في الحلقات الثلاث السابقة ناقشنا الروايات التي تؤسس لممارسات لعن بعض الصحابة عند الشيعة الإثناعشرية، لكننا رأينا أيضاً أن رؤية التاريخ المبكر للمسلمين من خلال حكمٍ عقيديٍ مسبق لا تقتصرُ على طرفٍ دون غيره. لا شيء شيعي حصراً هنا. الإسلام السياسي السني المعاصر، وفي اتفاقٍ مع السلفية المعاصرة (أو “الوهابية” للدقة) ينطلق من المنطق وإن ذهب في الاتجاه المعاكس، معتمداً روايات كالتي ذكرنا في الحلقة الأول من هذه السلسلة ترفض أي اختلاف بين الصحابة، وبناء عليه ترى فيهم مجتمعا نموذجياً فوق-النقد واجب الاتباع. لا يبدو ذلك بعيداً عن اعتقادٍ في معصومين أربعة عشر تشكك مخالفتهم في العقيدة. الاعتقاد في المجتمع الذي يكاد يكون معصوماً في مجمله هذا، بالمخالفة لحقائق تاريخية واضحة، هو، مثلاً لا حصراً، ما أسس عليه سيد قطب مشروعه الذي ألهم من أتى بعده، وهو ما بنى عليه أمثال داعش مشروعهم، لذلك الانتفاض الغاضب عند أي إظهار لـ”بشرية” أصحاب الرسول وخلافاتهم علماً أن العقيدة السنية لا ترى معصوماً بعد صاحب الرسالة. كيف إذاً يتطابق المنطقان السني والشيعي وإن تضادت نتائجهما؟ وإن غُصنا في خلافات المسلمين الأوائل كيف سنرى مشاريع الإسلام السياسي، السني أو حتى الشيعي؟
التاريخ الذي كتبته العقيدة
ما شهدته إيران الصفوية من طقوس لعنٍ مستمرةٍ حتى اليوم لم تكن لتظهر إلا بناء على كتابات السابقين على الدولة الاثناعشرية الخالصة الأولى في التاريخ، لكن قبل أن يستغرب أحدنا توظيف هذه الممارسة سياسياً أو يلومها على تطرفٍ شيعي لا بدّ من توسيع نظرتنا لنرى انها ليست استثناءً. هناك غلوٌ وتوظيفٍ سياسي سني في الاتجاه المعاكس. في الحالتين العقيدة تكتب التاريخ، فبدلاً من أن يُستخدم البحث فيه (أي التاريخ) للتحقق مما يحوي، يصاغُ ليُقدَم لنا كخادمٍ للعقيدة، يكون منطلق النظرِ فيه المُعتقد؛ وتنتفي كل علميةٍ منهجيةٍ عن البحث فيه؛ فالنتيجة مُصاغةٌ تامة قبل الدراسة.
لو كنت مؤمناً أن الإمام معصومٌ كامل العلم والعقل (وهذين مترادفين في العقيدة الاثناعشرية) وواجبٌ اتباعه فكل خارج عليه أو معارض له منقوص الإيمان ، هذا موقف عقيدي (لا طائل من الجدال فيه). لكن ربما يسبق حكمك الديني (و من ثم الأخلاقي) نظرك في التاريخ. مثلاً لا حصراً، إن رأيت إدانة هذا الصحابي أو ذاك لأنه خالف أياً من المعصومين في عقيدتك فربما تُقدم الإدانة على التحقيق في تفاصيل أفعاله، بل يصبح إلصاق كل الموبقات متاحاً، كذلك إن كان اعتقادك أن الأئمة مصداقٌ للآية القرآنية: “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” (القصص، 5) ، كما تقول عشرات النصوص في كتب الحديث الاثناعشرية، فربما ترى أن كل ظلمٍ لهم تأكيدٌ لإمامتهم حتى وإن ناقض ذلك المنطق وواقع العرب بُعيد وفاة الرسول كما أسلفنا، وصولاً إلى “جرّ الإمام علي مُلببا بحبل” (كما في رواية الطبرسي) وقتل زوجته الزهراء ثم خنوعه وسكوته ثم قبولُ المجتمع له خليفةً كأن شيئاً لم يكن. علماً أن آل البيت النبوي قطعاً ظُلموا إلى حد القتل والتمثيل بالجثث (كما جرى، مثلاً لا حصراً، مع امام الاثناعشرية الثالث الحسين حفيد الرسول وأهل بيته وأصحابه، ومع حفيده زيد بن علي بن الحسين، الذي إليه ينُسب المذهبُ الزيدي الشيعي) لكن اختزال الإمامة في المظلومية أمرٌ آخر. ثم اجمع إلى ذلك كله الحاجة إلى الإبكاء لإحياء ذكرى الأئمة وانظر ماذا ترى.
ما شهدته إيران الصفوية من طقوس لعنٍ مستمرةٍ حتى اليوم لم تكن لتظهر إلا بناء على كتابات السابقين على الدولة الاثناعشرية الخالصة الأولى في التاريخ.
غلو سني مقابل غلو شعيي: تطابق المنطق وتضاد النتائج
في الناحية السنية لا عقيدة في إمامة معصومة، العصمة تنتهي مع صاحب الرسالة، هذا ما نعرفه، لكن الضمني بين السطور أمر ٌ آخر. الأزمة مع التاريخ هنا مختلفة. ما ذكرنا من رواياتٍ تصل بعمر ابن الخطاب إلى الاستعداد للقتل درءاً للفتنة، وعليّ مهرولاً ليبايع “ما عليه إزار أو رداء”، وسعد بن عبادة مبايعاً بعد ان هُدد بالموت، كلها تنبعُ من اعتقادٍ في قدسية الجماعة. هناك عشرات الأحاديث في الصحاح السنية بهذا المعنى. مثلاً لا حصراً ، في صحيح البخاري: ” لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَماعَةِ.” و في مسند أحمد ابن حنبل “وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ.” وفي الترمذي وابن حنبل: “من فارق الجماعةَ قَيْدَ شِبرٍ فقد خلع رِبقةَ الإسلامِ من عُنُقِهِ”. بمنطق هذه الأحاديث تقوم رواية سيف بن عمر التي ذكرنا: كل الصحابة بايعوا يوم وفاة الرسول إلا من ارتد أو أوشك على الارتداد. فمن خرج على الجماعة خرج على الدين. لكنهم لم يبايعوا جميعاً ذلك اليوم، بل إن أحدهم، سعد ابن عبادة، لم يبايع أبداً. لكن هل يليق بصحابة الرسول إن كان بين أيدينا أحاديث كالتي أسلفنا أن يفتّتوا وحدة المسلمين؟ لكن الوحدة المُتوهَمة التي لا تعرف الاختلاف هذه كنزٌ ثمين لكل طغيان وهي بالضرورة مصطدمةٌ بمفهوم الشورى الموجود في القرآن (والذي قرن عمر الخلافة به حين اعتبر خلافة أبي بكر فلتة لأنها خلت من الشورى كما أسلفنا- راجع ما كتبه رضوان السيد في في كتابه “الأمة والجماعة والسلطة”).
مقابل عقيدة الامامة المعصومة في الاعتقاد الاثناعشري والإسلام السياسي الشيعي القائم عليها اليوم، دخل اعتقاد، نراه سائداً اليوم، بوحدة مبكرة تامة مقترنة بمجتمعٍ فوق-بشري إلى التراث السني، الوحدة والصلاح المطلق هنا مترادفان، وهكذا، وإن ضمناً، يستبدل توقير آل البيت إلى حد التقديس عند الشيعة (أو سلالة معينة منهم كما عند الإسماعيلية والاثناعشرية) بتقديسٍ فعلي لكل الصحابة، و بينما لا معصوم بعد الرسول عند السنة، بعد طوفان السلفية المعاصرة أصبح مجرد انتقاد أيٍ من الصحابة اليوم يعرضك في الحد الأدنى للاستهجان. لكنهم لم يكونوا أهل وحدة تامة ولا فوق الزلل؛ كانوا بشراً أصابوا وأخطأوا، إذ يستحيل بداهةً أن يكونوا جميعاً على صواب وقد حاربوا بعضهم البعض.
بل نذهب أبعد لنسأل ما المقصود تحديداً بالخلافة الراشدة والنصف الثاني من حكم الخليفة الثالث، وهو الصحابي الجليل في الرؤية السنية ومن زوجه الرسول ابنتيه، كان كارثياً كما تخبرنا كل المادة التاريخية المتوفرة، وخلافة الرابع و امام الشيعة الأول ، وهو من هو عند السنة والشيعة، فشلت سياسياً: كسب الامام علي كل معاركه وجسّد، في كل ما بين أيدينا عنه، الورع المطلق، لكنه خسر الحرب. هل المقصود التفوق الإيماني والأخلاقي؟ ولهذين مكانهما، لكن أين ذلك من عالم السياسة ؟ ربما لـ”الخلافة الراشدة” أو “عدالة الصحابة” أو “السلف الصالح” أو “الأمة” معاٍن فقهية وعقيديّة مهمة، لكن لا يستقيم عقلاً تنزيل هذه المصطلحات آلياً على التاريخي والسياسي، وإلا فما “الفتنة الكبرى” ومقتل عثمان واختلاف الصحابة وموقعة الجمل حيث لعبت احدى زوجات الرسول دوراً أساس وشارك في أحداثها ثلاثةٌ من العشرة المبشرين بالجنة ومعركة صفين وغيرها من صدامات وصولاً، إلى إقدام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان على قتل حفيد الرسول الحسين بن علي والتمثيل بجثته على يد جيش قاده ابن أحد العشرة المبشرين بالجنة: عمر ابن سعد ابن أبي وقاص. أين هو المجتمع المتحد المثالي الكامل هذا الذي عنه يتحدثون؟ وإن كان، حسب الأسطورة المريحة، ابن سبأ اليهودي الأصل هو من سبب كل الشرور والحروب والصراعات، فماذا يخبرنا ذلك عن هذا الجيل الأول؟ علماً أن من يبحث في الروايات التي يوردها الطبري عن ابن سبأ (المسمى أيضاً ابن السوداء) سيجدها آتية من سيف بن عمر، الأموي الهوى، صاحب رواية بايع “ما عليه إزار أو رداء”، مثلاً: من جملة ما يرويه أن ابن سبأ هو من ألّب أبا ذر الغفاري، وهو من هو في السبق في الإسلام وبين الصحابة، على معاوية ابن أبي سفيان وعثمان ابن عفان من وراءه، واتباعه (أي ابن سبأ) هم من أوغروا صدر صحابي جليل آخر، عمار بن ياسر ، على عثمان بن عفان أيضاً؛ فتأمل. الغرضُ واضحٌ هنا، نفي أي خطأ عن الخليفة الثالث، لا لمكانته كصحابي كبير وزوج لابنتي الرسول، لكن لكونه أموي النسب. ابن سبأ، سواء كانت أسطورته مُختلقةً أو مُضَخّمة، تنزه بني أمية خصوصاً و الصحابة عموماً، لكنها في الوقت نفسه ترميهم بسذاجةٍ أكرم لهم ألا نقبلها.
بناء على ما نقرأ من تفاصيل، مثلاً لا حصراً، في روايات الطبري وتحليلات ابن خلدون في مقدمته وتاريخه، و عباس محمود العقاد في “عبقرية عثمان”، وهشام جعيط في دراسته الهامة “الفتنة”، من ينظر في مقتل الخليفة الثالث من مقدماتٍ وفعلٍ وتبعات، لن يرى مشهداً مقسوماً ببساطة بين خيرٍ وشر، بل دولة مترامية الأطراف تشكلت في غمضة عين بمقاييس التاريخ، ومجتمعاً تدفق عليه كمٌ هائل من الثروة من تمدد هذه الدولة وتوسعها ومع ذلك مجتمع أقل انقياداً لسلطة الخليفة مما كان بُعيد وفاة صاحب الرسالة، علماً أنه لا مقارنة بين شدة عمر ولين عثمان الذي بدا ضعيفاً امام عشيرته وأن علياً برغم حزمه عجز مراراً عن السيطرة على أتباعه. غابت إذاً عن هذا الكيان الوليد آليات الحماية والسيطرة التي عرفتها دولٌ أقدم وأعرق. نقرأ مثلاً أن عثمان، كسابقه عمر لم يكن له من يحرسه، بل إن بيته كان سهل الحصار ثم الاقتحام. ثم بعد قتله، الذي كان كارثةً حقّة وسابقة بالغة الخطورة، أياً كان تقييم حكمه، نرى صراعاً داخل نفوس كبار الصحابة وغيرهم من المسلمين. في موقعة الجمل، تخبرنا روايات الطبري، أنه حارب رجال كل قبيلة ابناء عمومتهم ممن وقف على الجانب الآخر، وتردد الزبير ابن العوام وكاد يغادر تماماً ويترك قتال ابن خاله الذي كان يوماً شديد القرب له: الخليفة الرابع، لولا أن أبقاه ابنه عبد الله. ثم يوبخ الخليفةَ بعد انتصاره من قتل ابن عمته الزبير في روايتين. من جهة هذه سلطة ناشئة افتقدت آليةً فعالة للتعامل مع نزاع هائل كهذا، بدءاً بسوء إدارة الخليفة الثالث للأمور، ومن جهة أخرى هؤلاء مؤمنون تنازعهم عذاب البحث عن الصواب. فهم اعترضوا بشدة على أفعال عثمان، لكن قتله على يد مسلمين كان صاعقةً لا سابقة لها عجزوا عن احتواء آثارها، وهو عجز بمعطيات التاريخ غير مستغرب. تدبر هذا الحدث الخطير بعقل مفتوح مستحيل لمن رفع هؤلاء جميعاً فوق بشريتهم أو افترض الكمال في وحدة سياسية ما زالت في طور التشكل، وهو مغلقٌ أيضاً لمن لم يرَ في كل معارض ٍللامام إلّا سوء نية.
إقرأوا أيضاً:
العمى التاريخي سبيلاً للحركية السياسية
أول أئمة الاثناعشرية، الخليفة الرابع، اغتيل دون نجاحٍ سياسي رغم انتصاراته العسكرية، ثانيهم، الحسن ابن علي، تخلى عن السلطة لمعاوية ابن أبي سفيان، وثالثهم قُتل مع أصحابه وأهله في كربلاء، والثامن كان ولي عهد المأمون وتوفي قبل أن يلي السلطة (مسموماً من قبل المأمون العباسي الذي عينه ولياً لعهده في الرواية الشيعية)، أما الثمانية الباقين فتجنبوا السياسة، و بالرغم من ذلك مسائلة الأئمة المعصومين كنماذج سياسية أمر قد يُسائل الإيمان بالنسبة للشيعة الاثناعشرية، فالإمام هنا معصومٌ لا يخطأ ولا تخضع معايير أفعاله لتلك التي تحكم البشر العاديين. مقابل تقديس الأئمة هذا في الجانب الشيعي، سيطرة صورةٍ مُتوهمة لا تشوبها شائبة عن مجتمع المسلمين بُعيد وفاة الرسول تكلف الجانب السُني ثمناً فادحاً. هذا ما كتبه سيد قطب في كتابه “معالم على الطريق”، مصدر الإلهام لكمٍ هائل من العنف نراه اليوم تحت راية الإسلام السياسي السني (علماً أن أثر كتاباته طال الإسلام السياسي الشيعي أيضاً): ” لقد خرّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس – جيل الصحابة رضوان الله عليهم – جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعه. ثم لم تعد تخرّج هذا الطراز مرة اخرى. نعم وُجد أفرادٌ من ذلك الطراز على مدار التاريخ. ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم، في مكانٍ واحد، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة.” ثم يعود ليصف هذا “الجيل” من وجهة نظره : “”إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصةِ شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته … كما يتلقى الجندي في الميدان “الأمر اليومي” ليعمل به فور تلقيه”. روايات الوحدة التي لا يخرج عليها إلا “من ارتد أو كان من ارتد” التي نراها في تاريخ الطبري ربما رمت، إن افترضنا حسن النية، إلى حقن الدماء بأي ثمن، وربما هدفت، إن افترضنا غير ذلك، إلى السكون لحكم الأمويين ثم العباسيين، لكنها عند سيد قطب و غيره من أتباع الإسلام السياسي السني اليوم تُصبح معتقداً حركياً، وقوداً لمجتمعٍ في حالة حرب مع كل مخالفٍ ومختلف ( ارجع لما روي أنه قيل للصحابي سعد بن عبادة إن لم يبايع: “لنضربنّ الذي فيه عيناك”)، ووحدة مجتمع المحاربين أمرٌ مسلم به. الحركية عند قطب مُطلقة، صُنو الوَحدة المُقدسة، أما التفكير والتدبر فموضعُ احتقار: “منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول. ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرّج الأجيال التي تليه”؛ واضح تماماً أي جيلٍ أفضل في نظر قطب.
يرى سيد قطب إن الإسلام وأد العصبية الجاهلية؛ كتب في “المعالم” : “كان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية، وعرفها وتصورها، وعاداتها وروابطها، ينشأ من الانخلاع عن عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود. وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد، بقيادته الجديدة، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته.” الصحابي عند قطب “انفصل نهائياً من بيئته الجاهلية واتصل نهائياً ببيئته الإسلامية”. افتراض قطب أن الإسلام قد خلق مجتمعاً فوق-بشري، وهذا المجتمع هو وحده المجتمع المسلم الحقيقي وما عداه ففي “جاهلية” ومن ثَمَ كلُ سبيلٍ لا يتمثل هذا المجتمع الكامل فوق-البشري الموهوم هو كفرٌ محض. وإن اُعتبر قُطب من أقاصي يمين الإسلام السياسي، فإن وهم الوحدة هذا، وما يقترن به من رؤيةٍ للصحابة، نجده شائعاً في أدبيات الإسلام السياسي السني عموماً.
نفوذ تفكير سيد قطب وكتابه هذا بالذات لا يحتاج إشارة، وهو يتناغم مع الوهابية (التي بدورها أضحت اليوم مرادفاً للسلفية)، علماً أن “معالم في الطريق” كان يُطبع على نفقة وزارة التعليم السعودية ويودع في مكتبات مدارسها حتى قررت سحبه عام 2008. في اتساقٍ مع السلفية المعاصرة ينزه قطب مجتمع الصحابة برمته عن كل خطأ ويتغافل عن تفاوتهم بحكم السبق في الإيمان كما يقول بوضوح نص القرآن في أكثر من موضع، وكل ذلك مرتبط باعتقاده أن الجاهلية ماتت مع دخول الإسلام . لكن إن صح ذلك بصورةٍ مطلقة فلِمَ قال أبو بكر في سقيفة بني ساعدة (كما يخبرنا البخاري في صحيحه): “لن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسطُ العرب نسباً وداراً”. و إن كان ما قصد أبو بكر، أو بعض ما قصده اقتران قريش برسالة الإسلام وصاحبها الهاشمي القرشي فلهذا طبقاً لرواياتٍ رأى أنصارٌ ومهاجرون أن الأحق بالبيعة ابن عم الرسول علي بن أبي طالب. و إن كانت حسابات العصبية غابت تماماً طبقا لما رآه سيد قطب فإن مشهد السقيفة، حسب رواية من روايات الطبري، كان مما حدد نتائجه خوف الأوس من انفراد الخزرج، ممثلين بشيخهم سعد بن عبادة، بالإمارة دونهم، فأسرعوا لمبايعة أبي بكر ممثلين بشيخهم بشير بن سعد. ومن يقرأ الأحداث العاصفة التي شهدها حكم الخليفة الثالث سيرى بجلاء الدور الكارثي الذي اضطلع به أقرباؤه من بني أمية (وهو حسب رواية تحديداً ما حذره منه الخليفة الثاني حين رشحه واحداً من ستة ليختاروا من بينهم خليفة)، وعلى رأس هؤلاء مروان بن الحكم (الخليفة الأموي لاحقاً). في واحدة من هذه الروايات، حين بدء حصار عثمان بن عفان في بيته (سنة 35 هجرية) وتعرض لضغطٍ متواصل من الثوار الآتين من خارج المدينة ليترك الخلافة، وصولاً للتهديد بالقتل، كان هذا مما قاله لهم مروان بن الحكم: “جئتم تريدون أن تنزعوا ملُكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم … ارجعوا إلى منازلكم؛ فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا”. وبعد مقتل عثمان (الذي في روايات شارك فيه محمد بن أبي بكر، ابن الخليفة الأول، وفي روايات أنه كاد أن يفعل ثم تراجع) وما فتح بابه من صراعات، وتحديداً خلال ما أدى إلى موقعة الجمل وما تلاها، نسمع اعتراضات على دور قريش وكيف قررت هي منفردةً، وتحمل العرب تبعات قراراتها. هناك مثلاً بيتان ارتجلهما أحد الجرحى وهو على مشارف الموت: ” لقد أوردتنا حومة الموت أمنا * فلم ننصرف إلا ونحن رواء؛ أطعنا قريشا ضُلة من حلومنا * ونصرتنا أهل الحجاز عناء”، والمقصود ب”أمنا” أم المؤمنين السيدة عائشة، و في المعنى إرهاص بولادة الخوارج، الفرقة الثالثة بعد السنة والشيعة (أو للدقة ما عرف بهذه التسميات لاحقاً)، والتي (أي الخوارج) رفضت ضرورة امامة قريش، وقاتلت الامام علي في معركة النهروان كما هو معروف (الفرقة الباقية اليوم من فرق الخوارج المتعددة الإباضية وهؤلاء موجودون في عٌمان وشمال أفريقيا).
ليس هذا إذا مجتمع ماتت العصبية فيه، بل فقط توارت ولفترة قصيرة. هذا ما كتبه أهم المؤرخين المسلمين حين حلل أكبر مآسي القرن الأول الهجري: مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد الرسول وإمام الشيعة الثالث في كربلاء سنة 61 هجرية / 680 ميلادية، مع أهله وأتباعه، حين خرج ثائراً على الأمويين. ناظراً من خلال هذه المأساة يرى عبد الرحمن ابن خلدون (ت 1406 م)، الذي كان فقيها وقاضياً مالكياً بالإضافة إلى اشتغاله بالتاريخ، يرى قبليةً عادت إلى سابق عهدها. الخطأ هنا ليس في غياب أهلية الحسين للحكم بديلاً عن الأموي يزيد ابن معاوية ابن أبي سفيان، “فأما الأهلية فكانت [للحسين] كما ظن وزيادة” خاصة بعد ظهور “فسق يزيد للكافة”، الخطأ كان في حسابات السياسة (realpolitik )، إذ افتقد الحسين”الشوكة”. الكلام لابن خلدون (مُختصراً): “لأن عصبية [قبائل] مضر كانت في قريش وعصبية [بنو] عبد مناف [أهم بطون قريش، ومنهم أيضاً بنو هاشم] … كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس … وإنما نُسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي … فـ … ذهبت عصبية الجاهلية ونُسيت ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع … والدين فيها مُحّكم والعادة معزولة حتى إذا انقطع أمر النبوة … عادت العصبية كما كانت، ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية كما سواهم بما كان لهم من قبل ذلك”. أما الحسين فقد أخطأ “في أمرٍ دنيوي لا يضره الغلط فيه وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه”. وهو”شهيدٌ مُثابٌ وهو على حق”. وبينما يُدين ابن خلدون من قاتلوا الحسين يعتذر لمن خذلوه بالوقوف على الحياد بالخشية من الفتنة. اجتهادٌ، في نظره، لا يلاموا عليه. في حده الأقصى يعني ذلك أن “دولة” الإسلام الخالصة ماتت مع الرسول (ص) وفي حده الأدنى يعني أن أحداً، مهما اقترب، لم يتطابق معها. في قراءته، فصل ابن خلدون المقدس عن الواقع والحكم الأخلاقي عن التحليل، إلى حد الإشارة بوضوح إلى واقع مؤلم، إذ بالرغم من”فسق” يزيد “المعروف للكافة”، سحق غريمه حفيد الرسول الذي كان صاحب “الأهلية” قطعاً.
دون الانزلاق إلى أيٍ من النقيضين في أقاصي تطرفهما، وصف ابن خلدون للعلاقة العكسية (أي حيث تضعف قوة عنصر عنصراً آخر) بين النبوة والعصبية تتطابق مع مفهوم “الكاريزما” في العلوم الاجتماعية الحديثة. لا يلزم أن تكون مسلماً لترى قائداً وسياسياً ذا قدرات هائلة في شخص الرسول محمد.
بمنطق ابن خلدون وأبو علم الاجتماع الحديث ماكس فيبر معاً (والأخير هو من أصّل المفهوم)، قدرات النبي كصاحب كاريزما استثنائية، طوّعت لقيادته، لا رجال مجتمعه فحسب، بل تقاليد هذا المجتمع وعاداته، من ثم خلّف غيابه فراغاً هائلاً أربك هذه الجماعة الوليدة التي شكلتها وعرّفتها رسالته، إن لم يرعبها، وترك مجالاً للعصبية لتعاود التنفس. من يقرأ ما كُتب عن أحداث السقيفة، مرة أخرى دون انزلاق إلى شيطنة أو تقديس، سيرى بشراً افتقدوا قائدهم العظيم، وفي وقتٍ الردةُ آخذةُ في الانتشار بين العرب، هذه اللحظة استلزمت الوحدة (حتى وإن لم تأتِ مباشرةً وتركت فرداً أو أفراداً)، لكن أن يقاس عليها دوماً وأبداً فأمر آخر، ولهذا تحديداً رآها الخليفة الثاني “فلتة” يجب عدم تكرارها كما أسلفنا.
لكن الارتباك والحركات في اتجاهات متضاربة الذي نراه في الروايات التاريخية (لمن أراد قراءتها دون أحكام مسبقة، أياً كانت مصدر هذه الأحكام) تؤشر إلى حقيقة يصعب نقضها: لم يترك صاحب الرسالة وصيةً واضحة معروفة للكافة لا خلاف على معناها لا لخلافته ولا لصورة الحكم من بعده. لذلك اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة حيث كان المرشح سعد ابن عبادة قبل أن يلحق بهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، بينما رأى علي ابن أبي طالب نفسه أحق بالخلافة ومعه غيره من بني هاشم وعدد من كبار الصحابة وبعض الأنصار. و لذلك أيضاً لم يجد الخوارج غضاضةً، بعد أقل من ثلاثين عاما من وفاة الرسول، في نقض مبدأ “الأئمة من قريش” الذي حسم المشهد في سقيفة بني ساعدة. بالنسبة لصيغة الحكم وشخص الحاكم الاختلاف هو ما اتفق المسلمون عليه خلال العقود الأولى من عمر الإسلام، وهنا ولدت بذور الفرق الثلاث الكبرى، وربما لو كان قُدر لسعد بن عبادة الذي لم يبايع أحداً أن يعيش أطول لربما كان أسس فرقة رابعة.
لا يصح منطقاً إذاً نسب أي صيغة حكم إلى الإسلام، لا دولة محددة المعالم في الإسلام ليقال الإسلام “دين ودولة”، وإلا فما هذا الذي شهدته هذه اللحظات التأسيسية؟
هناك قراءات منذ وفاة صاحب الرسالة استلهمت فهمها للإسلام من ثم الاختلاف منذ اللحظة الأولى (القراءات لا بد أن تتباين)، و من ثم أيضاً الأدق أن تسمى هذه الاجتهادات “مسلمة”، لا “إسلامية”، فهي قراءات أفرادٍ مسلمين، لا نص قطعي واضح صريح في رسالة الدين. و من جهة اخرى محاولات إضفاء الشرعية على هذه المحاولات والاجتهادات والقراءات، ومعها أهواء ومصالح أهل السلطان ومن تحالف معهم، والخوف من فتنٍ لا تنتهي (في موقعة الجمل وحدها قتل الآلاف حسب الروايات الواردة في الطبري) اجتمعت كلها وإن تباينت أغراضها لتقنعنا أن هذه الصيغة أو تلك، أو حتى هذا الرضوخ أو ذاك الاستسلام، هو “الإسلامي” دون غيره، ومن ثم التكفير ضمناً او علناً لكل معارضٍ لهذا التصور أو ذاك. لكن إذا كان منطلقك عقيدة ترسم نظرتك مسبقاً، أو إيمانُ بصيغةٍ حُكمٍ في صورة معينة فهكذا سترى التاريخ وترويه: إما ملائكةٌ فوق البشر وإن قبلوا البيعة بالإكراه وهددوا بالقتل من خالفهم، أو شياطين ارتدوا حتى وصلوا إلى قتل بنت نبيهم، ولهذا ولا ذاك يستقيم منطق.