fbpx

تركيا من حلم الجمهورية الثانية إلى واقع جمهورية الرئيس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اليوم، وبعد انتخابات 2018، فقد دخل النظام الرئاسي حيز التطبيق، في خروج كامل على النظام السياسي البرلماني الذي يعود إلى لحظة تأسيس الجمهورية التركية، بحيث يمكن إطلاق صفة “الجمهورية الثانية” على النظام الجديد

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

خرج الكاتب والأكاديمي محمد آلتان، مؤخراً، من السجن، بعد نحو عامين على توقيفه. وكانت إحدى المحاكم التركية قد حكمت عليه بالسجن المؤبد بدعوى “معرفته المسبقة” بالمحاولة الانقلابية الفاشلة ليلة 16 تموز/يوليو 2016. وجاء إخلاء سبيل آلتان بناءً على قرار المحكمة الدستورية العليا التي سبق ورفضت الدعوى المقامة بحقه، لكن الجهات التنفيذية لم تخضع لقرار أعلى سلطة قضائية في تركيا، حين صدوره، ليأتي “الخبر السعيد” بعيد انتخاب أردوغان لولاية رئاسية جديدة من خمس سنوات، وفقاً للنظام الجديد الذي يجمع فيه بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة حزب العدالة والتنمية معاً.

المفارقة التي تخطر، هنا، على البال هي أن محمد آلتان هو صاحب مفهوم “الجمهورية الثانية”، الذي أطلقه في مطلع تسعينات القرن الماضي، وكان موضوعاً لنقاشات واسعة لدى الرأي العام، وتشكلت من حوله نواة مجموعة سياسية  ثقافية ليبرالية، من أبرز ممثليها، إضافة إلى آلتان، شقيقه الروائي أحمد آلتان والكاتب الصحفي الشهير جنكيز تشاندار ومحمد بارلاس وآخرون.

كانت تلك أياماً مفعمة بالآمال، بالنسبة لجيل اكتوى بنار الانقلابات العسكرية الدورية، في أواخر عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال الذي أرسى الأسس الأولى لليبرالية الاقتصادية والسياسية، وأطلق أولى المبادرات لإنهاء الحرب الداخلية بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني.

ثم دخلت تركيا، فيما تبقى من التسعينات، نفقاً مظلماً، بعد الموت الغامض لأوزال (ويقال إنه مات اغتيالاً بالسم)، فاستعرت الحرب من جديد، وشهدت أعنف فصولها في عهد رئيسة الوزراء اليمينية الأسبق تانسو تشيلر، حيث تم تدمير مئات القرى الكردية وترحيل سكانها إلى غرب تركيا، وحصلت اغتيالات استهدفت مئات النشطاء وقيدت ضد مجهولين يعرف الجميع أنهم قتلة الدولة العميقة. في هذه البيئة كان من الطبيعي أن ينكفئ أنصار “الجمهورية الثانية” بانتظار الضوء في نهاية النفق.

اقرأ أيضاً: روسيا تختبر نفسها نووياً في تركيا

جاء هذا الضوء مع الصعود المفاجئ لحزب العدالة والتنمية المؤسس حديثاً إلى السلطة، في العام 2002، بقيادة أردوغان ورفاق دربه عبد الله غل وبولند آرنج وأحمد داوود أوغلو. فرأت مجموعة الجمهورية الثانية في السلطة الجديدة فرصة لتحقيق ما حلمت به قبل عشر سنوات: استكمال الجمهورية الأولى، الكمالية، بإضفاء الديموقراطية عليها، لتنفتح تركيا على العالم وتقوض الدور المركزي شديد الوطأة لجهاز الدولة على الاقتصاد والحياة السياسية والثقافية معاً.

شكلت دعوى هذا التيار الليبرالي الذي ينحدر معظم رموزه من إرث يساري، استجابة أو صدى لتحول عالمي تمثل في الليبرالية الجديدة والعولمة اللتين قامتا على أنقاض النظام والإيديولوجيا الشيوعيتين. كانت المفارقة الغريبة أن هذا التيار من بقايا اليسار وجد ضالته في حركة ذات أصول إسلامية إخوانية صريحة. غير أن “العدالة والتنمية” أيضاً كان قد ولد بنتيجة مراجعات عميقة داخل التيار الإسلامي الذي كان يتزعمه الراحل نجم الدين أربكان، تحت وطأة الانقلاب العسكري الرابع الذي أطاح بحكومة ائتلافية كان يرأسها. فانشقت مجموعة أردوغان – غل عن الحزب الأم (حزب الفضيلة)، وأسست الحزب الجديد الذي تخلى عن إسلاميته، مسلماً بعلمانية الدولة، مقابل دمقرطة النظام وتخفيف وطأة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية، واستئناف ما بدأ في عهد أوزال من لبرلة الاقتصاد والمضي قدماً نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

“ثورة” العدالة والتنمية على الإرث الكمالي والوصاية العسكرية، قد أكلت أبناءها أو مناصريها من التيار الليبرالي

 

ما جمع الطرفين، إذن، هو الرغبة في التخلص من الإرث الكمالي شديد الوطأة من غير المساس بعلمانية الدولة كمكتسب نهائي لتركيا، ولبرلة الاقتصاد وانفتاحه على العالم من بوابة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وما سيفرضه ذلك على الحكومة من معايير بشأن الحريات السياسية واستقلال القضاء وسيادة القانون وتكييف التشريعات المحلية.

بلغ دعم جماعة الجمهورية الثانية لحكومة العدالة والتنمية ذروته، في العام 2007، إبان ترشيح عبد الله غل لرئاسة الجمهورية، والرفض الصاخب من حزب الشعب الجمهوري لهذا الترشيح الذي نظر إليه الكماليون كما لو كان اعتداءً إسلامياً على مقدساتهم. “لن نسمح بدخول زوجة غل المحجبة إلى قصر تشانكايا الرئاسي، مقر مؤسس الجمهورية” هذا ما كانه لسان حالهم في مظاهرات مليونية ملأت ساحات أنقرة وإسطنبول وإزمير. ولعب أنصار الجمهورية الثانية دوراً بارزاً في صناعة رأي عام يدافع عن حق غل في الترشح للرئاسة.

اقرأ أيضاً: فاز أردوغان مرةً أخرى، ما هو السر؟

وفي ذلك الوقت وعد أردوغان بإصدار دستور جديد مدني، على أنقاض الدستور المعمول به منذ انقلاب 12 أيلول/سبتمبر 1980 وكان يمنح المؤسسة العسكرية دور الوصاية على الحياة السياسية، بما يجعل من النظام البرلماني مجرد واجهة شكلية، ومصير الأحزاب والحكومات معلقاً بما تقرره قيادة أركان الجيش. وقد تشكلت، بالفعل، لجنة لصياغة الدستور الجديد، قدمت مسودتها للحكومة. وكان تيار الجمهورية الثانية شديد التفاؤل، آنذاك، بأن الدستور الجديد سيكون بمثابة إعلان ولادة الجمهورية الثانية التي حلموا بها. لكن الحكومة رمت بتلك المسودة في الدرج وطوت الموضوع برمته.

جرت، منذ ذلك الوقت، مياه كثيرة قلبت الأمور رأساً على عقب. ومنذ انتفاضة منتزه غزي، 2013، التي واجهتها قوات الشرطة بعنف مفرط، انفك ذلك التحالف بين الليبراليين والحكم. ثم جاءت فضائح الفساد الحكومي التي فجرتها جماعة فتح الله غولن، من العام نفسه، وواجهتها الحكومة بحرب تصفية ضدها، تواصلت فصولاً لتبلغ ذروتها في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل الذي اتهمت به جماعة الداعية المقيم في الولايات المتحدة. وهكذا تم إعلان الجماعة منظمة إرهابية، وشملت التصفيات أشخاصاً ومجموعات لا يمكن ربطهم بغولن إلا بكثير من التعسف، وبصورة انتقائية من حيث استهدفت كل من انتقد الحكم يوماً ما، ومن مختلف المواقع والاتجاهات.

من هؤلاء كان أستاذ علم الاقتصاد محمد آلتان، وأخوه أحمد الذي كان قد أسس جريدة “طرف” المناوئة للوصاية العسكرية، ولعبت دور رأس الحربة ضد ضباط اتهموا بالتخطيط لمحاولات انقلابية، مما ساعد أردوغان على إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية لتصبح تحت إمرته. ومنهم الكاتبة نازلي إلجاك التي دعمت الحكومة في وجه التيار العلماني، من خلال زاويتها في صحيفة “زمان” التي كان يمولها فتح الله غولن. وقد حكم على الثلاثة المذكورين بالسجن المؤبد بدعوى علاقتهم بجماعة غولن. وفي حين خرج محمد آلتان من السجن، بصورة مشروطة، بقي كل من أحمد آلتان ونازلي إلجاك في السجن محكومين بالحبس مدى الحياة.

يمكن تلخيص ما سبق بالقول إن “ثورة” العدالة والتنمية على الإرث الكمالي والوصاية العسكرية، قد أكلت أبناءها أو مناصريها من التيار الليبرالي، وبخاصة تيار الجمهورية الثانية.

أما اليوم، وبعد انتخابات 2018، فقد دخل النظام الرئاسي حيز التطبيق، في خروج كامل على النظام السياسي البرلماني الذي يعود إلى لحظة تأسيس الجمهورية التركية، بحيث يمكن إطلاق صفة “الجمهورية الثانية” على النظام الجديد الذي هو النقيض التام لجمهورية محمد آلتان الثانية التي حلم بها هو وزملاءه الليبراليون من أصول يسارية.

سئل الصحفي المخضرم جنكيز تشاندار الذي يعتبر من رموز تيار الجمهورية الثانية البارزين، قبل فترة وجيزة، عما إذا كان نادماً على دعمه لحكم العدالة والتنمية في سنوات صعوده، فأجاب بكثير من الأسى، بأنه ليس نادماً، ولكن لو كان له أن يعود في الزمن إلى الوراء لما أبدى كل ذلك الحماس في تأييده.

يعرف تشاندار أن الزمن لا يعود القهقرى، لذلك فقد توقف عن الكتابة في الصحافة التركية منذ سنوات، بعدما بات الإعلام، كله تقريباً، موالياً للحكم، لا يقبل بأي صوت نشاز.

اقرأ أيضاً: الليرة التركية في سقوطها الحر