في لحظاتها الأخيرة إنها ترغب في النجاة”. لكن نجاتها كانت مستحيلة.
تعرضت الفتاة صاحبة السبعة عشر عامًا إلى حملة قاسية قبل مماتها، شاركت فيها الأطراف كلها، وإن كانت الأصابع كلها تشير إلى متهمين أساسيين، شابين في مثل عمرها قاما بفبركة صور لها ونشرها على الانترنت بغرض مساومتها على علاقة جنسية، إلا أن دائرة الاتهام تشمل الجميع، من عائلتها إلى أهل قريتها وأستاذها، حتى لو لم تستجوبهم النيابة للتحقيق بشكل مباشر.
ما يخرج على لسان شقيقة بسنت يشير إلى أن شقيقتها تعرضت لتعنيف بالغ داخل أسرتها في اليوم نفسه الذي أقدمت فيه على الانتحار، على الرغم من نفي الأم والأب علمهم بموضوع الابتزاز الإلكتروني تارة، وطوراً قولهم إنهم علموا به وانهم قاموا باحتضانها وتصديقها، لكن عبارات تفلت من الشقيقة تشير إلى عكس ذلك: “بابا اتهور عليها طبيعي زي أي أب يشوف صور كده عن بنته”، ما يشير إلى تعرضها إلى تعنيف وخذلان.
الشقيقة قالت إن بسنت لم تخبر والدتها عن الصور المنشورة، فيما قالت الأم أنها كانت على علم بها وصدقت ابنتها، لكن الخطاب الذي تركته بسنت لوالدتها يشير إلى صدمتها من أسرتها التي ترفض تصديق براءتها: “ماما يا ريت تفهميني أنا مش البنت دي، أحلفلك أن دي متركبة، والله العظيم مش أنا، أنا يا ماما بنت صغيرة مستاهلش اللي بيحصلي دا، أنا جالي اكتئاب بجد، أنا يا ماما مش قادرة أنا بتخنق، تعبت بجد، مش أنا حرام عليكم”.
تشير الشهادات المتداولة من الأم والأب والشقيقة رغم تضاربها إلى أن عملية إحكام الطوق جرت بقسوة حول عنق بسنت، والغريب أنه رغم تداول الصور على صفحات القرية على فيسبوك قبل انتحارها بأكثر من أسبوع، إلا أن السلطات الرسمية، خصوصاً مباحث الانترنت، لم تتخذ أي إجراء قانوني إلا بعد انتحار بسنت وتحوّل قصتها إلى قضية رأي عام.
يقول محامي العائلة وخطيب شقيقة بسنت إنهم اتخذوا الإجراءات القانونية مع النيابة بعد انتحار بسنت لضبط وإحضار الشابين اللذين قاما بابتزازها، ويشير المحامي أن بسنت أخبرتهم بأسماء الشابين اللذين حاولا ابتزازها بالصور لإقامة علاقة جنسية معها، لكن الغريب أن اللوم كله وقع على الفتاة -أثناء حياتها- من دون ان يتحرك القانون ضد من حاولوا ابتزازها.
كل ما تعرضت له بسنت دفعها للقفز من مركب مثقوب بالكامل، فأدارت ظهرها لمجتمع ممزق، عائلة غير داعمة وغير واعية للشروط القانونية لحماية ابنتهم، وأهالي قرية يتداولون صورها على هواتفهم للضحك والسخرية، وأستاذ داخل الفصل يضرب بها المثل أمام زملائها وزميلاتها “ما أنت بقيتي مشهورة” –في إشارة إلى صورها المتداولة- و محامي عائلة لم يتحرك قانونيًا إلا بعد ان يئست الفتاة وأقدمت على الإنتحار.
ما تعرضت له بسنت تتعرض له آلاف الفتيات في مصر يوميًا، فالمتابعة السريعة لصفحة “قاوم” المناهضة لابتزاز الفتيات إلكترونيًا تطلعنا على شهادات ووقائع مفزعة، منها أن أعمار المبتزين الذكور للفتيات تبدأ من سن عشر سنوات، وأعداد استغاثات الفتيات التي تصل إلى لصفحة يومياً تتراوح ما بين 700 إلى 1000 حالة، و الصفحة استقبلت استغاثات من فتيات خلال عام واحد قاربت نصف مليون حالة، جرائم اجتماعية تتخفّى وراء الشاشات تشير إلى كارثة تتعلق بنظرة المجتمع للفتيات وانتهاك مساحة أمانهن من دون ظهير قانوني رادع.
بسنت تعرضت لعملية نبذ اجتماعي ممنهج، نبذ كان أكبر من فهمها واحتمالها، يضحي بالابنة مقابل صورة العائلة وشرفها.
يعاقب القانون المصري على الابتزاز الإلكتروني، لكن حتى العقوبة الواردة في القانون غير رادعة في مقابل ما تتعرض له الفتيات من انتهاك يصل إلى حد القتل بمزاعم الشرف أو الانتحار. فوفقًا لنص المادة 18 من قانون العقوبات المصري فإن التهديد بفضح شخص عن طريق تنفيذ جريمة الاعتداء على أي من المواقع، أو اختراق البريد الإلكتروني يترتب عليه عقوبات بالسجن لمدة لا تنقص عن شهر واحد، أو يعاقب فاعله بدفع غرامة مالية لا تنقص عن 50000 جنيه مصري، ولا تزيد هذه الغرامة عن 100000 جنيه مصري.كما أن المادة 309 مكرر من قانون العقوبات تعاقب المبتز بالحبس مدة لا تقل عن عام في حالة التقاطه لصورة أو نشرها من دون موافقة صاحبها.
يعي الشخص المبتز طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه جيدًا وحجم العقوبة المجتمعية التي تحاصر الفتيات جراء الانتقام المجتمعي، فأي محاولة لإلصاق تهم”أخلاقية” بالفتيات يدفع العقل الجمعي عادة إلى تصديقها، وسحب التقبل والتأييد الاجتماعي من الفتاة لتجد نفسها داخل شباك لا فكاك منها، ومغتربة عن أقرب المقربين منها وبالأخص أهلها.
إحساس الرفض العام يطلق عليه عالم الاجتماع إرفينغ غوفمان مصطلح “الوصمة” وهو شعور يجعل الشخص مغترباً عن المجتمع الذي يعيش فيه ومرفوضاً منه، ما يجعله يشعر بنقص التوازن النفسي والاجتماعي وبالتالي يدفعه دفعًا نحو الانتحار.
يحار البعض كيف نشير إلى الأهل كمجرمين وواصمين لبناتهم في قضايا الابتزاز الإلكتروني أو الجرائم التي تتم بمزاعم الشرف، الكاتبة البريطانية من أصول هندية جاسفنغر سانغيرا jasvinder sanghera لا تحتار مطلقًا من جرائم النبذ التي يتورط فيها الأهل في كتابها “shame”. تذكر ، وهي التي ترعرت وعاشت في بريطانيا منذ صغرها كيف حاصرتها أسرتها داخل بريطانيا بالنبذ لأنها رفضت الزواج المبكر، وتحكي عن تجربتها الشخصية كيف أن والدتها ركلتها بقسوة خارج المنزل في يوم ماطر واتهمتها بسوء السلوك لأنها تتمرد على أصول ثقافتهم الهندية برفض الزواج في سن الخامسة عشرة. سانغيرا ظلت منبوذة لعشرات السنوات من عائلتها وانتحرت شقيقتها بسبب الوصم من أسرتها الهندية الصغيرة داخل المجتمع البريطاني الكبير.
بسنت تعرضت لعملية نبذ اجتماعي ممنهج كالذي تعرضت له شقيقة سانغيرا، نبذ كان أكبر من فهمها واحتمالها، يضحي بالابنة مقابل صورة العائلة وشرفها. وربما قررت بسنت بانتحارها ورسالتها الأخيرة أن تزلزل عائلتها الصغيرة والمجتمع المصري ليشعروا بحجم الأذى الذي يلحق بالفتيات جراء غياب الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني.
إقرأوا أيضاً: